العبرة العميقة في قصة قبيلة سبأ في القرآن وكيف أنهم كانوا يشكرون الله تعالى ولا يُشرِكون به ولكنهم لما أشركوا وكفروا وتبطّروا ، فوقعت العداوة بينهم وأخذوا يدعون الله أن يباعد بين محطات السفر المتقاربة بأن يباعدها الله وثم جاءهم السيل العرِم فأغرق مزارعهم وبيوتهم وتفرقوا إلى بلدان مختلفة ، وكل ذلك بسبب شركهم وكفرهم بنعم الله .
التفسيرمن كتاب المتشابه من القرآن للمفسّر الراحل محمد علي حسن الحلي رحمه الله تعالى
تفسير الآية 15 من سورة سبأ
"ثُمّ ذكر سبحانه قصة قبيلة سبأ فقال تعالى(لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ)وهم أولاد سبأ بين يعرب بن قحطان من قوم تُبع ملوك اليمن(فِي مَسْكَنِهِمْ)أي في بلدهم باليمن ، وتسمى المعارف ، وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث ساعات(آيَةٌ)أي علامة دالة على قدرة الله . ثم فسّر الآية فقال(جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ)أي عن يمين النهر وعن شماله . وكانت بساتين كثيرة ولكن لاتّصال بعضها بالبعض فكأنها جنتان وبينهما النهر جارياً وفيهما من أنواع الفواكه والأثمار ، فقلنا لهم على ألسن أنبيائنا(كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ)لمن شكر ."
تفسير الآية 16 من سورة سبأ
"(فَأَعْرَضُوا) عن الحق وعن إرشاد نبيّهم ولم يسمعوا لقوله (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) أي السيل الشديد الكثير فهدم سدهم، ويُسمى سد مأرب وموقعه باليمن ، وأغرق بساتينهم وزرعهم . فالعرِم معناه الشديد المدمر ، ومن ذلك قول عمرو بن كلثوم :
وَأَنّا الْعَاصِمُونَ إِذَا أُطِعْنْا ..... وَأَنّا الْعارِمُونَ إِذَا عُصِيناوقال جرير :
أَجِئتُم تَبَغَّونَ العُرامَ فَعِندَنا ..... عُرامٌ لِمَن يَبغي العَرامَةَ واسِعُوكان الماء يأتي أرض سبأ من أودية اليمن وكان هناك جبلان يجتمع ماء المطر والسيول بينهما وقد بنت حمير سداً بين الجبلين من الرخام فيسقون منه مزارعهم وبساتينهم عند الحاجة ، فلما كذّبوا رسولهم وتركوا أمر الله ، بعث الجرذان فحفرت في بناء السد مابين الأحجار وخلخلت السد فلما جاء السيل قوياً تهدم السد وفاضت المياه عليهم فأغرقت بيوتهم ومزارعهم وبساتينهم (وَبَدَّلْنَاهُم ) بعد ذلك (بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ) أُخريَين (ذَوَاتَيْ أُكُلٍ) أي ذواتي ثمر يؤكل (خَمْطٍ) الخمط كل ثمر حاد كالفلفل والقرنفل والكبابة الهندية وغير ذلك من التوابل . والشاهد على ذلك قول أبي ذؤيب يصف خمرة :
عُقارٌ كماء النِّيءِ ليست بِخَمْطَةٍ ..... ولا خَلَّةٍ يَكوي الشَّرُوبَ شِهابُهايعني ليست حادة كالتوابل ولاحامضة كالخل . وقال خالد بن زهير الهذلي يصف خمرة أيضاً :
ولا تَسْبِقَنْ للناسِ منّي بخَمْطةٍ ..... مِنَ السُّمِّ مَذْرورٍ عليها ذُرُورُهايعني بخمرة حادة كأنما ذرّوا عليها من السم لشدة حدتها . وقال
إِذا رأَوْا مِنْ مَلِكٍ تَخَمُّطا ..... أَو خُنْزُواناً ضَرَبُوهُ ما خَطايعني اذا رأوا من ملِك حدة مزاج وغضب ضربوه . وقال حسّان بن ثابت :
جَيشٌ عُيَينَـةُ وَاِبنُ حَـربٍ فيهِـمِ ..... مُتَخَمِّطيـنَ بِحَلـبَـةِ الأَحـزابِأي محتدّين حدة مزاج وغضب .
وقوله تعالى (وَأَثْلٍ) الأثل شجر يشبه الطرفاء ويشبه شجر الصنوبر ، واحدتها أثلة ، ومن ذلك قول الأصمعي يصف رجلاً ابتلّت ثيابه بالمطر ويتساقط منها على الأرض فقال:
كأنّكَ أثلةٌ في أرضِ هشِّ ..... أتاها وابلٌ مِنْ بعدِ رشِّ(وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ) السدر شجر النبق ، وهو على أنواع من الجودة والحجم والطعم ."
تفسير الآية 17 من سورة سبأ
"(ذَلِكَ ) إشارة الى السيل وهدم السد وتبديل الجنتين (جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا) أي بسبب كفرهم وإنكارهم لنعمتنا (وَهَلْ نُجَازِي ) بهذا الجزاء (إِلَّا الْكَفُورَ ) والمعنى لا نعاقب بمثل هذا العقاب إلا من كفر بنعمتنا وأنكر آياتنا ."
تفسير الآية 18 من سورة سبأ
"(وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ) قبل السيل وهم باليمن (وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ) بالشجر وكثرة الثمر، وهي قرى الشام التي يسيرون اليها للتجارة (قُرًى ظَاهِرَةً ) لأبناء السبيل ، لكونها على متن الطريق وأرضها مرتفعة (وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ) أي جعلنا السير من قرية الى قرية أخرى مقداراً واحداًبحيث يقيلون في واحدة ويبيتون في أخرى الى أن يصلوا إلى الشام ، وقلنا لهم بلسان الحال (سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا) يعني ليلاً شئتم السير أو نهاراً (آمِنِينَ) من الوحش ومن سرّاق الطريق ومن الجوع والعطش . ثم أخبر الله عنهم بأنهم بطروا نعمتهم وكفروا بها ."
تفسير الآية 19 من سورة سبأ "(فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا) وذلك لما وقع بينهم من عداوة ومشاجرة ، فأرسل الله الوحوش في طريقهم فقطعته عليهم فأخذوا يسيرون في طريق آخر تبعد لهم وتشق عليهم (وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ) بإرتكاب المعاصي (فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ) لمن بعدهم يتحدثون بشأنهم ويضربون بهم الأمثال فيقولون لمن تشتت شملهم "تفرقوا كأيادي سبأ" (وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) أي فرقّناهم في كل جهة من البلاد (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ) أي لعبراً وعلامات (لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) للنعم يفهم هذه الأمثال ويعقلها .
وكانوا عشر قبائل أولاد سبأ ،
تيامن منهم ستة : وهم حمير ، وكندة ، وأشعر ، والأزد ، ومزحج ، وأنمار .
وتشاءم منهم أربعة : وهم غسان بالشام ، وجذام بتهامة ، ولخم بعمّان ، وعاملة بيثرب ويقال لهم الأزد ، ومنهم الأوس والخزرج إبنا عمرو بن مزيقيا بن عامر ماء السماء بن حارثة بن إمرئ القيس البهلول بن الأزد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان .
وكان بيت الملك الأعظم فيهم حمير الملوك التبابعة آخرهم تُبع الأصغر عمرو بن حسان وبعده بلقيس ثم ياسر بن عمرو ، ثم أزال الله عنهم الملك بما تقدم من تمزيقهم الذي كان بين زمن عسيى ومحمد عليهما السلام . وملكَ اليمن بعدهم الحبشة ثم فارس إلى أن جاء الأسلام ورجع الأمر إلى قريش ."