قصة معركة جنين
نقلاً عن كتاب اللواء الركن محمود شيت خطّاب (طريق النصر في معركة الثأر)
ص 69-72
"كان في نية الجيش العراقي أن يهاجم (ناتانيا) القريبة من (تل أبيب) ، وكان يحشد قطعاته في (دير شرف) بين (جنين) وبين (نابلس) .
وعلِم جيش إسرائيل بطريقة ليست معروفة بالضبط حتى الآن ، عن نيات الجيش العراقي ، فهاجم مدينة (جنين) في المثلث العربي ، وكان فيها حامية عراقية صغيرة من الفوج الآلي العراقي .
لقد أراد جيش إسرائيل بمهاجمته مدينة (جنين) ، أن يجبر الجيش العراقي الذي كانت تلك المدينة في المنطقة التي تقع ضمن مسؤولياته ، أن يترك خطته الأصلية : لشطر إسرائيل إلى قسمين ، وتسديد طعنة قاضية إلى قلب إسرائيل ، والانشغال بإنقاذ (جنين) من براثن جيش إسرائيل ، وبذلك تتوزع قطعات الجيش العراقي في منطقة واسعة ، وتنقلب خطتها الهجومية إلى خطة دفاعية ، وتنتشر قطعات الجيش العراقي في منطقة واسعة ، فيعجز عن حشد قواته في منطقة محدودة لمواصلة خططه التعرضية على الأهداف الحيوية في إسرائيل !
.. فنجحت إسرائيل في صرف نظر الجيش العراقي عن هدفه السوقي وهو مدينة (ناتانيا) .
على كل حال ، فقد كان في (دير شرف) فوج مشاة عراقي هو الفوج الثاني من اللواء الخامس ، إذ لم تكن القطع العسكرية العراقية الأخرى قد أكملت تحشّدها في منطقة (دير شرف ) يوم هاجم يهود بقوات متفوقة مدينة (جنين) .
وبدأت سيول اللاجئين من أهل (جنين) رجالاً ونساءً ، شيوخاً وأطفالاً تتدفّق على طريق جنين - نابلس ، ومنظرها يفتّت الأكباد .
وصدر الأمر إلى الفوج العراقي بالحركة لإنقاذ مدينة (جنين) ، وكان وقت صدور الأمر إليه ليلاً .
وتحرّك الفوج العراقي وبإسناده بعض المدفعية باتجاه (جنين) فوراً "
"ولم يكن أحد من منتسبيه ضباطاً ومراتب وجنوداً يعرف منطقة (جنين) ، ولم يكن في مقر الفوج خريطة عسكرية لمنطقة (جنين) ، وكانت حركته ليلاً ، تزيد من حماسة رجاله مآسي تدفق اللاجئين .
وأنزل الفوج منتسبيه قرب مفرق (عرّابة) ، ولكن أحد اللاجئين ذكر له أن مدينة (جنين) بعيدة ، وأنّ عليه أن يعيد إركاب رجاله لإنزالهم قريباً من هدفهم (جنين) .
واستعان الفوج العراقي بأدلاء من اللاجئين ، ثم أنزل رجاله في مفرق (قباطية) ، وبدأ زحفه باتجاه (جنين) ليلاً .
وتقدّمت سرية على يمين طريق مفرق قباطية - جنين ، وتقدّمت سرية أخرى على يسار هذا الطريق ، وتقدمت سرية الاحتياط ومقر الفوج على يمين ويسار الطريق ، وأخذت سرية الإسناد برشاشاتها الثقيلة وبهاوناتها تسند تقدم الفوج بدون رصد وبدون رؤية للعدو .
لقد كان مع السرايا الأمامية ضباط صف (سيطرة) من سرية الإسناد ، ولكنهم لم يكونوا يعرفون المنطقة وظلام الليل يحرمهم من كل رؤية للأهداف المعادية .
واستمر تقدم الفوج ، واستمر إسناد سرية الإسناد .
وكان زحف الفوج سريعاً ، وكان يتقدم في أكثر الأحيان هرولةً ، فلما فتح يهود نيرانهم على المهاجمين كشفوا مواضعهم الأمامية التي كانت على الهضاب الكائنة جنوبي (جنين) .
ولم يبدُ الفجر الأول ويتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود ، إلا وكان الفوج العراقي قد
طرد القطعات الإسرائيلية من مواضعها في هضاب (جنين) .
وانحدر الفوج العراقي مع الفجر إلى مدينة (جنين) ، وكانت أسراب جيش إسرائيل تفرّ مذعورة أمامه ، وكانت تجمعاتها أهدافاً صالحة جداً لنيران الرشاشات الخفيفة والثقيلة ولقنابل الهاونات وقنابل المدفعية ، وبقي العراقيون بتماس شديد مع يهود حتى تركوا (جنين) وحتى غادروا الراقم (152) الواقع على مسافة ثلاثة كيلومترات من شمالي (جنين) .
وترك يهود في ساحة المعركة قتلى كثيرين لا يقلّون عن ألف قتيل ، وتركوا وراءهم كميات كبيرة من الأسلحة والعتاد والتجهيزات .
ووصلت فلول يهود إلى مدينة (العفولة) ، ففرّ أهلها يسابقون الريح ... ووصلت أخبار اندحار يهود إلى (حيفا) ، فغادرها كثير من يهود بحراً .
كانت قوات يهود في (جنين) حوالي عشرة آلاف مقاتل ومعهم بعض الدروع ، وكان موجود الفوج العراقي مع المدفعية التي في إسناده لا يزيد عن ثمانمائة وخمسين رجل !ّ!
وقد خلف يهود من الأسلحة والعتاد وراءهم ما يزيد على أسلحة الفوج العراقي وعتاده !
وقد كانت خسائرهم من القتلى ، أكثر من موجود القوة العراقية .
وقد فقد كثير من يهود الهاربين عقلهم إلى الأبد .
وخلت (العفولة) من سكانها ، وغادر يهود القاطنون بين (العفولة) و(حيفا) قراهم وحصونهم .
وقامت المظاهرات الصاخبة في أرجاء إسرائيل مطالبة حكومتها بالصلح مع العرب مهما كلف الأمر وبدون قيد أو شرط.
في ذلك الوقت بالذات تدخّل الساسة العرب ، فأوقفوا تقدّم الجيش العراقي نحو (العفولة) الخالية من الناس .
وفي هذا الوقت بالذات أيضاً تدخّلت الدول الاستعمارية لفرض الهدنة على العرب .
ووافق ساسة العرب طوعاً أو كرهاً على قبول الهدنة ...
وبقي الجنود العراقيون كالأسود في قفص حديقة الحيوانات ، يحرقون أعصابهم غضباً وحسرة ، ولا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً ..
ص 127 وما بعدها :
"في يوم من أيام خريف عام 1948 ، هاجمت دورية قتال يهودية ليلاً قرية (جلبون) المشرفة على غور (بيسان) والواقعة ضمن قطاع (جنين) ، فأسرت ستة رجال وامرأتين ، واستصحبتهم معها إلى مدينة (بيسان) .
فقام ضابط عراقي في مقر قوة منطقة (جنين) بتحريك مدفع واحد عيار (3/7) جبلي مع ست عشرة قنبلة ، وقصف مستعمرة (تل العمال) حيث قصفها بعد غروب الشمس بساعة .
فاطفئت أنوار المستعمرة بعد وصول القنبلة الأولى إليها ، وعلا الضجيج والصراخ في أرجائها ، وأخذت السيارات تنطلق منها مسرعة إلى خارجها بما تحمله من هاربين .
وأطفأت المستعمرات الأخرى الكائنة في غور (بيسان) أنوارها أيضاً ، وأطفأت بيسان أنوارها هي الأخرى ، فأصبحت المنطقة كلها في ظلام دامس .
وانسحب المدفع مع رجاله إلى موضعه الأصلي في منطقة (جنين) ، واحتلّت قوة مناسبة مواضع مناسبة لحماية (جلبون) من غارة محتملة يشنها يهود ليلاً .
ولم يحل عصر اليوم التالي إلا وكان الرجال الستة والمرأتان بين أهليهم في (جلبون) .
ولم يعد يهود يتجاسرون على مهاجمة القرى العربية ...
وعاد الجيش العراقي إلى العراق ، ولم يتكرر [في تلك المنطقة الفلسطينية] مثل هذا الحادث .
واستمر الظلام يلف تلك المناطق واستمر خوف اليهود أسبوعين كاملين ، فلما اطمأنوا عادوا إلى سيرتهم الأولى ." إنتهى .