لماذا اعتزل الامام موسى الكاظم الإمامة؟ ولماذا اتخذ موقفا سلبيا من ثورة الحسين شهيد فخ؟
ان الانتقال للقول بإمامة موسى الكاظم (128 – 183)، لم يحل الأزمة، فقد كان الكاظم شابا يبلغ من العمر عشرين عاما عند وفاة والده الصادق وأخيه عبد الله، ولم يكن – كما قلنا آنفا - يتمتع بنص معروف وواضح من أبيه عليه بالإمامة، إضافة إلى أنه لم يدَّعِ الإمامة ولم يسعَ إليها، وفضل الاعتزال والهدوء. بالرغم من الروا...يات التي ألفها بعض "الإمامية" حوله فيما بعد، وقد اعترف هشام بن سالم الجواليقي (الذي أسس لإمامة الكاظم الدينية) بأن الأخير لم يكن يجرؤ على الدعوة إلى نفسه أمام الملأ، وبصراحة، وادعى أن الكاظم كان يقوم بذلك سراً للتقية. (راجع: الصدوق، إكمال الدين، ص 361 والأمالي، ص 338 و الكليني، الكافي، كتاب الحجة، باب من ادعى الإمامة وليس لها بأهل .. ح رقم 19 و ج 1 ص 351، والمفيد، الإرشاد، ص 291، والصفار، بصائر الدرجات، ص 250 – 252، والكشي ، الرجال، ترجمة هشام بن سالم)
وقد سبق لنا التعرف على منطق الغلاة الباطنيين الذين كانوا يغلفون مقولاتهم الخاصة المناقضة لمواقف وأقوال "الأئمة" دائما، بالتقية. ولكن سيرة الكاظم في السنوات التالية كشفت حقيقة دعوى "الإمامية" (من أمثال هشام بن سالم الجواليقي ومؤمن الطاق، وأبي بصير) حيث ظل الكاظم متمسكا بموقف الاعتزال السياسي. وحسبما يقول الشيخ محمد بن علي الصدوق (شيخ الطائفة الإمامية في القرن الرابع الهجري) فقد ظل الكاظم منعزلا وكاتما لأمره، وإن الشيعة لم تكن تختلف إليه، وإنه كان يأمر الشيعة بطاعة السلاطين على كل حال، فان كانوا عدولا فليسألوا الله إبقاءهم، وان كانوا جائرين فليسألوا الله صلاحهم. ( الصدوق، إكمال الدين، ص 361 والأمالي، ص 338 ) ويفترض بعض الكتاب الشيعة أن الكاظم كان يمارس قيادة سرية ويعد للثورة على هارون الرشيد الذي اعتقله، بتهمة جمع المال والسلاح، بناء على وشاية من ابن أخيه محمد بن إسماعيل، وربما كان ذلك صحيحا ولكنه لا يحمل دلالة على ادعاء "الإمامة الدينية".
ومن هنا فقد انصرف عامة الشيعة في أيام موسى الكاظم وأيام أبي جعفر المنصور، إلى الإمام عيسى بن زيد بن علي، وهو متوارٍ في العراق، وبايعوه سراً بالإمامة، في عام 156هـ وجاءته بيعة الأهواز وواسط ومكة والمدينة وتهامة، واثبت دعاته فبلغوا مصر والشام. واتفق مع أصحابه على الخروج بعد وفاة المنصور، فمات عيسى مسموما بسواد الكوفة سنة 166 في أيام الخليفة العباسي المهدي بن المنصور (158- 169هـ). فحمل الراية الإمام الحسين بن علي بن الحسن (المعروف بالمثلث) "صاحب فخ" الذي قام بثورة في المدينة سنة 169هـ في أيام الخليفة العباسي موسى الهادي (169- 170هـ) الذي أمر واليه على المدينة بالتشديد على أهل البيت والتنكيل بهم وإلزامهم بالإقامة الجبرية، والعرض عليه يومياً خشية خروج أحدهم أو قيامه بثورة. فاستولى الحسين "صاحب فخ" على المدينة، ودعا إلى كتاب الله وسنة رسول الله والى الرضا من آل محمد والعدل في الرعية والقسم بالسوية، وطلب من الكاظم المبايعة فاعتذر منه قائلا:"يا ابن عم لا تكلّفني ما كلّف ابن عمك (محمد بن عبد الله ذو النفس الزكية) عمَّك أبا عبدالله (الصادق)، فيخرج مني ما لا أريد، كما خرج من أبي عبدالله ما لم يكن يريد". فقال له الحسين: إنّما عرضت عليك أمراً فان أردته دخلت فيه. وإن كرهته لم أحملك عليه والله المستعان، ثم ودّعه. (الكليني، الكافي، الأصول، ج 1، ص 366)
وبعد مقتل الحسين "صاحب فخ" قرب مكة ، حمل الإمام يحيى بن عبدالله ابن الحسن ، راية الثورة على الخليفة العباسي هارون الرشيد، فطلب من موسى بن جعفر أن ينصره، ولما رفض كتب إليه يستنكر عليه خذلانه له ويقول له :" أما بعد ... خبَّرَني من ورد علي من أعوان الله على دينه ونشر طاعته ، بما كان من تحننك مع خذلانك وقد شاورت في الدعوة للرضا من آل محمد (ص)، وقد احتجبتها واحتجبها أبوك من قبلك، وقديما ادعيتم ما ليس لكم، وبسطتم آمالكم إلى ما لم يعطكم الله فاستهويتم وأظللتم، وأنا محذرك ما حذرك الله من نفسه" . فكتب إليه الكاظم:" من موسى بن أبي عبد الله ... إلى يحيى بن عبد الله بن الحسن أما بعد.. فإني أحذرك الله ونفسي، وأعلمك أليم عذابه، وشديد عقابه، وتكامل نقماته وأوصيك ونفسي بتقوى الله، فإنها زين الكلام، وتثبيت النعم، أتاني كتابك، تذكر فيه أني مُدَّعٍ وأبي من قبل ، وما سمعت ذلك مني ، وستكتب شهادتهم ويسألون، ولم يدع حرص الدنيا ومطالبها لأهلها مطلبا لآخرتهم، حتى يفسد عليهم مطلب آخرتهم في دنياهم. وذكرت أني ثبطت الناس عنك لرغبتي فيما في يديك، وما منعني من مدخلك الذي أنت فيه لو كنت راغبا ضعفٌ عن سنَّة، ولا قلةُ بصيرةٍ بحجة، ولكن الله تبارك وتعالى خلق الناس أمشاجا، وغرائب، وغرائز ... وأنا متقدم إليك أحذرك معصية الخليفة، وأحثك على بره وطاعته، وأن تطلب لنفسك أمانا قبل أن تأخذك الأظفار، ويلزمك الخناق من كل مكان تتروح إلى النفس من كل مكان ولا تجده، حتى يمنَّ الله عليك بمنه وفضله، ورقة الخليفة أبقاه الله، فيؤمنك ويرحمك، ويحفظ فيك أرحام رسول الله (ص) والسلام على من اتبع الهدى " إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى ". (الكليني، الكافي، كتاب الحجة، باب من ادعى الإمامة وليس لها بأهل .. ح رقم 19) ورغم وضوح الرسالة ونفي الكاظم ادعاءه بالإمامة، ودعوته ليحيى بالطاعة للخليفة (العباسي هارون الرشيد)، إلا أن بعض الشيعة المتأخرين فسروا هذه الرسالة بالتقية، أو ترجيحه احتمال وقوع الكتاب في أيدي السلطة العباسية، تبعا للمنطق الباطني الذي يفسر الأمور دائما بشكل معاكس. كما فسر بعض الشيعة دعوة الكاظم ليحيى بطاعة الخليفة بأنه يقصد نفسه كخليفة شرعي معين من قبل الله، رغم ابتعاد السياق العام للرسالة عن هذا المفهوم.
ومما يؤكد عدم تبني الكاظم لنظرية "الإمامة الإلهية" انتماء معظم أبنائه للخط الزيدي (أو التشيع السياسي العلوي)، إضافة إلى أخيه محمد بن جعفر الصادق المعروف بـ "الديباج" الذي خرج في مكة سنة 199 للهجرة ، وتلقب بأمير المؤمنين.
=========================================
كيف قامت الدعوة الى امامة الكاظم؟ ولماذا ذوت نظرية "الإمامة الإلهية" في عهده، وكادت تنطفئ بعد وفاته؟
أ - روايات النص على الكاظم
بالرغم من اعتزال الإمام موسى الكاظم السياسة ورفضه ادعاء الإمامة، وبالرغم من الغموض الذي كان يلف قضية الخلف بعد الإمام الصادق، ووفاة زرارة دون معرفة الإمام الجديد، وذهاب أقطاب النظرية الامامية إلى القول بإمامة عبدالله الأفطح، فان فريقا من "الامامية" التف حول الكاظم، وح...اول أن يجعل منه رمزا لنظرية "الإمامة الإلهية" و"إماما" في سلسلة الأئمة "الربانيين" المنصوص عليهم، التي كان يجب أن تستمر إلى يوم القيامة. وحاول هذا الفريق أن يأتي بنصوص تثبت إشارة الإمام الصادق إلى ابنه الكاظم. وقد ذكر الكليني في "الكافي" والصفار في "بصائر الدرجات" والصدوق في ¬"عيون أخبار الرضا" والمفيد في "الإرشاد" حوالي ستة عشر نصا تتراوح بين الإشارة الغامضة والتأكيد الصريح الواضح .
فقد ادعى الفيض بن المختار: أن الصادق أشار إلى الكاظم منذ أن كان طفلا صغيرا. وأنه قال لأبي عبد الله: مَن لنا بعدك؟ فقال: هذا صاحبكم، فتمسك به، وأشار إلى الكاظم. وروى معاذ بن كثير، أنه قال لأبي عبد الله: أسألُ الله الذي رزق أباك منك هذه المنزلة أن يرزقك من عقبك قبل الممات مثلها، فقال: قد فعل الله ذلك. قال: من هو؟ فأشار إلى العبد الصالح (الكاظم) وهو راقد فقال: هذا الراقد، وهو غلام. كما قال عبد الرحمن بن الحجاج إنه سأل جعفر بن محمد: من ولي الناس بعدك؟ فقال: إن موسى قد لبس الدرع وساوى عليه، فقال عبد الرحمن: لا أحتاج بعد هذا إلى شئ. وقال المفضل بن عمر إن أبا عبد الله قال له:"استوصِ به، وضع أمره عند من تثق به من أصحابك". وروي عن إسحاق بن جعفر الصادق أنه قال: كنت عند أبي يوما، فسأله علي بن عمر بن علي فقال: جعلت فداك إلى من نفزع ويفزع الناس بعدك؟ فقال: إلى صاحب الثوبين الأصفرين والغديرين - يعني الذؤابتين - وهو الطالع عليك من هذا الباب، يفتح البابين بيده جميعا، فما لبثنا أن طلعت علينا كفان آخذة بالبابين ففتحهما، ثم دخل علينا أبو إبراهيم (الكاظم). وعن صفوان الجمال: أن منصور بن حازم سأل أبا عبد الله: بأبي أنت وأمي إن الأنفس يُغدا عليها ويُراح، فإذا كان ذلك فمَن؟ فقال أبو عبد الله: إذا كان ذلك فهو صاحبكم وضرب بيده على منكب أبي الحسن الأيمن - في ما أعلم - وهو يومئذ خماسي (عمره خمس سنوات) وعبد الله بن جعفر جالس معنا. وقال أيضا:"عليكم بهذا، فهو والله صاحبكم بعدي". وعن عيسى بن عبد الله، أنه سأل أبا عبد الله، نفس السؤال، فأومأ إلى ابنه موسى. وعن فيض بن المختار: أن أبا عبد الله قال له: هو صاحبك الذي سألت عنه، فقم إليه فأقرَّ له بحقه، فقمت حتى قبلت رأسه ويده ودعوت الله عز وجل له. وروى "الإمامية" عن الكاظم أنه رفض الاعتراف بإمامة أخيه الأفطح، وعندما قال له أحد أصحابه: إني أحتج عليك عند الله يوم القيامة أنك زعمت أن عبد الله لم يكن إماما، وضع يده على عنقه، ثم قال له:" نعم احتج عليَّ بذلك عند الله عز وجل فما كان فيه من إثم فهو في رقبتي". ( الكليني، الكافي، كتاب الحجة، باب الإشارة والنص على أبي الحسن، ح رقم1و2و3و4و 5 و6 و12و7و9 و باب ما يضل به بين دعوى المحق والمبطل في أمر الإمامة، ح رقم 10)
ولكن هذه الروايات لم تكن معروفة ولا ثابتة ولا منتشرة بين الشيعة الجعفرية ولا حتى "الإمامية" من قبل، ولذلك ذهب عامة الفقهاء الشيعة إلى عبد الله الأفطح، واحتار البقية لعدم معرفتهم الإمام الجديد، وهذا ما يعزز احتمال وضع هذه الروايات من قبل الدعاة لموسى الكاظم من بعد، ومحاولة الإيحاء بوجود النص عليه من الصادق من قبل.
ب - دليل المعاجز
ولما لم تكن النصوص التي أوردها "الإمامية - الموسوية" مقنعة وكافية، فقد لجئوا إلى سلاح المعاجز وعلم الغيب ليثبتوا وجود الارتباط الخاص للإمام الكاظم بالسماء، وتحديده من بين اخوته كوريث شرعي ووحيد، وفي هذا يقول أبو بصير أنه ذهب إلى الإمام الكاظم وسأله قائلاً¬: جعلت فداك بمَ يُعرف الإمام؟..قال : بخصال : أما أولاهن فانه بشيء قد تقدم من أبيه وإشارته إليه ليكون حجة، ويُسأل فيجيب وإذا سكت عنه ابتدأ، ويخبر بما في غدٍ ويكلم الناس بكل لسان. ثم قال : يا أبا محمد إن الإمام لا يخفى عليه كلام أحد من الناس ولا منطق الطير ولا كلام شيء فيه روح ، فمن لم يكن هذه الخصال فيه فليس هو بإمام .
وتأكيدا لتلك الدعوى الأسطورية المغالية روى "الموسوية" روايات كثيرة تزعم أن الكاظم كان يعلم متى يموت الرجل ويخبر أصحابه بذلك، كما كان يخبرهم بمصائرهم في المستقبل. وأنه كان يفعل "المعاجز" فيخرج من الحبس ببغداد ويحطم الأغلال ويخترق الجدران، ويذهب من بغداد إلى المدينة المنورة ويعود إليها في نفس الليلة، ويطبع خاتمه في حصاة، ويتكلم بلغات أجنبية من دون تعلم ، ويدخل النار ولا يحترق، ويقوم بإحياء بقرة ميتة. وما إلى ذلك من "المعاجز". (- الكليني، الكافي، ج 1 ص 356، والصفار، بصائر الدرجات، ص 255، والصدوق،عيون أخبار الرضا، ص 104، والمفيد، الإرشاد، ص 293، والقطب الراوندي، الخرايج والجرايح، والنوري الطبرسي، خاتمة المستدرك، ص 565)
وانفرد أبو بصير برواية خاصة، تتحدث عن معجزة للكاظم في الدقيقة الأولى من ولادته، وهو سقوطه من بطن أمه واضعا يديه على الأرض، رافعا رأسه إلى السماء، وقول الصادق لأمه حميدة بأن ذلك أمارة الوصي من بعده.
ولكن هذه الحكايات الأسطورية كانت تواجه برفض شديد من الكاظم نفسه، الذي لم يكن يدعي علما بغيب، ولا إتيانا لمعجزة. وعندما أخبره يحيى بن عبدالله بن الحسين : أن بعض الغلاة يدعي علمه (أي علم الكاظم) بالغيب، أنكر ذلك وقال:" سبحان الله! ضع يدك على رأسي فوالله ما بقيت في جسدي شعرة ولا في رأسي إلا قامت" . وأعرب الكاظم عن استيائه من حركة التزوير التي يقوم بها بعض الغلاة المندسين في أنصاره، فقال:" لو ميزت شيعتي لم أجدهم إلا واضعة (أي يضعون الحديث) ولو امتحنتهم لما وجدتهم إلا مرتدين ولو محصتهم لما خلص من الألف واحد !!!".
وقد استغل "الإمامية" غياب الكاظم في السجن بضع سنين لينسبوا إليه ما يشاءون حتى لو كان مخالفا بصراحة لما عرف عنه، كما فعل "علي بن سويد السائي" الذي ادعى أنه كتب إلى الكاظم رسالة وأنه أجابه برسالة ورد فيها:" لا تقل لما بلغك عنا أو نسب إلينا: "هذا باطل" . وإن كنت تعرف خلافه، فانك لا تدري لِـمَ قلناه وعلى أي وجه وصفناه، آمن بما أخبرتك ولا تفشِ ما استكتمتك". ) الخوئي، معجم رجال الحديث، رقم 8202 عن الكشي في ترجمة: علي بن سويد السائي)
ج - استمرار الغلو
ولو فتشنا هويات من كان يدعي الانتماء إلى شيعة موسى الكاظم في ذلك الوقت، لعثرنا على كثير من الغلاة في صفوفهم، وخاصة "المفوضة" أو "المفضلية" (أتباع المفضل بن عمر) الذي لعنه الإمام الصادق، ولكنه التف حول الكاظم وادعى النص عليه من أبيه الصادق، كما التف "الخطابية" حول إسماعيل وأنكروا وفاته في حياة أبيه، وادعوا وجود النص عليه. وكذلك "البشرية" (أتباع محمد بن بشير) الذي لعنه الكاظم لأنه كان يقول فيه بالربوبية، ويدعي لنفسه النبوة. وقد كان هذا يكذب على الكاظم في حياته، ويحاول أن يدس نفسه في شيعته، فانتبه إليه الكاظم، ولعنه وسأل الله أن يذيقه حر الحديد، وأباح دمه، حتى أشار على أحد أصحابه بقتله.
وقال الكاظم لعلي بن أبي حمزة البطائني:" لعن الله محمد بن بشير وأذاقه الله حر الحديد، إنه يكذب عليَّ.. برئ الله منه، وبرئت إلى الله منه، اللهم إني أبرأ إليك مما يدعيه فيَّ ابن بشير، اللهم أرحني منه، ثم قال: يا علي ما أحد اجترأ أن يتعمد علينا الكذب إلا أذاقه الله حر الحديد، وإن بنانا كذب على علي بن الحسين عليه السلام فأذاقه الله حر الحديد، وإن المغيرة بن سعيد كذب على أبي جعفر عليه السلام فأذاقه الله حر الحديد، وإن أبا الخطاب كذب على أبي فأذاقه الله حر الحديد، وإن محمد بن بشير لعنه الله يكذب عليَّ برئت إلى الله منه، اللهم إني أبرأ إليك مما يدعيه فيَّ محمد بن بشير، اللهم أرحني منه، اللهم إني أسألك أن تخلصني من هذا الرجس النجس محمد بن بشير فقد شارك الشيطان أباه في رحم أمه". ( الكشي، ترجمة محمد بن بشير)
واعتبر الإمام الكاظم القائلين بالتناسخ (كالبشرية) كفارا، ولعنهم، ثم قال:" ألا كانوا مجوسا، ألا كانوا نصارى، ألا كانوا قدرية، ألا كانوا مرجئة، ألا كانوا حرورية". وحذر شيعته منهم قائلا:" لا تقاعدوهم ولا تصادقوهم وابرءوا منهم، برئ الله منهم".
ولكن محمد بن بشير لم يأبه لموقف الكاظم منه، وظل يكذب عليه في حياته وبعد وفاته، فقد استغل مناسبة وفاة الإمام الكاظم بصورة غامضة في سجن الرشيد في بغداد سنة 183 هـ، لينخرط في صفوف "الواقفية" الذين قالوا بغيبة الإمام وهروبه من السجن، وأنه لم يمت وهو القائم المهدي. فادعى أن موسى بن جعفر استخلفه في وقت غيبته على الأمة وجعله وصيه وأعطاه خاتمه، وعلَّمه جميع ما تحتاج إليه رعيته من أمر دينهم ودنياهم، وفوض إليه جميع أمره وأقامه مقام نفسه، وأنه الإمام من بعد الكاظم. ويقول الكشي:"كان عنده صورة قد عملها وأقامها شخصا كأنه صورة أبي الحسن (الكاظم) من ثياب حرير، وقد طلاها بالأدوية وعالجها بحيل عملها فيها حتى صارت شبيها بصورة إنسان، وكان يطويها فإذا أراد الشعبذة نفخ فيها فأقامها، فكان يقول لأصحابه: إن أبا الحسن عندي، فإن أحببتم أن تروه وتعلموه أني نبي فهلموا أعرضه عليكم، فكان يدخلهم البيت والصورة مطوية معه فيقول لهم: هل ترون في البيت مقيما أو ترون غيري وغيركم ؟ فيقولون: لا وليس في البيت أحد، فيقول: فاخرجوا، فيخرجون من البيت فيصير هو وراء الستر ويسبل الستر بينه وبينهم، ثم يقدم تلك الصورة ثم يرفع الستر بينهم وبينه، فينظرون إلى صورة قائمة وشخص كأنه شخص أبي الحسن لا ينكرون منه شيئا، ويقف هو منه بالقرب فيريهم من طريق الشعبذة أنه يكلمه ويناجيه ويدنو منه كأنه يساره، ثم يغمزهم أن يتنحوا فيتنحون، ويسبل الستر بينه وبينهم فلا يرون شيئا". الكشي، ترجمة محمد بن بشير.
لقد ذوت نظرية "الإمامة الإلهية" في عهد الكاظم، وكادت تنطفئ بعد وفاته سنة 183 هـ خصوصا وأن شيعته لم يعرفوا أي نص منه على أحد من ولده بالإمامة. وذهب الكثير منهم إلى اعتناق المذهب الزيدي (أو بالأحرى التشيع العلوي السياسي) الذي لا يحصر الإمامة في سلالة معينة أو أشخاص معينين، وإنما يثبتها لمن يخرج من آل محمد ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. ولذلك قام جمع من أصحاب الكاظم وأبنائه في المدينة بالاجتماع عند باب أم أحمد (زوجة الكاظم) وبايعوا ابنها أحمد. )الكليني، الكافي، ج 1 ص 381 – 382(