ليعلم كلّ إنسان عاقل أنّ المادّيات لا تبقى على حالتها مدى الأيّام ، بل تأخذ في الخراب والتهدّم وذلك على مرّ السنين ، والمعنى أنّ كلّ جرم مادّي حجراً كان أم حديداً أم خشباً أو أيّ جسم حيّ كأجسام الحيوان والإنسان أو غير ذلك فلا بدّ أن يتهدّم ويتمزّق ، وإن كان أقوى الأجسام وأصلبها ، مثلاً نرى الحديد صلباً قوياً ولكن مع صلابته يكون سريع التأكسد ، فإذا دفنّا قطعة منه تحت التراب فبعد سنة نراها تآكلت وتفتّتت وأصبحت كالتراب ، وكذلك لو أخذنا حجراً من الأحجار وسخّنَّاه لتفتّت وصار كالتراب مهما كان قوياً .
وكذلك جسم الإنسان فإنّه صائر إلى الهرم والخراب وإن طالت حياته ، فالمادّيات إذاً صائرة إلى الخراب والزوال ، قال الله تعالى في سورة الرحمن{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ . وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} والمعنى أنّ الحياة المادّية لَها نهاية وكلّ جسم على الأرض من المادّيات يتمزّق ويتلاشى ، فكلمة (فَانٍ) معناها النهاية ، والشاهد على ذلك قول الأعشى :
أكلتُ السنامَ فأفنيتُهُ وشدّ النسوع بِأصلابِها
فقول الشاعر "فأفنيتُهُ" ، يعني أتممتُه فلم أُبقِ منه شيئاً ، وقال حسّان قبل إسلامه :
فاشربْ مِنَ الخمرِ ما أتاكَ مشربُهُ واعلمْ بِانّ كلّ عيشٍ صالحٍ فانِ
أي زائل .
وأمّا قوله {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ..الخ} فالوجه يريد به الجهة ، كقوله تعالى في سورة البقرة{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُو مُوَلِّيهَا} وقوله أيضاً {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ} فالوجه يريد به الجهة ، ومن ذلك قول أميّة بن أبي الصّلت :
إذا اكتسبَ المالَ الفتى مِنْ وجوهِهِ وأحسَنَ تدبيراً لَهُ حينَ يَجمَعُ
وقال لبيد بن ربيعة :
وتُضيءُ في وجهِ الظلامِ مُنيرةً كجمانةِ البحريِّ سُلَّ نظامُها
وقال عنترة :
فما تركتُ لهم وجهاً لِمُنهزمٍ ولا طريقاً ينجيهم مِنَ العطَبِ
ومعنى الآية : كلّ جسم مادّي يتلاشى ، ويبقى كلّ حيّ أثيري ينتقل إلى جوار ربّه .
وقال تعالى في سورة القصص{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}، أي كلّ شيء مادّي يهلك ، يعني تتفكّك أجزاؤه ويتلاشى ، ويبقى كلّ أثيري . والتقدير : كلّ شيء في جهتكم هالك إلاّ ما كان جهتكم هالك إلاّ ما كان بجهته لا يهلك .
فإذا علمتَ أنّ المادّيات صائرة إلى الخراب والدمار فلتعلمْ بأنّ الأجرام السماويّة أيضاً صائرة إلى الخراب والزوال لأنّها من المادّيات ، فالشمس والأقمار تتشقّقان ، والأرض تتمزّق والجبال تتبعثر ، والسماوات الغازيّة تتفطّر وتتبعثر ، وملخّص القول أنّ المجموعة الشمسية بأسرها تصير إلى الخراب ، وتقوم مجموعة أخرى مقامها ، لأنّ الشمس تتشقّق فتكون سيّارات ، والسيّارات تتمزّق فتكون نيازك ، وهكذا تتمزّق المجموعة الشمسيّة وتظهر شمس جديدة فتجذب هذه القطع المتمزّقة حولَها وتبني مجموعة جديدة ، ثمّ إذا انتهت حياة تلك الشمس الجديدة تشقّقت أيضاً وتمزّقت مجموعتها وقامت أخرى مقامها وهلُمَّ جراً
من كتاب الكون والقرآن لمفسر القرآن محمد علي حسن