بسم الله الرحمن الرحيم
قلنا إنّ لفظة "سماء" مفردة يريد بِها الطبقات الغازية ، وهذه الطبقات أيضاً صائرة إلى الخراب ، وذلك لأنّ الأرض تتمزّق يوم القيامة ، ولَمّا كانت الطبقات الغازية مجذوبة للأرض تمزّقت معها وتبعثرت ، أي يختلط بعضها مع بعض فتكون كالدخان ، كما كانت في بدء تكوينها ، قال الله تعالى في سورة الأنبياء {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} فلفظة "سماء" يريد بِها الطبقات الغازية ، و"السجلّ" هو الدلو الكبير المصنوع من الجلد وجمعه سِجال ، والشاهد على ذلك قول امرئ القيس :

عيناكَ دمعُهُما سِجال ____________ كأنَّ شأنَيْهما وِشالُ

فالسجال جمع سجلّ ، وقالت الخنساء :

أَهاجَ لَكِ الدُموعَ عَلى اِبنِ عَمرو ________________ مَصائِبُ قَد رُزِئتِ بِها فَجـودي
بِسَجـلٍ مِنـكِ مُنحَـدِرٍ عَلَيـهِ _________________ فَما يَنفَـكَّ مِثـلَ عَـدا الفَريـدِ

وقال أعشى ميمون :

لَـهُ رِدَافٌ ، وَجَـوْزٌ مُفْـأمٌ عَمِـلٌ ______________ مُنَطَّـقٌ بِسِجَـالِ الـمَـاءِ مُتّصِـل

وقال :

ربَّ حيٍّ أشقاهُمُ آخرَ الدهْـ -- __________ ـرِ وحيٍّ سقاهُمُ بِسِجالِ
فبعض قبائل العرب تلفظ السَجل بفتح السين وبعضها بكسر السين .

و"الطيّ" معناه الانحطاط في القوى والتدهور في الأمور والتفسّخ في الكُتل ، والشاهد على ذلك قول لبيد يصف رجلاً قتيلاً :

طوتْهُ المَنَايَا فوقَ جرداءَ شطبة ٍ _________________ تَدِفُّ دَفيفَ الرَّائحِ المُتَمَطِّرِ

وقال الآخر :

طَوَتْكَ خُطوبُكَ بعدَ نشرٍ ____________ كذاكَ الدهرُ نشراً وطيّا

وقال جرير :

طَوَى البَينُ أسبابَ الوِصَال وَحاوَلتْ _______________ بكِنْهِلَ أسبابُ الهوَى أنْ تَجَذّمَا

فقول الشاعر: "طَوَى البَينُ أسبابَ الوِصَال" أي قطّعَها وفرّقَها .

و"الكتب" جمع كتاب ، و"الكتاب" هو الرقعة أو أيّ شيءٍ آخر فيه كتابة ، وكانت كتب العرب من عظام الحيوانات كعظام اللوح وغيرها ، أومن جريد النخل ، أومن الحجر الأبيض أو الحصى ، أومن جلود الأنعام ، فهذه كانت كتبهم حيث لم يكن في ذلك اليوم قرطاس ، وكان السجلّ عندهم كالمحفظة عندنا ، وهي التي نحفظ فيها الكتب ، فكانوا يضعون كتبهم في السجلّ ولكن على غير ترتيب ، بل كانت مخلوطة الحجر فوق الجريد ، والجريد فوق العظام والعظام فوق الجلود ، وهكذا تجد كتبهم مخلوطة بعضها فوق بعض ، ومعنى الآية يكون هكذا :

يوم نمزّق الطبقات الغازية ونخلط بعضها مع بعض كما يخلط سجلّكم الكتب بعضها فوق بعض ، والدليل على ذلك قوله تعالى {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ} أي كما بدأنا تكوين الطبقات الغازية من الدخان كذلك نعيدها يوم القيامة دخاناً {{وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} } وإنّما قال تعالى {كُنَّا فَاعِلِينَ} على الماضي معناه إنّ فعلنا ذلك فيمن مضى قبلكم لَمّ قامت قيامتهم وشقّقنا تلك السماوات الغازية التي كانت فوقهم ، وكذلك نفعل لَمّا تقوم قيامة أرضكم .

وقال تعالى في سورة الفرقان {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلًا} . وقال تعالى في سورة الحاقة {وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} ، الواهي معناه المتشقّق ، والشاهد على ذلك قول امرئ القيس :

كناطحٍ صخرةً يوماً لِيوهنَها _____________ فَلَمْ يَضُرْها وأَوْهى قَرْنَهُ الوَعِلُ

وقال حسّان :

لا يرقعُ الناسُ ما أوهـتْ أكفّهـمُ ________________ عند الدفاعِ ، ولا يوهون ما رَقَعوا

وقالت الخنساء :

وَمَن لِمُهِمٍّ حَلَّ بِالجارِ فادِحٍ ___________________ وَأَمرٍ وَهَى مِن صاحِبٍ لَيسَ يُرقَعُ

وقال الأعشى :

لا يَرقَعُ الناسُ مَا أَوهَى وَإِن جَهَدوا ________________ طولَ الحَياةِ وَلا يوهـونَ ما رَقَعـا

وقال الله تعالى في سورة الرحمن {فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} ، "السماء" هي الطبقات الغازية ، و"الورد" كناية عن اللون الأحمر ، و"الدهان" جمع دهن وهي نقرة تكون بين الجبال تجتمع فيها مياه الأمطار ، وكانت في دولة الإمارات العربية نقر من مناجم الحديد وفيها أوكسيد الحديد الأحمر المعروف عند العامّة باسم (مغر) ، فكانوا يأخذون المغر من تلك الدهان ويصبغون به بعض الأشياء . ولذلك صاروا يضربون بِها المثل ، ومن ذلك قول عنترة يصف الأرض بالحمرة في يوم القتال :

فإذا ما الأرضُ صارَتْ _____________________ وردةً مِثلَ الدهانِ

والدِّما تَجري عليها ___________________________ لَونُها أحمرُ قاني

وقال عزّ وجلّ في سورة المعارج {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ} ، والمعنى : تكون السماء في ذلك اليوم كالزيت العكر حيث تختلط تلك الغازات وتكون كالدخان . وقال تعالى في سورة المزّمل {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا . السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا} . وقال تعالى في سورة المرسلات {وَإِذَا السَّمَاء فُرِجَتْ} أي انفرج بعضها عن بعض ، والمعنى : انفطرت وفُتحت ، والشاهد على ذلك قول الخنساء :

تُفَرَّجُ بِالنَدى الأَبـوابُ عَنـهُ ____________ وَلا يَكتَـنَّ دونَهُـمُ بِسِـتـرِ

وقال جرير :

نحن الحُمَـاةُ بكـلِّ ثَغْرٍ يُتَّقَى __________ وبنا يُفـرَّج كـلُّ بـابٍ مُغْلَـقِ

وقال الله تعالى في سورة النبأ {إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ} . وقال تعالى في سورة الانشقاق {إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ} . وقال تعالى في سورة الطارق {وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ} أي ترجع فتكون دخاناً كما كانت دخاناً في بدء تكوينِها .

وجاء في مجموعة التوراة في صحف إشعيا النبي في الإصحاح الحادي والخمسين قال (إرفعوا إلى السماوات عيونكم وانظروا إلى الأرض من تحت ، فإنّ السماوات كالدخان تضمحلّ ، والأرض كالثوب تبلى ، وسكّانها كالبعوض يموتون .) فالسماوات هنا يريد بِها الطبقات الغازية .


من(( كتاب الكون والقرآن )) للمرحوم محمد علي حسن



http://quran-ayat.com/kown/4.htm#السماء_تتفطّر_