يظن البعض للوهلة الأولى، عندما يتنامى إلى مسامعه أنباء، عن مقتل العشرات في بنجلاديش، خلال مواجهات بين الشرطة ومحتجين إسلاميين، أن تلك الدولة يمثل فيها المسلمون أقلية مضطهدة، وليس غالبية ساحقة تصل إلى أكثر من 85 % من السكان، البالغ عددهم 150 مليون نسمة، فبنجلاديش هي بالفعل ثالث أكبر بلد مسلم في العالم بعد إندونيسيا وباكستان، لكن الإسلاميين فيها يتعرضون لعمليات انتقامية، وتصفية حسابات قديمة لأسباب سياسية. وقد كان الحكم الذي صدر قبل أيام، بإعدام أحد كبار قادة حزب الجماعة الإسلامية المعارضة، بمثابة حلقة جديدة، في سلسلة الاضطهاد الذي يتعرض له الإسلاميون هناك، وهو الحكم الذي أدى إلى قيام مؤيدي الشيخ "دلاور حسين سعيدي" (73 عاما) بتنظيم مظاهرات احتجاجية، حاولت الشرطة تفريقها فاندلعت مواجهات، أدت حتى الآن إلى مقتل 62 في أربعة أيام دامية. ويعتبر الحكم على الشيخ سعيدي، هو ثالث حكم إعدام تصدره المحكمة التي تشكلت للتحقيق في الانتهاكات التي ارتكبت، إبان حقبة الاستقلال عن باكستان عام 1971. وقد اعتقل "سعيدي" في يونيو عام 2010، وأدانته المحكمة بارتكاب جرائم قتل جماعي واغتصاب، وجرائم أخرى خلال تلك الفترة على حد زعمها. وكانت الحكومة البنغالية الحالية، برئاسة حسينة واجد قد شكلت المحكمة الخاصة في عام 2010، للتعامل مع البنغاليين الذين حاولوا أن يعيقوا نيل بنجلاديش، (باكستان الشرقية، كما كانت تُعرف آنذاك) الاستقلال عن باكستان.
غليان وترقب
لكن تبقى الأمور مرشحة للإنفجار مع غليان الشارع البنغالي، وسقوط المئات ما بين قتيل وجريح، ما دفع الجيش إلى نشر قوات في مناطق شمال البلاد، التي تشهد مواجهات عنيفة. وقال ضابط الشرطة عبد الوارث: "تم نشر قوات من الجيش في منطقة بوجرا، الواقعة على بعد نحو 230 كيلومترا شمال العاصمة دكا، حيث قتل سبعة أشخاص في تبادل لإطلاق النار، بين عناصر الشرطة والمتظاهرين الأحد 3 مارس 2013". وتعتبر بلدة "بوجرا" من المعاقل السياسية لرئيسة الوزراء السابقة، السيدة خالدة ضياء رئيسة الحزب القومي المعارض في بنجلاديش، القريبة من التيارات الإسلامية، والتي توصف بأنها خصم لدود لرئيسة الوزراء حسينة واجد، ابنة الشيخ مجبور الرحمن مؤسس بنجلاديش، والذي اغتيل في عام 1975. يشار إلى أن ما تسمى بالمحكمة الدولية للجنايات، قد سمت نفسها بهذا الاسم، دون أي إشراف أو مشاركة من قبل الأمم المتحدة، وهو ما جعل المعارضة تتهمها بأنها أداة في يد السلطة، لتحقيق أغراض سياسية، خاصة وأن كافة الأشخاص المدانين ينتمون للمعارضة.
الاتحاد يندد
الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، في أول رد فعل له على الأحداث الأخيرة، ندد بالعنف بقمع المتظاهرين، مطالبا في بيان له رئيسة وزراء بنجلاديش، "بإطلاق سراح القادة السياسيين، ووقف المحاكم الاستثنائية فورا، مشيرا إلى أن كل البراهين، تدل على أن هذه المحاكمات صورية ولأغراض سياسية". وأضاف الاتحاد في بيانه، أن "تلك الإجراءات تسببت في تعالي صيحات المؤيدين للجماعة الإسلامية، من مختلف فئات الشعب، ومطالبتهم بإطلاق سراح أولئك القادة، في مسيرات سلمية حافظت على النظام". وأعرب الاتحاد عن تقديره، للجهود التي تبذلها "تركيا ومصر والسعودية وماليزيا، وغيرها من قيادات الدول العربية والإسلامية، للضغط على الحكومة الحالية لوقف المحاكمات الاستثنائية". القصة لا تتعلق إذن بجرائم فعلية ارتكبتها تلك الرموز الإسلامية، بل بحملة لتصفية حسابات سياسية، ضد من وقفوا في الماضي في وجه العلمانية، التي أرادت تفتيت الدول الإسلامية الكبرى وكان لها ما أرادت.
أحقاد تاريخية
وتعود الأحداث إلى ما بعد عام 1947م، الذي شهد انفصال باكستان بشطريها عن الهند، فبعد هذا التاريخ، بذلت الهند العلمانية قصارى جهدها، للتحريض على انفصال باكستان الشرقية (البنغال) عن باكستان الغربية (الباكستان)، فكان أن أوجدت لها وكلاء بنغاليين، نجحوا في الترويج بين العامة، لمزاعم قيام السلطات الباكستانية بمعاملتهم بشكل مختلف عن الباكستانيين، وقد آتت الجهود الهندية ثمارها، باندلاع الحرب بين شطري باكستان، وكانت الهند تقف إلى جانب باكستان الشرقية، حتى تم لها الانفصال والإعلان عن دولة بنجلاديش المستقلة فى 26مارس عام 1971، والتي حظيت بدعم الدول التي كانت تناصب المسلمين العداء، لكن الجماعة الإسلامية كانت آنذاك، تقف في صف الوحدة وبقاء شطري باكستان معا كدولة غنية قوية. النوايا الخبيثة لم تتأخر في الظهور، ففي نفس العام تم اعتقال الآلاف من المعارضين للانفصال، لكن الحكومة آنذاك برأتهم وأطلق سراحهم، بعد إبرام اتفاق ثلاثي بين بنجلاديش وباكستان والهند، وأعلن العفو عن جميع المعارضين. ويبقى السؤال: إن كانت الحكومة قد برأت المتهمين وقتها، فلماذا تثار القضية مرة أخرى بعد مرور 42 سنة؟. ويمكن تلخيص الإجابة، بأن حزب "رابطة العوام" الحاكم، أدرك مدى تعاظم قوة الجماعة الإسلامية، وتضاعف نفوذها بين الناس، وأيقن أنها وبثقلها الشعبي باتت تشكل خطرا استراتيجيا عليه، وعلى الطابع العلماني للدولة، فلم يجد سوى إعادة إثارة القضية عام 2008، وكانت الاتهامات جاهزة بلا شك، ليس هذا فحسب، بل أعلنت الحكومة جملة قرارات قمعية، من بينها ما يحظر أية ممارسة إسلامية سياسية، ومنع التعليم الإسلامي، واتخاذ كل الوسائل الموجهة لإضعاف المعارضة الإسلامية
شبكة رسالة الإسلام