إعلم أنّ النفس هي ذرّات أثيرية تتألّف داخل الجسم ، أي يجتمع بعضها إلى بعض ويكون بينها تجاذب فتبني هيكلاً كهيكل الجسم ، فالعين المادّية تبني داخلها عيناً أثيرية ، والأذن المادّية تبني داخلها أذناً أثيرية ، واليد المادّية تبني داخلها يداً أثيرية ، وهكذا كلّ عضو من الأعضاء المادّية يبني داخله عضواً فيصبح هيكلاً أثيرياً داخل الهيكل المادّي أي داخل الجسم ويكون منه نسخة طبق الأصل إلاّ أنّ الأول مادّي والثاني أثيري ، ثمّ يأخذ الهيكل الأثيري في النموّ كلّما كبر الجسم ونَمى حتّى يقف الجسم عن النموّ والازدياد وذلك عند بلوغه مبلغ الرجال ، أو بِموته قبل بلوغه فيموت طفلاً أو صبياً فحينئذٍ تقف النفس عن النموّ ، وذلك لانفصالِها عن الجسم ، فتكون على قدر الجسم الذي انفصلت منه ؛فإن كان الجسم صبياً فإنّها تكون صبيّةً أيضاً وإن كان شاباً فالنفس تكون شابة أيضاً ، وإنْ كان الجسم مهزولاً فالنفس تكون مهزولة أيضاً ، وإنْ كان الجسم سميناً فالنفس تكون سمينة أيضاً . والخلاصة أنّ النفس تكون نسخة طبق الأصل فهي تشبه الجسم الذي نشأت فيه تماماً ، وبذلك قال المالكي ، وإليك ما جاء في كتاب (جامع المتون) قال :صفات النفوس
ولا تَخضْ في الروحِ إذْ ما وَرَدا نصٌّ مِنَ الشارعِ لكنْ وجداإلاّ أنّ النفسَ لا تَهرم ولا تأخذ في النقصان ولا تفنى ولا يعتريها أيّ نقص ، مثلاً إذا كان الجسم سميناً مدّة شبابه ثمّ مرض وهزل فإنّ نفسه لا تكون مهزولة بل تبقى على ما كانت عليه في زمن الشباب ، وكذلك إذا هرم الجسم وصار شيخاً فإنّ نفسه لا تهرم بل تبقى على ما كانت عليه في زمن الشباب ، وكذلك لو نقص أحد أعضاء الجسم فإنّ نفسه لا ينقص من أعضائها شيء لأنّها هيكل أثيري والأثير لا يفنى ولا يعتريه نقص [فقد روي عن النبيّ أنّه قال : قال " يحشر الناس يوم القيامة عراة حفاة غلفاً " أقول يحشرون بغلفهم لأنّهم نفوس أثيرية والأثيري لا ينتقص منه شيء .]لِمالكٍ هيَ صورةٌ كالجسدِ فحسبُكَ النصُّ بِهذا السنَدِ
فمثلاً إذا عمي الإنسان في زمن شبابه أو بعد ذلك فإنّ نفسه لا تعمى بل تبقى مبصرة فإذا انفصلت عن الجسم عند الموت فإنّها تكون مبصرة فترى الأشياء وتشاهدها كما كانت تنظر وهي داخل الجسم في زمن شبابه بل يكون بصرها أقوى مِمّا كانت عليه وهي داخل الجسم . قال الله تعالى في سورة الحج {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} ، فبصر النفس لا يعمى بل يكون أقوى إذا انفصلت عن الجسم . قال الله تعالى في سورة ق {لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} أي حادّ البصر.
وكذلك لو انكسرت يد الجسم أو رجله أو عضو آخر من أعضائه فإنّ النفس لا يعتريها خلل بل تكون سالمة من كلّ نقص ، إلاّ إذا كان الجسم ناقصاً وهو في بطن أمّه فيولد وينشأ وهو ناقصٌ عضواً من أعضائه حتّى يموت فإنّ النفس في هذه الحالة تكون ناقصة أيضاً لأنّها تتكوّن داخل الجسم فتأخذ شكله ، مثلاً إذا وُلد طفل وهو أعرج وبقي أعرج حتّى الممات فإنّ نفسه تكون عرجاء أيضاً ، وكذلك لو وُلد طفل وله يد واحدة وعاش سنين ثمّ مات فإنّ نفسه يكون لَها يد واحدة أيضاً لأنّها تكوّنت في ذلك الجسم، فالجسم ما هو إلاّ قالب لتكوين النفس وإنشائها . ومثال ذلك ما يُصنع من الإسمنت كالهياكل والمزهريّات والأعمدة و غير دلك : فإذا أردنا أن نصنع تمثالاً من الإسمنت أو مزهرية أو شيئاً آخر فينبغي أن نصنع أوّلاً قالباً من الخشب على الشكل المطلوب ثم نأتي بالإسمنت ونخلطه مع الرمل والحصى ونبلّه بالماء ثمّ نصبّه داخل القالب الذي هو من الخشب ونتركه على الأقلّ مدّة اثنتي عشرة ساعة لكي تتماسك ذرّات الإسمنت بالحصى ويصبح هيكلاً صلباً لا يتفتّت يعد ذلك ، ثمّ إنّنا ننزع القالب عن الهيكل ونرمي به ونأخذ الهيكل المصنوع من الإسمنت حيث هو مطلوبنا ، ولو فرضنا أنّنا نزعنا القالب عن الهيكل قبل انتهاء المدّة المطلوبة لوجدنا ذرّات الإسمنت غير متماسكة ولأصبح الهيكل متهدّماً بأدنى احتكاك ، فهكذا حكم النفس داخل الجسم : فلنجعل الجسم مقام القالب المصنوع من الخشب ، ولنجعل ذرّات الأثير مقام الإسمنت ، فكما أنّ الإسمنت لا تتماسك ذرّاته إلاّ بعد المدّة المطلوبة ، كذلك ذرّات الروح لا تتماسك داخل الجسم إلاّ بعد ولادة الجنين بأربعين يوماً ، فتصبح تلك الذرّات الأثيرية بعد الأربعين يوماً نفساً باصرة سامعة واعية باقية .
أمّا إذا مات الجنين في بطن أمّه أو بعد ولادته ببضعة أيّام فإنّ تلك الذرّات الأثيرية التي للروح تتلاشى وتذهب أدراج الرياح لأنّها لم تتماسك تماماً في هذه المدّة القصيرة كما أنّ ذرّات الإسمنت لم تتماسك إذا لم تنتهِ عليها المدّة المطلوبة وهي داخل قالب الخشب ، فلذلك لا يصحّ أن نسمّي روح الجنين الذي في بطن أمّه (نفساً) لأنّها تتلاشى إذا مات الجنين ولأنّها لا تسمع ولا تبصر ولا تعي ، فالنفس بخلاف ذلك .
فالغاية من هذا الجسم المادّي هي النفس لأنّها الإنسان الحقيقي ، كما أنّ الغاية من صناعة قالب الخشب هي هيكل الإسمنت ، فإذا كمل الهيكل الأثيري ونشأ فلا حاجة بعد ذلك إلى الجسم بل يكون ثقلاً عليها وسجناً لَها .