محمد علي حسن الحلّي

 

 

الصفحة الرئيسية

 

 

 محتويات الكتاب

 المقدّمة

رحلة في عالم الأرواح

مريض في المستشفى

أبيات على قبر

ما هي الأرواح

حادثة إغماء

أغرب رحلة في عالم ما بعد الحياة

الممرضة ماتت ساعتين

[ربة البيت الأمريكية بيتي باترسون]:

صورة كيرليان الغريبة

كشف الحقيقة

نفوس الأولياء

قبور الأولياء

الغيب

 النبي إيليا  (: إدريس)

الاقتداء بالأولياء نجاح

المدد بالخيرات

تشييد القبور خطيئة وتقديسها إشراك

قبر موسى

معاجز الأنبياء

الولاية لله والشفاعة بيده

منهج التوحيد طريق الفلاح

اليمين

بعض ما جاء في التوراة (في التوحيد)

الله يغضب على المشركين

التقليد الأعمى ضلال

القادة والمقلِّدين يوم القيامة ]

الوساطة

تسمية الأبناء

المساجد

حوار بيني وبين أحدهم

المطبوعات للمؤلف

المخطوطات

 

 

 

 

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي خلق الإنسان ، وعلّمه البيان ، وأخرج له النبات وسخّر له الحيوان ، وجعل حياته دائمة مدى الدهور والأزمان ، والسلام على محمّد سيّد ولد عدنان ، الذي أُنزل عليه القرآن ، فكان لنا خير دليل وأحسن تبيان .

   أمّا بعد فإنّي سألت الله الخير والرحمة ، فأعطاني العلم والحكمة ، وأراني ما في النور وكشف لي أسرار ما في الظلمة ، فحمداً له على ما أكرم ، وشكراً له على ما أنعم .

                                                                                           محمّد علي حسن

 

 

 

 

 

تخرج الروح من الجسد كما يخرج الفرخ من البيضة ، فالجسد يتمزّق كما تمزّق قشر البيضة ، وتبقى الروح في عالم الأرواح حية تبصر وتسمع وتأكل وتشرب

 

 

المقدّمة

   إعلم أيّها القارئ الكريم أنّ قصّتي هذه ليست قصّة خيالية ، ولا رواية تمثيلية ، إنّما هي قصّة حقيقية ، وحادثة زمنية وقعت لي في زمن طفولتي ، وكان عمري حينذاك سبع سنين ، وكان أهلي يسكنون في مدينة كربلاء فسقطت من مكان مرتفع في دارنا ، وعند سقوطي على الأرض شعرت كأنّي كنت في قفص فخرجت منه ، والقفص هو جسمي وأنا أصبحت روحاً ، فرأيت الأرواح وتكلّمت معهم كما أتكلّم مع الأحياء ، ورأيت أشياء لم أكن أعهدها من قبل ، فعجبتُ مِمّا رأيت ، ثمّ عدتُ إلى قفصي بعدما قضيتُ ساعة في عالم الأرواح وفتحتُ عيني وإذا أنا في حجر أمّي ، فقصصتُ لَها ما وقع لي وما رأيتُ في ذلك العالم الغريب ، فعجبَتْ من ذلك وأخبرَتْ به والدي عند مجيئه إلى الدار ، ولم أكن أعلم حينذاك شيئاً عن الأرواح. 

   وقد نسيتُ تلك الحادثة بعد أيّام من وقوعها ، ثمّ تذكّرتُها بالتفصيل بعد سنّ الأربعين من عمري ، وأحمد الله الذي أراني الأرواح في زمن طفولتي وذكّرني بِها في زمن كهولتي لأكون من الموقنين .

 

 

رحلة في عالم الأرواح

   كان بيتنا قرب صحن العبّاس في كربلاء ، وقد شقّه بعد ذلك الشارع الذي يسمّى اليوم بشارع علي أكبر ، وكان لنا حمّام مقابل دارنا هذه يسمّى بِحمّام (شنطوط) وفي دارنا يوجد نيم سرداب فيه رفّ يرتفع عن أرض السرداب بمقدار متر ، وتحت الرفّ درج تتّصل بأتون الحمّام .

   وفي يوم من أيام الصيف رغبت أن أنام على ذلك الرفّ ، فنهتني أمّي عن ذلك وقالت "إن نمتَ على هذا الرفّ تسقط إلى أسفل الأتون وتموت" . فلم أنتهِ عن رغبتي ولم ألتفت لقولِها ، ثمّ استغفلت والدتي بعد أن ذهبتْ عنّي لقضاء أشغالِها وصعدتُ ونمتُ على ذلك الرفّ ، وكنت أتقلّب في نومي فسقطتُ من الرفّ على رأسي فوق الدرج التي تحت الرفّ ، وعند وقوعي شعرتُ كأنّي كنتُ في قفص فخرجتُ منه ، والقفص هو جسمي وقد أصبحتُ روحاً من الأرواح ، وصعدتُ من الدرج إلى السرداب أقفز كالعصفور ؛ إذْ كانت ساقاي فيهما تجاذب ولا أستطيع أن أرفع رجلاً وأضع أخرى لكي أصعد من الدرج ، وتركت جسمي ملقىً على الدرج .

   ثمّ نظرتُ إلى نفسي فإذا أنا عريان [1] فاستحييتُ مِمّا أنا فيه والتفتُّ يميناً وشمالاً لعلّي أجد ثوباً ألبسه وأستر به عورتي ، فرأيتُ ثوباً من ثيابي (دشداشة) ملقىً على الأرض قرب الجدار فمددت إليه يدي لكي ألبسه فلم أتمكّن من حمله مع أنّي كنت ألمسه وأشعر بوجوده ولكن لا أستطيع حمله من الأرض فعجبت من ذلك ، ولَمّا عجزت عن حَمل الثوب التفتّ إلى الوراء لأرى أحداً أسأله عن السبب فإذا بفتاة تحمل بيدها بضعة ثياب تصلح للأطفال فقالت : "ما بالك ؟"

قلت : "أريد أن ألبس ثوبي هذا ولكن لا أستطيع"

فقالت : "اتركه وخذ ثوباً من عندي والبسه" ، وناولتني ثوباً أبيض ناصع البياض ، فخلته كفناً واشمأززت منه فرددته عليها وقلت : "لا أريد هذا الثوب لأنه يشبه الكفن في بياضه" ، فناولتني ثوباً آخر مخطّطاً بألوان فأخذته منها ولبسته وسترت به عورتي ولكنّه كان قصيراً لا يتجاوز ركبتيّ ،

فقلت لَها : "هذا ثوب قصير" ،

قالت : "إلبسه مؤقّتاً حتّى أعطيك ثوباً أطول منه ." [2] 

ثمّ قالت : "هل تريد ماءً لتشرب ،

قلت : "لا أريد " ،

قالت : "ألست عطشاناً ؟"

قلت : "كلاّ " ،

فجاءت بكأسٍ كالبلّور وفيه ماء فقالت : "أنظر إلى هذا الماء فإنّه لذيذ الطعم كالشربت [: العصير] فإنْ شربتَ منه لا تظمأ بعده أبداً " ، وهكذا أخَذَتْ تحثّني على شربه فأخذتُ الكأس منها وشربتُه ، ولَمّا شعرتُ ببرودته وطعمه اللذيذ لم أترك في الكأس شيئاً منه وناولتها الكأس فارغاً ،

ثمّ قالت : "هذا عمّك علي تعال سلّمْ عليه" ، وأشارت إلى شابٍّ كان واقفاً في السرداب ، فنظرتُ إليه فتبسّم في وجهي ودعاني إليه ، ولكنّي لم أذهب إليه ولم أرغبْ في مكالمته لأنّي لم أعرفْه ولم أكنْ قد رأيتُه من قبل ولم أعلم أنّ لي عمّاً اسمه علي مات قبل أن أولَد ،

وكذلك الفتاة لم أعرفْها ولكنّها قالت لي : "أنا أختك ."

   وجاءت والدتي مسرعة لَمّا سمعت صوت الوقعة ونزلَتْ إلى أتون الحمّام ورفعت جسمي من على الدرج وصعدتْ به إلى السرداب ، فجلست على الأرض واحتضنَتْه وصارت تقبّله وتمسح الدم عن وجهه وتبكي وهي تخاطبه باسمي ، فجاءت عمّتي وجلست عندها ، ثمّ جاءت بنت عمّي وأخذتْ قطعة من الصوف وأشعلَت فيها النار فلَمّا اشتعل نصفها أخمدَتها فوضعَتها فوق الجرح الذي كان يسيل منه الدم [3] وجاءت عمّتي بعُصابة سوداء فشدّت بِها رأس جسمي وجلسْنَ عنده يخاطبنه ، ثمّ قامت عمّتي وجاءت بالماء وصارت ترشّه على وجهه ولكنّ جسمي كان كالميّت لا يتحرّك بأدنى حركة .

   كلّ هذا وأنا واقف أنظر إليهنّ متعجّباً من فعلهنّ بالجثّة التي بين أيديهنّ ، وقلت في نفسي "إنّ والدتي قد اختلّ فكرها وتاه لبّها فهي تخاطب هذا الطفل الميّت باسمي وتقبّله وتبكي عليه فهل لا تراني واقفاً أمامها وهل هذا الطفل إبنها أم أنا ؟"

   ثمّ دنوتُ منها وصرت أخاطبها وأشير لَها بيدي اليسرى وأقول : "أنا إبنكِ ، أنا محمّد علي ، ألا ترَيني واقفاً أمامكِ ؟ إني سالم لا أشكو وجعاً من رأسي ولا عضواً من أعضائي" . ولكنّها لم تسمعني ولم تلتفت إليّ ، فكرّرت لَها القول ورفعت صوتي لعلّها تسمعني وتراني ولكن دون جدوى .

   فحزنت لِحالِها وكدتُ أبكي ، فتقدّمت منّي تلك الفتاة التي أعطتني الثوب في عالم الأرواح وقالت : "ما بالك حزين؟" ،

قلت : "ألم تنظري إلى والدتي تبكي وتندب ؟" ،

فقالت : "أتركها لِحالِها واذهب إلى التنزّه واللعب فإنّها ستترك البكاء بعد ساعة ."

  فلمّا أردتُ الخروج من السرداب إذا بساقَيّ لا تساعدانني على المشي ولا يمكنني أن أرفع رجلاً وأضع أخرى فكأنّهما قيّدتا بالقيود أو رُبطتا بالحبال [4]

فقلت لتلك الفتاة : "لا أتمكّن من المشي والخروج من السرداب ولا أعلم ما الذي أصاب ساقَيَّ فكأنّهما رُبِطَتْ إحداهما بالأخرى" ،

فقالت : "أترك المشي على الأقدام وانطلق كالطير" ،

فلم أفهم ما تقول فقلت : "وهل يسير الإنسان بدون أقدام ؟ وكيف أنطلق وساقاي قد شُلّتا وبطلتا عن الحركة ؟" ، فأرادت أن تُفهمني مقصودها فأخذتْ تعبّر بكلمات أخرى بدل كلمة الانطلاق فلم أفهم مقصودها ،

ولَمّا عجزتْ عن إفهامي قالت : "أنظرْ إليّ كيف أنطلق وانطلق مثلي بدون أن ترفع قدماً وتضعَ أخرى" ، وانطلقتْ في الهواء كالطير ولكن بدون جناح ، فتعلّمتُ منها وانطلقتُ وتركتُ أمّي تبكي وخرجتُ من السرداب قاصداً الزقاق لأتسلّى باللعب عَمّا أشاهده من حال أمّي والجثّة التي احتضنتْها .

   فلمّا وصلتُ باب الدار رفعتُ يدي اليسرى وأدخلتُ أصابعي الأربع في حلقة الباب وبقي الإبهام خارجاً وسحبتُها كما كنتُ أفتحها كلّ مرّة ، ولكن في هذه المرّة لم تنفتح الباب ومرّة ثانية لم تنفتح وفي الثالثة سحبتُها بكلّ قواي فتقطّعت أصابعي من ذلك وزاد تعجّبي لَمّا رأيتُ أصابعي معلّقة في الهواء لم تسقط على الأرض ولم يخرج منها دم ، فكانت كالشمع في مرونته وقتَ الصيف ، فبقيتُ متحيّراً أسائلُ نفسي كيف أفتح الباب وقد تقطّعت أصابعي ، ولماذا لا أقوى على فتحها اليوم وقد فتحتُها من قبل مراراً عديدة ، وكيف تقطّعت أصابعي بسهولة وقد كانت قويّة ، ولِماذا لم يخرج منها الدم وقد كان خروجه لأقلّ خدش يصيبها .

   فبينما أنا واقف أفكّر في أمري وإذا بالفتاة أقبلت نحوي فقالت : "ما بالك في حيرة ؟" ،

قلتُ : "لقد تقطّعتْ أصابعي ولم أتمكّن من فتح الباب"

قالت : "لا تحزنْ على ما أصابك فالأمر هيّن ولا يحتاج إلى تكدير الحال : أمّا أصابعك فضعها في أماكنها على راحة كفّك تعُدْ كما كانت ، وأمّا الباب فإنّك لا تستطيع فتحَها فإنْ شئتَ الخروج من الدار فاخرجْ من شقوق الباب" ،

فقلت لَها : " أتسخرين منّي وأنا في هذه الحال !؟" ،

قالت : "لستُ بساخرة وإنّما أقول الحقيقة" ،

قلت في تعجّب : "هل يمكن ذلك وهل أستطيع عليه ؟" ،

قالت : "بلى" ، فمددتُ يدي اليمنى وأخذتُ أصابعي المتقطّعة من الهواء واحداً بعد الآخر ووضعتُها في أماكنِها على راحة كفّي اليسرى فالتصقت بِها حالاً كما تلتصق قطع الشمع بعضها بالبعض في زمن الصيف وعادتْ يدي سالمة كما كانت ففرحتُ بسلامتها ،

فقالت الفتاة : "والآن ضَعْ رأسك في أحد شقوق الباب واخرج إلى الزقاق" ،

فظننتُ أنّها تسخر منّي فقلتُ لَها بانزعاج : "هل أنا مجنون فتسخرين منّي ؟" ،

قالت : "لستُ بساخرة ؛ ألم ينطبق قولي في أصابعك وعادتْ يدك سالمة كما قلت لك فكذلك ينطبق في خروجك من شقوق الباب وسترى أنّ ما أقوله هو حقيقة وليس بسخرية " ،

فوضعتُ رأسي في أحد شقوق الباب وإذا بي أنساب من الشقّ كما تنساب ذرّات الرمل من بين الأصابع ، وكانت ذرّات جسمي الأثيري تنجذب بعضها إلى بعض وكلّها تتبع رأسي كبرادة الحديد التي تنجذب نحو المغناطيس ، وفي نصف دقيقة أو أقلّ خرجتُ من باب الدار إلى الزقاق .

   فوقفتُ قرب الباب وصرت أنظر إلى الناس وهم يسيرون قي ذلك الزقاق المؤدّي إلى سوق العبّاس ، فرأيت بعضهم عراة (أرواح) وبعضهم يرتدي ثياباً قصيرة وسيقانهم مكشوفة فإذا صار طريقهم في الشمس اختفوا عن بصري وإذا صاروا في الظلّ رأيتُهم بوضوح يسيرون في الطريق ، ورأيت بعضهم يسيرون وليس لَهم أقدام بل لَهم حوافر مثل حوافر الخيل ، ولَمّا سألتُ عنهم قالوا هؤلاء من الجنّ .

   فبينما أنا واقف أنظر إلى المارّة وإذا بريح تهبّ على ذلك الطريق فرفعتني من مكاني وصارت تدفعني بسرعة وكلّما حاولتُ أن أقاوم الريح وأثبت في مكاني فلم أتمكّن ـ فكنتُ كورقة قرطاس في خفّتها تنقلها الرياح من مكانٍ إلى آخر ، ثمّ ألقتني على الأرض فاصطدمتُ بكرسي كان في المقهى القريب من دارنا ، وكانت الصدمة في ركبتي اليسرى ، فتألّمتُ ألماً شديداً وبقيت في مكاني بضع دقائق جالساً جنب الكرسي [5] وكانت رجلي المصدومة ممدودة إلى جانب الكرسي وقد فصلتُها عن الثانية بصعوبة ، فجاء رجلٌ من الأحياء ليجلس على الكرسي الذي أنا بجانبه فوطأ قدمي برجله وحذائه ، فزادني بذلك ألماً فسحبتُ رجلي

ونهرته قائلاً : "هل أنت أعمى ؟ لقد سحقت قدمي برجلك ؛ ألا تراني جالساً هنا ؟" ، فلم يجبني بكلمة واحدة ، ثمّ عاودت عليه اللوم فلم يسمع ولم يلتفت إليّ ؛

فقلتُ في نفسي : "ما بال الناس لا يسمعون ولا يبصرون في هذا اليوم ، وبقيت في مكاني حتّى زال الألم وسكنت الرياح فقمتُ متعجّباً مِمّا شاهدتُه في ذلك اليوم وزاد عجبي لَمّا رأيتُ نفسي خفيفاً كالهواء ويمكنني أن أطير بلا جناح .

فأنهضتُ نفسي إلى فوق فارتفعتُ إلى علوّ مترَين أو ثلاثة ودخلتُ سوق العبّاس وأنا فرح مسرور بنفسي لِما أشاهدُهُ من استطاعتي على الطيران ثمّ قلت في نفسي : "هل أستطيع أن أرتفع أكثر من هذا ؟" فأنهضتُ نفسي وارتفعتُ وصرتُ أطير على علوّ أربعة أو خمسة أمتار ، فرأيتُ طيور حمام واقفات على أعواد سقف السوق ، فصارت رغبتي أن أمسك واحدةً منها ، فدنوتُ منها وهي لا تراني طبعاً فمدَدْتُ يدي اليسرى وأمسكتُ طيراً منها ، فكنتُ أشعر بالطير تحت يدي وفي قبضتي ولكنّي لم أتمكّن من إخضاعه وإيقافه عن المسير فوق الأعواد بل تقطّعت أصابعي أنملةً أنملةً بقوّته وحركته وفلتَ الطير من قبضتي وأخذ يمشي على الأعواد ويهدر على أنثاه ، وبقيت أناملي معلّقة بالهواء لم تسقط على الأرض [6] فعجبتُ من ذلك وبقيت في حيرةٍ من أمري وحزنتُ مرّة أخرى على ذهاب أصابعي ، ثمّ تذكّرتُ ما جرى لي حين أردتُ فتحَ الباب إذْ تقطّعتْ أصابعي فأرشدَتني تلك الفتاة إلى إعادتِها في مكانِها ، ثمّ مدَدتُ يدي اليمنى وأخذتُ الأنامل من الهواء واحدةً بعدَ الأخرى و ردَدتُها إلى أماكنِها فالتصقَت بِها حالاً وعادتْ سالمة كما كنتُ فسررتُ بِها وزال حزني ، ولكن بقيت أفكّر في الطيور وأيّها أمسك ولم أكترثْ بِما أصابني مِنها من أذى ،

فبينما أنا أفكّر فيها طار واحد من تلك الطيور فرفعتُ يدي اليسرى لأمسكه فوقعتْ كفّي اليسرى على عضدي الأيمن فاخترقتها ، ولكنّها اخترقت مكان اللحم دون العظم ، ولَمّا رفعتُ كفّي عنها التحمَتْ وعادت كما كانت ، فعجبت من ذلك ، ثمّ ضربتُ عضدي مرّة ثانية للتأكّد فاخترَقتْها ، ومرّة ثالثة فكانت النتيجة واحدة ، فكان جسمي الأثيري كالزبدة في الصيف عندما تنزل السكّين فيها بسهولة ثمّ تلتحم إذا رُفعَتُ عنها .

   وبينما أنا واقف في الهواء أفكّر في ذلك وإذا بطير يطير نحوي صدفة فاخترق بطني وخرج من ظهري ـ فقصمتني ضربته نصفَين ودَفعتْ بالنصف الأسفل إلى حوالَي ثلاثة أمتار بعيداً عنّي وغُشي عليّ من شدّة الألم [7] فلمّا أفقتُ رأيتُ نفسي بلا عجز ولا رجلين ، فنظرتُ يميناً وشمالاً فرأيت رجليّ خلفي واقفات في الهواء وكان الهواء يحرّكهما بحركة خفيفة ، وكان جسمي الأثيري شفّافاً يشبه زلال البيض قبل نضجه [8] فعجبتُ مِمّا أرى ومِمّا أنا فيه ، وبقيتُ في حيرة كيف أُرجع رجلَيّ إلى جسمي ، وهل يعود جسمي كما كان وقد أصبح نصفين ، وكيف بقيتُ حياً لم أمت وأما في هذه الحال ، فبينما أنا أفكّر في أمري وإذا برجل عريان يصعد نحوي وهو يطير في الهواء بلا جناح ، فاشمأزّتْ نفسي منه وخفتُ منه في بادئ الأمر إذ ظننتُه مجنوناً لأنّ عورته بادية للعيان ، ولَمّا اقترب منّي أخذ يكلّمني فيما أنا فيه ويرشدني إلى إصلاح شأني ، فحينئذٍ ذهب الخوف عنّي إذ علمتُ أنّه ليس بمجنون ،

فقال : "ما صنعتَ بنفسك ؟"

قلتُ له : "صنع بي ذلك الطائر" ،

قال : "أترك الطيور واذهب إلى أهلك فأنتَ روح ولا يمكنك أن تقبض عليها" (وكان الكلام ما بيننا باللهجة العامّية) كما كنتُ أتكلّم وأنا في جسمي المادّي .

فقلتُ له : "وما معنى روح ؟ " ،

قال : "أنت ميّت لا تتمكّن من أنْ تقبض على الطيور" ،

فلم أفهم معنى قوله فظننتُ أنّه يقول إنّ الطير أماتك بضربته ، فقلتُ : "إنّي لم أمت من ضربة الطير ولكنّه قصمني نصفين كما ترى ، فهل يمكنك أن ترجع إليّ رجلَيّ ؟"

قال : "إنّها لا تأتي إليكَ ولكن يمكنك أنْ تذهبَ أنتَ إلَيها" ،

فقلتُ : "كيف أذهب إليها وليس لي أرجل أمشي بِها ؟"

قال : "انطلق بدون أرجل" ،

قلت : "وكيف يسير الإنسان بدون أرجل؟ " ، فلمّا رأى أنّي لم أفهم مقصده أخذ بيدي وقادني إلى حيث كانت رجلاي فأوقفني عليهما وساواهما مع جسمي الأثيري فالتصقتا به في الحال فكانت كالشمع إذا ألصقتَه بقطعة أخرى وعدتُ صحيحاً ،

فعجبتُ من ذلك وقلتُ له : "هل لديك قطعة قماش تضمّدني بِها أو دواء ترشّه على جرحي لئلاّ ينفصل مؤخّري عن جسمي مرّة أخرى ؟"

فقال : "لا حاجة إلى ذلك ."

ثمّ سألته عن حاله فقلتُ له : "لماذا أنتَ عريان ، مالك من ثوب تلبسه أو لباس تستر به عورتك ؟ "

قال : "إنّهم لم يعطوني" ،

فقلت : "إشترِ من السوق" ،

فقال : "لا يبيعون" [9] فلم أفهم معنى كلامه ، ثمّ تركني وانصرف بعد أن أوصاني أن أترك الطيور وأرجع إلى أهلي ، وأنا أنظر إلى ظهره وجسمه العريان يلمع كالبلور أو كمعدن طُلي بالفسفور فصار يعطي شعاعاً ،

فعجبتُ من حاله وقلتُ في نفسي : "هل هذا الرجل فقير لا يملك ثوباً ؟ كلاّ فإنّ الفقراء يسترون عوراتهم ولو بخرقة من القماش ، أو لعلّه مجنون ؛ ولكنّ المجانين لا يرشدون الناس إلى إصلاح حالِهم بل يؤذونهم ، وقد أرشدني هذا الرجل وأسعفني ولم أرَ منه قطّ أذى" .

   ثمّ صرفتُ نظري إلى نفسي أتأمّل فيها : فإذا أنا لا أستنشق الهواء كما كنت في السابق ، بل رئتاي ساكنتان هادئتان لا شهيق ولا زفير [10]

فعجبتُ لِما أنا فيه ، واستنشقتُ مقداراً من الهواء للاختبار فلَمّا دخل الهواء جوفي أحسستُ بثقل في جوفي أزعجني فنفَثتُه من جوفي حالاً واسترحت منه .

    ثمّ فطنتُ إلى عينَيّ وإذا هما لا يرتدّ إليهما طرفهما كما كنت سابقاً ولكنّي إذا أردتُ أن أغمضهما يمكنني ذلك ، وإذا أردتُ أنْ أدير ببصري يميناً وشمالاً فلا أتمكّن بلْ عيناي شاخصتان إلى الأمام [11]

   وبعد هذه الحوادث أزعجني الدخان المتصاعد من المطاعم وبائعي الكباب ، فنزلتُ وعدتُ أطير على ارتفاع مترين أو أكثر من ذلك حتّى دخلتُ جامع العباس فدرتُ حوله نصف دائرة ، أي كنتُ أطير في الجهة التي فيها الظلّ ، أمّا الجهة التي تقع عليها أشعة الشمس فلم أتمكّن أنْ أذهب إليها لأنّ شعاع الشمس يغلب على بصري فلا أرى طريقي بل أكون كالأعمى لا أرى شيئاً .   

   وهكذا ذهبتُ وأنا طائر والناس تحتي ما بين ماشٍ وقاعد وبين راكعٍ وساجد لا يراني أحدٌ منهم سوى الأرواح والجنّ ، وكنتُ حينها أتجنّب كلّ طائرٍ يتّجه نحوي فأزول عنه لئلاّ يمزّق أحشائي بصدمتِه مرّةً أخرى ، وكنت أرتاح إذا صار طريقي في مكانٍ مظلم أو في الظلّ ، وكنت أرى من بعيد ويكون بصري قوياً [12] أمّا إذا صار طريقي في الشمس فأكون هناك كالأعمى لا أرى شيئاً سوى غشاءٍ أبيض يكون على بصري [13] وإذا صار طريقي في مكانٍ كثير الضياء فكنت هناك لا أرى إلاّ الشيء القريب منّي ، وكانت الشمس تزعجني كثيراً ، ولَمّا كان صحن العباس مكشوفاً والشمس تشرق عليه فقد أزعجتني أشعّتها وآذتني حرارتُها والطيور تخاطفتني عن يميني وعن شمالي وأنا أحاذر منها ، فتركتُ الصحن و رجعتُ إلى الدار من الطريق الذي جئتُ منه فرأيتُ والدتي جالسة في مكانِها وجسمي المادّي لم يزلْ في حجرها وهي تبكي وتقول : "مات ابني"

فتخاطبها عمّتي وتقول لَها : "لا تبكي ؛ لقد أغمِيَ عليه وليس بِميّت"

فتجاوبها والدتي وتقول لَها : "لقد مضى عليه ساعة من الزمن ولم يفق من إغمائه وقد رششنا على وجهه الماء فلم ينتبه ولذعناه بالعطّابة فلم ينتبه وإذاً هو ميّت ."

فتجاوبها عمّتي وتقول لَها : "إلمَسي رجليه فإنّهما ساخنتان فلو كان ميتاً لبرد جسمه"

وهكذا كانت المحاورة بين عمّتي ووالدتي ، فلمّا سمعتُ بكاء والدتي ومحاورتها مع عمّتي خفتُ من ذلك المشهد ومن تلك المحاورة وقلتُ للفتاة التي أعطتني ثوباً : "ما بال والدتي تبكي وتندب وتقول مات إبني؟ "

فقالت : "ألست ميّتاً ؟ "

فأجبتها بعصبيّة وحدّة : "كلاّ أنا حيٌّ لم أمُتْ ولن أرضى بالموت ولا أريد أن أموت "

قالت : "إذاً ستعود إلى جسمك" قلتُ : "أين جسمي؟ " قالت : "ألا تراه في حجر أمّك وهي تبكي عليه ؟ "

   فحينئذٍ عرفتُ أنّ ذاك هو جسمي وإنّما أنا روح كما قال لي ذاك الرجل العريان الذي أسعفني ؛ حينئذٍ خفتُ من الموت ومن انتهاء أجلي فقلتُ قي نفسي : "سأعود إلى جسمي وأرى هل يستوي جالساً أمْ يبقى على حالته : فإنْ جلس فقول عمّتي هو الصحيح وأنا حيّ ، وإنْ بقِيَ على حالته فهو ميّت وقول أمّي هو الصحيح " ،

ثمّ سألتُ الفتاة : "كيف أعود إلى جسمي ومن أيّ مكانٍ أدخل ؟ "

قالت : "أدخل من منخر أنفه " ،

قلتُ : "وكيف يمكنني هذا وهو ثقبٌ صغير؟ " ،

قالت : "كما أمكنك الخروج من شقوق الباب كذلك يمكنك الدخول من ثقب الأنف" ؛ فلمّا رأت أني عازم على العودة لِجسمي قالت : "إذا كنتَ عازماً على العودة فانزع الثوب وناولني إيّاه " ،

قلتُ : "لماذا؟ " ،

قالت : "لأنّك عازمٌ على العودة إلى جسمك" ،

قلتُ : "إنّ الثوب يسترني فكيف أنزعه وأبقى عرياناً ؟ " ،

قالت : "سيسترك جسمك إنْ عدتَ إليه ، فلم أوافق على انتزاع ثوبي ولكنّها ألَحّت عليّ وأصرّت على أخذه فنزعته وأعطيتها إيّاه ثمّ دخلتُ جسمي من منخر الأنف  ولبسته كما ألبس الثوب ، فانتبهتُ من إغمائي وفتحتُ عينيّ وقد انتهت رحلة الموت هذه وعدتُ إلى الحياة المادّية ثانيةً ، فرأيتُ رأسي في حجر أمّي وقد عصبوه بعصابة سوداء فحينئذٍ شعرتُ بالألم في رأسي ، فقصصتُ قصّتي على والدتي وما شاهدتُه في رحلتي القصيرة التي استغرقَتْ ساعة واحدة من الزمن ،

فتشاءمَتْ من ذلك وقالت : " أسكتْ ولا تحدّثني بِهذا الحديث ولا تعُدْ إلى ذلك مرةً أخرى" ،

فقلتُ : "ولِمَ يا أمّاه ؟ إنّها رحلة جميلة" ،

فقالت : "إنْ عدتَ إلى مثل هذه الرحلة فإنّك تموت ."

   ولَمّا ذكرتُ لَها عن عمّي علي الذي رأيتُه في سردابنا تعجّبَتْ وقالت بلهفة : "رأيتَ عمّك علي؟ " ، وسمحت لي أن أقصّ عليها ما رأيتُ في عالَم الأرواح ،

فقلتُ لَها : "ومَنْ هو عمّي علي؟ " ،

فقالت : "كان لك عمٌّ اسمه علي مات شاباً لم يتزوّج وكان موته قبل مجيئك إلى الدنيا" .

ولَمّا جاء والدي من السوق قصّت عليه الحادثة فجاء والدي يسألني ويتأكّد من صحّة ذلك ويسألني عن عمّي وأين رأيته وما هي صفاته فحدّثته بما رأيتُ فصدّقني بما قلتُ لأنّي أعطَيتُ أوصاف عمّي ولم أكن قد رأيته من قبل ولم أكن أعلم به ولا بموته .

   فبقيتُ مريضاً بضعة أيّام على أثر تلك الحادثة ثمّ شفيت وأحمد الله الذي شافاني وعلى بعض آياته أطلعني وأراني ، وقد ذكرتُ هذه الحادثة باختصار في كتابي الإنسان بعد الموت  ولكن مع الأسف فقد أنكرها بعض الناس وصدّق بِها آخرون ، وسيصدّق من كذّب إذا رأى بنفسه ما رأيت ، وذلك حين موته وانتقاله إلى عالم النفوس ويندم حيث لا ينفع الندم .

   وإليك بعض ما دار بيني وبين والدتي من استفسار بعد انتباهتي :

   قلتُ : "أمّاه رأيتُ بنت عمّي الكبرى أشعلت النار في صوفة ثمّ أخمدتها ووضعتها على رأس الصبيّ الذي كان في حجرك ، ثمّ جاءت عمّتي بعُصابة سوداء وشدّت بِها رأسه ، فلماذا فعلتا ذلك ؟ "

   قالت : "كان ذلك لِتضمّد الجرح الذي في رأسِك ، وأنتَ الذي كنتَ في حجري ."     

   قلتُ : "كلاّ لم أكنْ أنا في حِجرك بل كان صبيّ لا أعرفه وقد وضَعَت بنت عمّي الصوف على رأسِه وليس على رأسي إذ أنا سالم لا أشكو وجعاً في رأسي ولا جرحاً أصابني ."

   قالت : "إذاً أين كنتَ حينئذٍ ؟"

  قلتُ : "كنتُ واقفاً قربَكنّ في السرداب أرى ما تضعن وأسمع ما تتكلّمن ." وسكتُّ برهة ثمّ اعتراني سؤالٌ آخر .

   قلتُ : "أمّاه أنا كنتُ أكلّمكِ فلا تسمعين ، لِماذا ؟ "

   قالت : "متى كنتَ تكلّمني ؟ "

   قلتُ : "حين كنتِ تبكين والصبيّ الميّت في حجرك ."

   قالت : "لم أكن أسمع لكَ صوتاً " . وسكتُّ برهة ثمّ اعتراني سؤالٌ آخر .

   قلتُ : "أمّاه لِماذا لم أتمكّن من فتح باب الدار وقد تقطّعت أصابعي ولم تُفتَح ؟"

   قالت : "ها هي أصابعكَ سالمة لم تتقطّع ."

   قلتُ : "لقد أرشدتني الفتاة التي أعادتها فوضعتُها في أماكنِها فالتَصَقت بكفّي وعادت كما كانت ."

   قالت : "لعلّها رؤيا رأيتَها ."

   قلتُ : "كلاّ لم تكن رؤيا ولكن حادثة واقعيّة ."

   قالت : "لا يهمّك ! أصابعك سالمة الآن ." وسكتُّ برهة ثمّ اعتراني سؤالٌ آخر .

   قلتُ : "أمّاه أنا يمكنني أن أطير ، لماذا ؟ "

   قالت : "كيف تطير ومتى كان ذلك ؟ "

   قلتُ : "لقد طرت ورحتُ إلى صحن العبّاس وشاهدتُ أشياء كثيرة ."

   قالت : "كنتَ روحاً ولذلك أمكنك أن تطير ."

   قلتُ : "حقاً أمّاه لقد قال لي ذلك الرجل الذي أسعفني أنتَ روح ، فما معنى روح ؟ "

   قالت : "لم تفهم اليوم معنى الروح ولكن لَمّا تكبر تفهم ذلك ."

   قلتُ : "أمّاه لِماذا لم أتمكّن من أن أقبض على الطير وأسيطر عليه بل كان يخرج من بين أصابعي ويقطّعها بقوّته ؟ "

   قالت : "لأنّك كنتَ روحاً ولذلك لم تتمكّن من إخضاعه ."

   قلتُ : "أمّاه لقد رأيتُ رجلاً عرياناً لم يلبس شيئاً من الثياب على جسمه ، لِماذا ؟ "

   قالت : "لعلّه مجنون ."

   قلتُ : "كلاّ لم بكن مجنوناً لأنّه أرشدني وأسعفني ."

   قالت : "لعلّه فقير لا يملك ثوباً ."

   قلتُ : "لقد رأيتُ كثيراً من الفقراء وهم يرتدون بعض الملابس ولو كانت ممزّقة أو مرقّعة ، ولم أرَ فقيراً عرياناً مثل هذا ."

   ثمّ قلتُ : "لقد رأيتُ رجلاً واقفاً في السرداب فقالت الفتاة التي أعطتني ثوباً : هذا عمّك علي تعال سلِّم عليه ، فمن هو عمّي ؟ "

 قالت : "كان لكَ عمٌّ اسمه علي مات شاباً لم يتزوّج وكان موته قبل مجيئك إلى الدنيا ، فما هي أوصافه ؟" ولَمّا أعطيتها أوصافه صدّقَتني .

   وهكذا جرت بيننا محاورات فكانت تفهم بعض ما أقول وتجيبني عليه ، وبعضها لا تتصوّرها فتظنّها رؤيا فتسكت عنها أو تجيب بجواب غير مقنع .

   هذا ما شاهدته بنفسي في عالم الأرواح ، وأما الذي سمعته وقرأته فكثير ، وإليك بعضها :

 

 

مريض في المستشفى

   حدّثني عبد المجيد رشيد إمام وخطيب جامع عثمان أفندي الواقع قرب سوق السراي ببغداد ، قال : عدتُ مريضاً يوماً من الأيام في المستشفى الجمهوري ببغداد [بنيت بمكانه مستشفى مدينة الطب حالياً] ، وكان المريض قد دهسته سيارة فأصابت رأسه فانفطرت جمجمة رأسه ، فبقي نائماً في المستشفى أكثر من شهر : فكان يغمى عليه تارةً ويصحو تارةً أخرى ، وقد استيأس الأطباء من شفائه .

   ولما جلست عنده كان مغمى عليه وكان أبوه جالساً عنده ، وعندما أفاق المريض من إغمائه سألته عن أحواله فأجابني ، وصدفةً دخل صالة المرضى بائع الصحف والمجلاّت فقال له أبوه : "هل أشتري لك مجلة تطالع فيها وتلهو عن المرض ؟" قال المريض : " لقد طالعت هذه المجلات كلّها قبل ثلاثة أيام أنا وفلان وفلان (وعدّد أسماء بعض أقاربه الأموات) وكنا نذهب كلّ يوم إلى بائعي الصحف ونطالع ما فيها من أخبار وحوادث ، وسأنبئك بما في هذه المجلاّت من حوادث وأخبار ، ففي هذه المجلة في الصحيفة الخامسة كذا وكذا من أخبار ، وفي الصحيفة السابعة القصّة الفلانية ، وفي الصحيفة التاسعة الحادثة كذا" .

   وهكذا أخذ المريض يسرد علينا ما في تلك المجلاّت من حوادث وأخبار ، فاشترى أبوه إحدى تلك المجلاّت ليرى كلام ابنه المريض هل هو صحيح كما أخبر عنها أم هو مجرّد هذيان ولغو ، فلما فتح تلك الصفحات التي أنبأ عنها المريض فإذا هي كما أخبر عنها المريض ، فتعجّبنا من ذلك . وبعد أيام مات المريض وانتقل إلى عالم الأرواح ليلتقي بأهله وأقاربه كما التقى بهم من قبل .

   وهذه القصة إن دلّت على شيء فإنّما تؤكّد أنّ الموت هو انتقال من دار إلى دار ، وأنّ الإنسان لا يعدم من الوجود بل هو حيّ إلى الأبد .    

 

 

أبيات على قبر

وُجِدَتْ هذه الأبيات على قبر السهروردي ، وهي ما نظمه :

قل لأصحابي رأوني ميّتاً     فبكوني إذ رأوني حزنا

لا تظنّوني بأني ميّتٌ     ليس ذا الميّتُ واللهِ أنا

أنا عصفورٌ وهذا قفصي     طِرْتُ منهُ فتخلّى رهَنا

وأنا اليومَ أناجي ملأً     وأرى الله عياناً بِهَنا

فاخلعوا الأنفسَ عن أجسادها    لترَوْنَ الحقَّ حقاً بيّناً

لا تَرُعْكم سَكرةُ الموتِ فما     هيَ إلاّ انتقالٌ من هنا

عنصرُ الأرواحِ فينا واحدٌ     وكذا الأجسامُ جسمٌ عمَّنا

فمتى ما كان خيراً فَلَنا     ومتى ما كان شراً فَبِنا

فارحموني ترحموا أنفسَكم     واعلموا أنّكم في إثرِنا

من رآني فليقوّي نفسَهُ     إنّما الدنيا على قَرنِ الفنا

وعليكم مِن كلامي جملةٌ     فسلامُ اللهِ مدحٌ وثَنا

 

  

ما هي الأرواح

   إنّ كلمة (روح) المتداولة بين الناس تسمّى في القرآن (نفس) ، وذلك من قول الله تعالى في سورة الشمس {وَنَفْسِ وَ ما سَوّاها . فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها} الواو للقسم ، وقوله {وَنَفْسِ وَ ما سَوّاها} يعني والجسم الذي كوّن النفس وأنشأها [14]

وذلك لأنّ النفس تتكوّن من ذرّات أثيرية تدخل مسامات الجسم فتبني فيه هيكلاً جديداً أثيرياً يشبه الجسم تمام الشبه ، فهذا الهيكل الأثيري هو النفس المعروفة بالروح عند الناس ، فالجسم ما هو إلاّ قالب لتكوين النفس ، والإنسان الحقيقي هو النفس الأثيرية . وهذا قسم تهديد ووعيد ، ومعناه : ستخرج النفوس من الأجسام وقت الموت وتتمزّق الأجسام بعد الموت وتتلاشى فتكون تراباً ، أمّا النفوس فتكون في قبضتنا لا مفرّ لّها ولا خلاص من عذابنا .

وقوله {فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها} الضمير ]المستتر] في قوله تعالى {فَأَلْهَمَها} يعود إلى قوله {وَ ما سَوّاها} يعني الجسم الذي أنشأ النفس هو ألهمها فجورها وتقواها ، وذلك بالمصاحبة والمعاشرة ، فمن عاشر الفجّار صار فاجراً مثلهم ، ومن صاحب الأتقياء صار تقياً مثلهم ، كما قال الشاعر :

صاحِبْ أخا شرفٍ تَحظَى بِصُحبتِهِ          فالطبعُ مكتسبٌ مِنْ كلِّ مصحوبِ
        كالريحِ آخذةٌ مِمّا تمرُّ بِــــهِ          نتناً مِنَ النتنِ أو طِيباً مِنَ الطِّيبِ
 

 وقال تعالى في سورة الأنعام {ولَوْ تَرَى إذِ الظّالِمُونَ في غَمَراتِ المَوْتِ والمَلائكَةُ باسِطُو أيْدِيهِمْ ، أخْرِجُوا أنْفُسَكُمْ} ، فقوله تعالى {والمَلائكَةُ باسِطُو أيْدِيهِمْ } يعني مادّين أيديهم إلى هؤلاء الذين حضرتهم الوفاة يقولون لهم {أخْرِجُوا أنْفُسَكُمْ} يعني أخرجوا من أجسامكم ، والخطاب للنفوس ، فتأخذهم الملائكة إلى عالم النفوس حيث العقاب والعذاب . وقال تعالى في سورة ق {و جاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائقٌ و شَهِيدٌ} فالسائق هو أحد الملائكة يسوق النفس إلى النار أو إلى الجنة ، والشهيد هو الذي يشهد عليها بما عملت في دار الدنيا من حسنات أو سيّئات .وقال تعالى في سورة النحل {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُون} .

أمّا كلمة (روح) في القرآن يريد بِها جبرائيل ، ومن ذلك قوله تعالى في سورة مريم {فَأرْسَلْنا إلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيّاً} يعني فأرسلنا إليها جبرائيل فتمثّل لها بصورة بشر . وقال تعالى في سورة الشعراء {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ . عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ} يعني نزّل القرآن عليك يا محمّد جبرائيل فهو الروح الأمين . وقال تعالى في سورة الإسراء {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}، فالروح الذي سألوا عنه هو جبرائيل ، ولذلك جاء ذكره على الإفراد فقال تعالى {عَنِ الرُّوح} ولم يقل عن الأرواح ، وكلّ كلمة روح تأتي في القرآن يراد بها جبرائيل .

 

 

حادثة إغماء

   نقلت هذه الحادثة عن كتاب "الأرواح" للشيخ طنطاوي جوهري في صفحة 16 قال :

   "روى الدكتور جيبيه في كتابه (تحليل الأشياء) ما يأتي تعريبه :

   حدّثني شابّ له من العمر ثلاثون سنة نقّاش ماهر في صناعته قال : دخلت منذ أيام منزلي نحو الساعة العاشرة ليلاً وقد اعتراني نوع غريب من الإعياء فأوقدت المصباح ووضعته على مائدة بالقرب من سريري ثمّ أشعلت سيكارة وتمدّدت على مقعدي قصد الاستراحة . وما كدت أسند رأسي إلى ظهر الكرسي حتّى شعرت بالأشياء المجاورة أخذت تدور من نفسها واعترتني دوخة شديدة انتقلت على أثرها فجأة ومن دون انتباه إلى وسط الغرفة فعجبت لِهذا الانتقال الغريب .

   ولا تسل عن اندهاشي لمّا نظرت إلى ما حولي فرأيت جسمي متمدّداً على المقعد برخاوة ويساري مرفوعة على رأسي والسيكارة بين أصابعها . ففي أوّل وهلة ظننت نفسي نائماً وأنّ ما أراه حلماً وإذ لاحظت بعد هنيهة أنّي لم أرَ قطّ حلماً واضحاً كهذا خلتُ نفسي ميّتاً ، وإذ ذاك خطر على ذهني ما كنت سمعته عن وجود الأرواح وقلت في ذاتي أنّي أصبحت روحاً وتذكّرتُ كلّ ما قيل لي في هذا الموضوع وأسفت بمرارة على نهاية حياتي قبل إكمال بعض أعمالي .

   ثمّ دنوت من جسمي الذي كنت أخاله جثّة فرأيت فيه من حركة التنفّس ما نبّه خاطري ونظرت إلى صدره فعاينت القلب من داخله يطرق بنظام طرقات ضعيفة فتأكّدت حينئذٍ أن قد اعتراني إغماء غريب في بابه وقلت في نفسي إن من يُغشى عليهم لا يتذكّرون ما يصيبهم وقت الإغماء وخفت أن أفقد ذكر ما أراه بعد إفاقتي من الغشيان . وإذ أمنت قليلاً أمر الموت صرفت ذهني إلى ما حولي وتغاضيت عن جسدي الراقد على المقعد فنظرت إلى المصباح وإذ رأيته مشتعلاً بالقرب من سريري خفت على الستائر أن تلتهب بفعل الحرارة فقصدت أن أطفئ المصباح فأمسكت زرّ الفتيلة وعبثاً حاولت برمه مع أنّي كنت أشعر جيّداً بدقائق الزرّ بين أصابعي ولكنّي لم أقوَ على تحريكه بتاتاً . ثمّ صرفت نظري إلى نفسي فرأيت ذاتي كأنّي متّشح بلباس أبيض[15] ويدي تخترق جسمي بسهولة وإذ وقفت تجاه المرآة فبدلاً من أن أرى صورتي مرتسمة عليها شعرت بنظري يمتدّ إلى ما وراءها فرأيت الجدار ومؤخّر الصور والأمتعة الموجودة في غرفة جاري مع أنّه لا وجود للنور فيها ؛ إنّما كنت أستضيء بشعاع نور ينبعث من صدري وينير الأشياء الواقع نظري عليها .

   فخطر ببالي أن أدخل غرفة جاري التي لم أرها قطّ قبلاً وهو كان متغيّباً وقتئذٍ عن باريس فما كدت أشعر برغبتي هذه حتّى عاينت نفسي داخل الغرفة ولا أدري كيف تمّ هذا الانتقال السريع ، إنّما على ظنّي اخترقت الجدار كما اخترقه نظري . فأخذت أتجوّل في مخادع جاري لأوّل مرّة وأحفظ في ذهني ما أراه فيها ثمّ دخلت مكتبته وقرأت أسماء بعض كتب موضوعة على الرفوف وكلّما قصدت الانتقال من مكانٍ إلى آخر كنت أصير حيثما أرغب بلمح البصر وبمجرّد إرادتي .

   ومنذ ذلك تشوّهت أفكاري وما عدت أذكر شيئاً ، فقط أعلم أنّي كنت أنتقل إلى أماكن بعيدة جداً إلى إيطاليا على ما أظنّ ولكن لست أدري ما رأيت وعملت فيها إذ لم يعد لي سلطة على ضبط أفكاري وهي تنقلني حيثما توجّهت قبل أن أتولّى زمامها ؛ فحمقاء المنزل كانت وقتئذٍ معها المنزل إلى أن صحوت الساعة الخامسة صباحاً وأنا متوسّد المقعد بارد الجسم متشنّج الأعضاء وسيكارتي بيدي مطفأة . فقمت إلى سريري واعتراني نفاض مزعج نمت على أثره بضع ساعات وما استيقظت إلاّ ضحى النهار .

   واستنبطت في ذلك اليوم حيلة للدخول مع البوّاب إلى منزل جاري فتفقّدت الصور والأثاث وأسماء الكتب فرأيت كلّ هذا طبق ما عاينت وقت الإغماء إلاّ أنّي لم أكلّم أحداً بالحادثة حذراً من أن ينسبوا لي الجنون أو الهذيان ." انتهى .  

 

 

أغرب رحلة في عالم ما بعد الحياة

   نقلتها عن مجلة (صوت الطلبة) العدد 115 نيسان 1978 السنة التاسعة صحيفة 36 عن شاب أمريكي توقّف قلبه فجأة ومرّ بلحظات وفاة حقيقية في مستشفى الجامعة في كاليفورنيا قبل أن يسعفه الأطباء ويعيدوا الحركة إلى قلبه المتوقّف عن الحركة . قال : "أوّل شيء شعرت به كان ألماً شديداً انتابني فجأة حتّى شعرت بجسدي وقد تحوّل إلى عضلة متشنّجة .. بعد ذلك أخذ الألم يخفّ تدريجياً إلى أن اضمحلّ ، ثمّ انتابني إحساس بسلام عميق وسعادة كبيرة ، وكنت أحلّق في سماء غرفة المستشفى يحفّ بي نور ساطع بعد أن تركت جسدي مسجى على السرير ، وعلى حين غرّة لاحظت أني لم أكن وحدي ، فوالدي الذي توفي منذ فترة قصيرة كان إلى جانبي وحيّاني ، وذهبت البقية الباقية من الخوف من نفسي .. لحظات وانطفأ النور من حولي وغمرني الظلام بجوانحه وأفقت على ألم حاد في صدري ففتحت عيني ورأيت وجوه الأطباء المنحنين فوقي ، وكانت ردّة الفعل الأولى عندي شحنة هائلة من الغيظ ورحت أصرخ في وجوههم : لماذا لم تتركوني هناك حيث كنت ؟ "

 

 

الممرّضة ماتت ساعتين

   في الرابع والعشرين من شهر آذار 1946 وقع في مستشفى صوفيا الحكومي وفي الساعة الخامسة والنصف مساءً بالتحديد حادث مفاجئ وخطير .. فبينما كانت الممرّضة المساعدة بنكانا ديانوفا – 18 سنة – تقوم بتطهير الأدوات الطبية استعداداً لإحدى العمليات الجراحية ، لمست بالخطأ شريطاً كهربائياً عارياً ، فسرت في جسدها دفعة كهربائية عنيفة جعلتها تخرّ إلى الأرض جثة بلا حراك . وقد فشلت كلّ الجهود ومحاولات الأطباء لإعادة قلبها إلى الحركة ، وسواءً بالحقن أو بالتنفّس الاصطناعي ، وأمام هذا الواقع قرّر رئيس أطباء المستشفى إجراءً يائساً وأجرى عملية طارئة فتح بموجبها قفص صدر الفتاة المتوفّاة وراح يدلّك قلبها بيده طيلة عشر دقائق ، ثمّ عشرين دقيقة ، لكن بلا نتيجة ، ولم ييأس بل ظلّ يثابر على التدليك ، وبعد سبع وثلاثين دقيقة ارتعشت العضلة القلبية في الصدر المفتوح والدامي ، عندئذٍ راود الأمل الجرّاحين . لكنّ القلب توقّف ثانية عن النبض واضطرّ رئيس أطبّاء المستشفى إلى متابعة التدليك على مدى ساعتين كاملتين إلى أن عاد القلب إلى حركته ثانيةً ، ولكن هذه المرّة بصورة قوية ومستمرّة ، وأنقذت الممرّضة من الموت ، وكانت قصّتها في اليوم التالي تحتلّ أبرز العناوين في صحف بلغاريا والعالم كلّه ، إذ لم يحصل قبل ذلك أن أعيد شخص للحياة بعد ما اعتُبِر ميتاً لساعتين كاملتين .

   وقد وصفت الآنسة ناديانوفا شعورها وهي على عتبة الموت ، أو حتّى في أحضان الموت بقولِها : " وجدت نفسي في عالم عجيب ، إذ كانت الشمس ساطعة والمروج الخضراء تعمّ كلّ مكان ، وكنت أتحرّك بسهولة وخفّة وكأنّني أطير ؛ لقد كنت في الجنة تماماً كما تخيّلتها وأنا طفلة ، ولم أشعر في حياتي كلّها مثل ذلك الشعور بالسعادة والاطمئنان الداخلي ..."

 

[ربّة البيت الأمريكية بيتي باترسون]

   أمّا ربة البيت الأمريكية بيتي باترسون التي اعتُبِرت متوفّاة من الوجهة الطبية بعد انفجار الزائدة الدودية عندها ، فقد تذكّرَت لحظة موتِها بعدما أعيدت إلى الحياة ، وقالت في هذا الخصوص : "لقد أحسست كيف أنّ نفسي استُلّت من جسدي وارتفعت إلى سقف الغرفة التي كنت فيها .. ومن هناك كنت أشاهد جسدي ممدداً على طاولة العمليّات .. وفجأة أحاط بي نور لطيف وموسيقى ناعمة وانتابني على الأثر شعور اطمئنان وسلام داخلي لم أحسّ بِهما من قبل ذلك قطّ في حياتي ..."

 

 

صورة كيرليان الغريبة

   "إنّ عدم نجاح العلم حتى الآن في برهنة وجود الروح بصورة علمية محضة لا يعني إطلاقاً أنّها غير موجودة ، فالاشعاعات الكونية القادمة من عالم الفضاء والتي تتساقط على كوكبنا منذ ملايين السنين كانت موجودة دائماً وأبداً قبل أن يتوصّل العلماء إلى برهنتها ، كما أنّ أشعة رونتجن كانت موجودة دائماً وأبداً قبل أن يتوصّل العلماء إلى برهنتها وقبل أن يتوصّل العالِم الفيزياوي من إثباتها والتوصّل إلى جعلها مرئية . إنّ جوّ الأرض مشبّع بملايين الأنغام الموسيقية التي تبثّها إذاعات العالم ، وكذلك صور محطّات التلفزيون المختلفة ، لكنّ هذه الأنغام والصور لا يمكننا التحقّق منها إلاّ عن طريق جهازي الراديو والتلفزيون ، وهناك أصوات لا يمكننا سماعها وكذلك أضواء لا يمكن مشاهدتها وهي موجودة مع ذلك .

   والسؤال هو هل ينقصنا يا ترى جهاز القياس الخصوصي الذي يصوّر لنا ما نسمّيه (الروح) أو (النفس) ؟

   في (كراسنودار) توصّل المهندس السوفياتي سيمون كيرليان ، بواسطة جهاز استقبال فني جديد ، إلى جعل الطاقات الإشعاعية التي تندفع من أجسام الكائنات الحية تبدو مرئية .. بل إنّ (صورة كيرليان) التي ابتدعها هذا المهندس تسمح برؤية أجسام عضوية لم تعد موجودة أصلاً .. فقد ظهر على (صورة كيرليان) شخص بساقيه العاديتين علماً بأنّ إحدى ساقيه كانت قد بترت سابقاً .

   وخطا كيرليان خطوة أخرى هامة إلى الأمام : لقد تمكّن من الإثبات أنه في لحظة موت حيوان الاختبار تغادر شرارات الطاقة الجسدية الجسد المادي ببطء وتنطفئ ، فهل كانت تلك الشرارات ما نسمّيه (الروح) ؟" هذا ما نقلته لك من مجلة (صوت الطلبة) .                                         

 

 

كشف الحقيقة

     لقد تبين لي وثبت عندي مما شاهدته بنفسي في عالم الأرواح ومما قرأته في الكتب السماوية في التوراة والزبور والإنجيل والقرآن بأنّ النفس هي الإنسان الحقيقي فهي التي تُحاسَب وهي التي تُثاب وهي التي تُعاقَب وهي التي تشعر بالآلام وتشعر بالنعيم وهي التي تدخل النار أو الجنة ، وما الجسم إلاّ قالب تكوّنت فيه النفس ولا حاجة فيه بعد الموت ولا لزوم لأعادته إذ أنّ النفوس باقية إلى الأبد لا تموت ولا تفنى ولكن بعضها في نعيم وبعضها الآخر في جحيم كلٌّ حسب إيمانه وأعماله فإن كان من المؤمنين الصالحين فمثواه الجنة فهو في نعيم دائم ، و إنْ كان من الكافرين أو المشركين فمثواه النار فهو في عذاب دائم .

 قال الله تعالى في سورة البقرة {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ} ، والمعنى : لا تظنّوا أنّ هؤلاء الذين قتلوا قي سبيل الله انتهت حياتهم لأنّكم ترون أجسامهم ملقاة على الأرض ودماءهم تسيل بل هم أحياء ولكن لا تشعرون بهم لأنّكم ترون الأجسام ولا ترون النفوس ؛ والإنسان الحقيقي هو النفس لا الجسم .

   وقال تعالى في سورة آل عمران {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} ، فقوله تعالى {عِندَ رَبِّهِمْ} يعني في الجنات الأثيرية تحت العرش يرزقون من ثمارها ويشربون من أنهارها ، فلو أنّ الله تعالى قصد يذلك أجسامهم لقال : أحياء في القبر يرزقون .

   وقال تعالى في سورة ي س في الرجل الصالح غمالائيل لَمّا مات {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ . بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} ، فهل يقال لجسم ميت ادخل الجنّة ؟ كلاّ بل القول لنفسه لا لجسمه لأنّ النفس باقية لا تفنى ، ولمّا دخلت نفسه الجنّة الأثيرية حينئذٍ قال {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} .

   وقال تعالى في سورة الحج {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} ، فقوله تعالى {لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ} يعني يرزق نفوسهم لأنّ النفوس باقية لا تفنى .

   وقال تعالى في سورة النساء {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} يعني معهم في الجنان يتنعّمون .

    وقال تعالى في سورة نوح حاكياً عن قومه {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} ، فلما كانت أجسامهم غرقى في الماء فأين تكون النار منهم ؟ ولكن المعنى : أغرقت أجسامهم في الماء وأدخلت نفوسهم في النار ، واعلم أنّ دخول الجنّة في عالم البرزخ هو خاص لبعض النفوس ، وكذلك دخول النار .

   وقال تعالى في سورة فاطر {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} فلو كان الإنسان يدخل النار بجسمه المادّي فكيف لا يموت وهي نار جهنّم وإنّ أقلّ نار من نار الدنيا تميت الإنسان ؟ ولكن لَمّا كان العذاب للنفوس جاز أن يقول { لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} لأنّهم نفوس والنفوس لا تموت ولو في النار .

  وقال تعالى في سورة إبراهيم {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} ، وقال تعالى في سورة طه {إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى} يعني لا يموت فيستريح من العذاب ولا يحيى حياة طيبة .

   وقال أبو العلاء المعرّي :

خُلـقَ النـاسُ لِلبقـاءِ فَضَلّـتْ         أمّــةٌ يَحسَبونـهـم للـنـفـادِ 
إنمـا يُنقَلـون مِـن دارِ أعمـا            لٍ إلـى دارِ شِقـوةٍ أو رَشــادِ

   فالأجسام الميتة إذاً لا قيمة لَها ما بين المادّة ولا مكان لَها ما بين الأحياء ولا قدرة لّها على شيء لأنّها تتفسّخ بعد الموت وتكون تراباً ، ولا حاجة لأعادتِها إلى الحياة ثانية إذْ أنّها لا تصلح لطبيعة الحياة الجديدة . والنفوس باقية وهي الإنسان الحقيقي الذي يسمع ويبصر ويعقل ويشعر بالألم واللذّات .

  قال الله تعالى في سورة الفجر {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ . ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي . وَادْخُلِي جَنَّتِي} ، فإنّ الله تعالى قال {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ} ولم يقل يا أيّها الإنسان .

  وقال تعالى في سورة البقرة {وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} ، فإنّ الله تعالى خصّ النفوس بذلك دون الأجسام .

   وقال تعالى في سورة آل عمران {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} ، فإنّ الله تعالى خصّ النفوس بالمكافآت على أعمالِها دون الأجسام . والآيات كثيرة في القرآن التي تصرّح بأنّ الحساب والجزاء للنفوس دون الأجسام .

 

 

نفوس الأولياء

      لقد ثبت في الكتب السماوية بأنّ الأنبياء والأولياء والشهداء حين انفصالهم عن أجسامهم بالموت يصعدون إلى السماء إلى الجنان ولا يبقون على الأرض ، أمّا سائر الناس فيبقون على الأرض حتّى يستوفوا عقاب سيّئاتهم ثمّ يُحشَروا يوم القيامة للحساب والجزاء ، ومِمّا يؤيّد هذا قوله تعالى في سورة آل عمران في وصف الشهداء {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} أي عنده في الجنان الأثيرية تحت العرش ، وقال تعالى في سورة آل عمران في قصة عيسى بن مريم {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} يعني رافعه إلى السماء إلى الجنان . وقال تعالى في سورة النساء {بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } ، وقال تعالى في سورة مريم في قصة إدريس {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} يعني رفعه إلى السماء إلى الجنان ، وقال تعالى في سورة ي س في الرجل الصالح غمالائيل {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ . بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} ؛ فالأنبياء والأولياء إذاً يصعدون إلى السماوات حين موتهم ولا يبقون على الأرض .

 

 

قبور الأولياء

    لقد اتخذ أكثر الناس قبور الأولياء معبداً يعبدونَها ومزاراً يقدّسونَها ، فينذرون لَها النذور ، ويوقدون لَها الشموع ويبخّرون البخور ، فجعلوها أنداداً لله ، يطوفون حولَها كما يطوف الحاج بالكعبة ، ويقبّلون الأبواب والعتبة ، ويتبرّكون بالجدران والتربة ، ظناً منهم أنّ الأولياء فيها يسكنون ، ولقولِهم يسمعون ، ولطلبهم يستجيبون ، ولم يعلموا أنّها قبور خالية ، ليس فيها غير أجسام بالية ، لا تضرّ من جهة ولا تنفع من ناحية ، وأنّ أعمالهم هذه إشراك وسيّئات متتالية ، وأنّ الله تعالى يغضب على من يسأل حاجته من الأولياء والمشايخ ومِمّن رفعهم إلى جنّاته وأسكنهم في القصور ، ولهم فيها رزق ميسور ، وزوجات من الحور . فزيارة القبور لا فائدة فيها ، والبكاء عليها لا جدوى منه ، وفي ذلك قال الشاعر :

يا صاحبي لا تَبْكِ رَبعاً قد خلا           ودَعِ المنازِلَ تشْتكي طولَ البِلى 
منْ أين تدري الدَّارُ انكَ عاشقٌ                أوْ عنْدها خبرٌ بأَنكَ مُبْتلى 
  

   وطلب الحوائج من الأولياء لا طائل منه ، وهو نوعٌ من الإشراك ، وإنّ الله تعالى يغضب على من يسأل حاجته من الأولياء والمشايخ ومن يستعين بِهم ومن ينذر لهم ومن يقدّس قبورهم . فقد قال الله تعالى في سورة فاطر في ذمّ المشركين الذين كانوا يعبدون الملائكة ويعتقدون أنّها بنات الله {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ . إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} ، وإنّما قال تعالى {إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ} لأنّهم في السماوات لا يسمعون دعاء من في الأرض ، وقوله {وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} لأنّهم لا يملكون من الأمر شيئاً والأمر كلّه لله ، وقوله {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} أي يتبرّؤون منكم و ينكرون عليكم عبادتكم لَهم وتقديسكم إيّاهم ، ويقولون لكم : لماذا عبدتمونا ولم تجعلوا عبادتكم خالصةً لله ربّكم ، وهذه الآية تنطبق اليوم فيمن يعبد قبور الأولياء والمشايخ ويقدّسها ويسأل منها حاجته .

   وقال تعالى في سورة الأحقاف {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} يعني لو بقي يدعوه إلى يوم القيامة لا يستجيب له ولا يقضي حوائجه لأنّ الأولياء في الجنان غافلون عن دعاء من يدعونَهم لا يسمعونَهم ولا يعلمون بِهم ,

 {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} أي ينكرون عليهم ويتبرّؤون منهم ولا يشفعون لهم .  

   وقال تعالى في سورة الأعراف {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} يعني فليقضوا حوائجكم إن كنتم صادقين بأنّهم يقضون الحوائج ويشفون المرضى ويفتحون عيون العمي .

  وقال تعالى في سورة العنكبوت {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ} يعني لا يستطيعون أن يرزقوكم فاطلبوا الرزق من الله وهو يرزقكم .

  وقال تعالى في سورة الإسراء {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً} يعني لا يتمكّنون من أن يدفعوا عنكم بليّة ولا ينجوكم من قضية .

  وقال تعالى في سورة آل عمران {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ}

  وما أحسن قول الشاعر:

لا تسألنّ بنيّ آدمَ حاجةً           وسَلِ الذي أبوابُهُ لا تُغلَقُ 
 

   فإن قلتَ أنا أجعلهم واسطة بيني وبين الله وهو يقضي حوائجي ، أقول في جوابك إنّ الأولياء لا يسمعون ليكونوا لك واسطة أو يشفعوا لك شفاعةً لأنّهم صعدوا إلى السماء إلى الجنان وتركوا الأرض ومن فيها ، ولذلك قال تعالى {إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ} .

      فإن قلتَ إنّهم يعلمون الغيب فيعلمون مقصدي فيسألون الله قضاء حاجتي ، أقول في جوابك : لا يعلم الغيب إلاّ الله تعالى ، فلا نبيّ أو وليّ يعلم الغيب ، والشاهد على ما أقول قول الله تعالى في سورة الأنعام {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ، وقال تعالى في سورة الأعراف {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ، وقال تعالى في سورة هود حاكياً عن قول نوح {وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ، وقال تعالى في سورة النمل مخاطباً رسوله الكريم {قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} ، وقال تعالى في سورة سبأ في نفي الغيب عن الجنّ {تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ، وقال تعالى في سورة الأنعام {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} .

   وهنا خطرت ببالي حادثة وقعت لي في زمن طفولتي وكان عمري حينئذٍ خمس سنين ، فسافرت والدتي من كربلاء إلى بغداد لزيارة أهلها بعد أن استأذنتْ من والدي وأخذتني معها ، ثمّ ذهبتْ إلى الكاظم للزيارة وأخذتني معها ، ولَمّا وصلنا الكاظمية اشترت لي شمعة برافين وأوقدتها وأخذتُها بيدي وأنا فرِح بِها ، ولَمّا وصلنا صحن الكاظم أخذها منّي بعض الخدم فأغاظني إذ سلبني شمعتي التي كنت مسروراً بِها ، ولَمّا دخلنا الرواق سألتُ والدتي أين الكاظم الذي جئنا لأجله زائرين ؟

 قالت  :  "هو داخل هذا الشبّاك.  فأمعنت النظر فيه فلم أرَ أحداً داخل الشبّاك ،

فقلتُ لَها :  "ليس داخل الشبّاك أحد ."

 فقالت :  "هو في القبر الذي داخل الشبّاك ."

 فقلتُ :  "إذاً هو ميّت ، فكيف تخاطبين الميّت وتسألين منه حاجتك وتطلبين منه أن يبقيني حياً لا أموت ؟"

 فقالت :  "هو حيّ يسمع كلامي ويفهم مرامي ."

 قلتُ :  "إذاً لماذا حبسوه في هذا القفص الفضّي فما كان ذنبه ؟"

قالت  "هذا مرقده وليس حبساً ."

   فلم أفهم حينئذٍ جوابَها ، فمرّةً تقول هو حيّ وهذا مرقده ، ومرةً تقول ميّت وهذا قبره .

   فإن شئت قضاء حاجتك فاذهب إلى بيتٍ من بيوت الله ، وهي المساجد والجوامع ، وصلِّ ركعتين لوجه الله واسأل حاجتك من الله وهو القادر على قضائها ، فقد قال تعالى في سورة النور {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ،وقال تعالى في سورة البقرة {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ، وقال تعالى في سورة غافر{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ، وقال تعالى في سورة الزمر {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ، وقال تعالى في سورة النمل {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} .

 

 

الاقتداء بالأولياء نجاح

   فإن شئت النجاة من العذاب والفوز بالجنان فاقتدِ بالأنبياء والأولياء في التوحيد وعبادة الله وحده تنجح ؛ ولا تشرك بعبادته أحداً من الأنبياء والأولياء فتخسر وتذهب أعمالك أدراج الرياح ، فقد قال الله تعالى في آخر سورة الكهف {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} ؛ فالعبادة لله أنواع فالصلاة عبادة والصوم عبادة وذكر الله عبادة وتعظيم الله وتقديسه عبادة والاستعانة به عبادة والنذر لله عبادة . فإن ذكرتَ أحد الأنبياء أو الأولياء مستعيناً به في قيامك وقعودك فقد أشركت ، ولا تجوز الاستعانة بِهم حتّى لو قلتَ (يا محمّد) وأنت تقرأ في صلاتك كلّ يوم {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ومعناه لله نعبد ولا نعبد غيره وبه نستعين ولا نستعين بغيره .

   وفي ذلك قال الشاعر :

  تلهج بإيّاكَ نستعين          وبغير الله تستعين

   فإنّ الأئمة الأبرار كانوا يستعينون بالله في قيامهم وقعودهم ولا يستعينون بالأنبياء ، وكذلك الصحابة ، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية في سورة آل عمران {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ} أي يذكرون الله حين قيامهم وحين قعودهم وحين اضطجاعهم على جنوبِهم . وقال الله تعالى في سورة الأحزاب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا . وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} يعني أذكروه على الدوام ، فإنّ الله تعالى قال {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} ولم يقل أذكروا إماماً ورسولاً ذكراً كثيراً . وقال تعالى في سورة الأعراف {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} أي على الدوام . وقال تعالى في سورة البقرة {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} ، وقال تعالى في سورة الكهف {وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} .

   فالاستعانة بالأنبياء والأولياء عند القيام والقعود لا تجوز وهي نوع من الإشراك ، والإشراك من أكبر الكبائر عند الله .

   وبعض الناس يسأل المدد بالخيرات من الأنبياء أو الأولياء فيقول (مدد يا نبي ، مدد يا ولي) -- وبعضهم يقول (يا علي مدد) وهذا نوع من الإشراك فالمدد بالخيرات والأرزاق هو من الله وليس من المشايخ والأولياء ، فقد قال الله تعالى في سورة الشعراء {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} ، وقال تعالى في سورة الإسراء {كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا} ، وقال تعالى في سورة المدثر{وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا . وَبَنِينَ شُهُودًا} ، وقال تعالى في سورة الأنفال {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ} .   

 

 

تشييد القبور خطيئة وتقديسها إشراك

   إنّ الغلوّ في تشييد قبور الأولياء وتزيينها بالزخارف والفضة والذهب والمعلّقات يدعو إلى تعظيمها ؛ لأنّ الإنسان مجبول على حب المال والزينة والفضة والذهب ، فقد قال الله تعالى في سورة آل عمران {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ} ، وتعظيم القبور يدعو إلى الإشراك لأنّ أكثر الناس يجعلون صفات الله في الأولياء فيعتقدون بأنّهم قادرون على إحياء الموتى وإماتة الأحياء وشفاء المرضى ، وقادرين على قضاء حوائج الناس ، وأنّهم يعلمون الغيب ولَهم معاجز لا تحصى ، إلى غير ذلك من افتراءات على الأولياء ، ولَمّا جعلوا فيهم صفات الألوهية ، فقد كفروا وأشركوا لأنّهم غالوا في حبّهم فجعلوهم خلفاء الله في أرضه أو وزراءه في خلقه . كما غالت النصارى في المسيح فقالوا المسيح ابن الله . وقد نهى الله سبحانه عن المغالاة في حب الأنبياء والأولياء فقال تعالى في سورة النساء {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ} ، فتشييد القبور يدعو إلى العظمة والعظمة تدعو إلى الإشراك ، والمشرك في النار .

 

[قصة النبي إدريس :  النبي إيليا ]

  فقد قال الله تعالى في سورة مريم في قصة إدريس {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا . وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} : هو النبي إيليا من أنبياء بني إسرائيل وكنيته إدريس لأنّه كان يدرّس التوراة لتلاميذه ، وفي السنوات (875-853 ق م) حارب العبادات الوثنية التي أدخلتها إيزابل زوجة الملك آخاب ، فنفي إلى صرفت حيث ردّ إلى الحياة إبن أرملة بدعائه وأهطل المطر على الأرض بإذن الله بعد انقطاعه عنها ثلاث سنوات قرب جبل الكرمل ، وخذل كهنة البعل وعشتاروث وأمر بقتلهم ، فلحقته إيزابل بوابل غضبها فهرب إلى صحراء سيناء ، ثمّ عاد فتنبّأ لآخاب بانتقام الله عليه لأنّه أشرك وعبد البعل مع زوجته إيزابل . رُفِع إلى السماء بعد موته ، أي رُفِع إلى الجنان ، وقد أخبر أصحابه بذلك قبل موته ، فخرجا خارج المدينة من الأردن هو وتلميذه إليشع يمشيان نحو الجبال المقابلة للمدينة فجاءت عاصفة من الريح فحملت إيليا وألقته على تلك الجبال فمات هناك وغطّت العاصفة جسمه بالأتربة والرمال فلم يعثر أصحابه على جسمه وصعدت نفسه الأثيرية إلى السماء . وكان ضياع جسمه في تلك الجبال بإرادة من الله ، كما مات هارون فوق الجبل ولم يعثروا على جسمه .

وكذلك موسى بن عمران وعيسى بن مريم : وذلك لئلاّ تشَيَّد لهم قبور فتعبد . أمّا قبر موسى الموجود حالياً في الخليل فهو قبر رمزي وليس قبره الحقيقي [جاء في الفصل الرابع والثلاثين من سفر التثنية من التوراة قال : "فمات هناك موسى عبد الربّ في أرض مؤاب بأمر الربّ . ودفنه في الوادي في أرض مؤاب تجاه بيت فغور ولم يعرف أحد قبره إلى يومنا هذا ."]  

   والغاية من ذلك لئلاّ تعبد بنو إسرائيل قبورهم بعد موتهم ، كما أصبحت اليوم قبور الأنبياء والمشايخ تعبد من دون الله عند بعض المسلمين . والذي تجدر الإشارة إليه هو أنّ سيرة وأعمال الأنبياء والصالحين  من الأولياء لا يمكن أن تعزّزها هذه الممارسات من الغلوّ ، ذلك لأنّ أعمالهم خالدة في ضمير كلّ مؤمن . 

 

 

معاجز الأنبياء

   لقد جعل الله لكلّ نبيٍّ من أنبيائه معجزة خاصة به دون غيره ، ولا يتمكّن ذلك النبيّ أن يأتي بغيرها من نفسه إن لم يأذن الله له فيها . مثلاً لو أنّ فرعون قال لموسى أنا لا أقبل منك هذه العصا التي تلقيها على الأرض فتكون حية ، ولكن أنا أعطيك عصا من عندي فألقِها على الأرض فلتكن حية ، فإنّ تلك العصا لا تكون حية بيد موسى إلاّ التي أعدّها الله لموسى وأمره أن يذهب بِها إلى فرعون . وهكذا جميع الأنبياء والرسل لا يمكنهم أن يأتوا بمعاجز من تلقاء أنفسهم إلاّ ما أعطى الله كلّ رسول من معجزة خاصّة به دون غيره . فقد قال الله تعالى في سورة الرعد {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ} ، فكلمة {آيَة} يراد بِها المعجزة ، والمعنى ليس لرسولٍ قدرة أن يأتي بمعجزة من تلقاء نفسه إلاّ المعجزة التي أعطاها الله إيّاها وأذِنَ له في استعمالِها .

   فإنّ المشركين من العرب طلبوا من النبيّ معاجز كثيرة فلم يسعِ النبيّ أن يأتيهم بواحدةٍ منها إلاّ القرآن الذي أنزله عليه جبرائيل بأمرٍ من الله عن طريق الوحي . وذلك من قوله تعالى في سورة العنكبوت {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} ، فقال المشركون : الكتاب وحده لا يكفي دلالة على دعوته ؛ إنّما نريد معجزة مادّية كعصا موسى وناقة صالح ، وذلك قوله تعالى في سورة الأنبياء حاكياً عنهم {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ} ، يعني فليأتِنا بمعجزة كما أرسل موسى بالعصا وأرسِل صالح بالناقة ، فردّ الله عليهم بقوله تعالى {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} ، والمعنى : لم يؤمن فرعون ولا قومه بموسى حيث أعطيناه العصا معجزة له ، وكذلك قوم صالح لم يؤمنوا به حيث أعطيناه معجزة مادّية وهي الناقة ، بل كذبوا بِها فانتقمنا منهم فأهلكناهم ، فكذلك قومك لن يؤمنوا إذا أعطيناك معجزة مادّية ورأوها بأعينهم ، بل يكذّبون ويقولون : هذا سحرٌ مبين ، كما قالت أسلافهم ، ولكنّنا أعطيناك معجزة علمية أحسن من المعجزة المادّية فادعُهم بِها ، وذلك قوله تعالى في سورة النحل {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} .

   ومع تصريح هذه الآيات وكثير مثلها في القرآن تصرّح بأنّ الأنبياء والرسل والملائكة لا يمكنهم أن يأتوا بمعجزة من تلقاء أنفسهم إلاّ المعجزة التي يعطيها الله لمن يشاء من أنبيائه ورسله ، نجد أكثر الناس يزعمون أنّ المشايخ والأئمّة لهم القدرة على إتيان المعاجز وقد جاؤوا بمعاجز كثيرة ، ولكن لا يسمّونَها معاجز بل يقولون هي كرامات الأولياء ، فالمعنى واحد ولكنّ الألفاظ مختلفة . أقول إنّ الأنبياء والأولياء لا يرضَون بِهذه الأعمال التي لا يرضاها الله ويبرؤون مِمّن يعملها ومن يشركهم في التعظيم والتقديس مع الله .   

 

 

الولاية لله والشفاعة بيده

    يجب على الناس أن لا تتمسّك بالأولياء والمشايخ والأئمة من دون الله وتقدّس قبورهم لأنّهم انتقلوا إلى السماء وصاروا في جوار ربّهم ولم يبقَ في الأرض منهم أحد سوى قبورهم الخالية إلاّ من الأجسام البالية .

   فقد قال الله تعالى في سورة الكهف {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاء إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا} ، وقال تعالى في سورة السجدة {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} ، فتأمّل قوله تعالى {مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ} يعني لا تتّخذوا أولياء من المخلوقين تقدّسونهم وتعبدونهم من دون الله وإنْ كانوا من الأنبياء أو الملائكة المقرّبين ، أو تتّخذونهم شفعاء لكم عند الله ، فإنّ الشفاعة بيد الله ولا يشفعون إلاّ لِمن ارتضاه الله . وقد قال تعالى في سورة الأنعام {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} ، وقال تعالى في سورة البقرة في آية الكرسي {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} ، وقال تعالى في سورة الزمر{قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، وقال تعالى في سورة البقرة {وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} ، وقال تعالى في سورة يونس {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} .

   وكذلك اليوم أصبحت أكثر الناس تعبد قبور الأئمة والمشايخ التي لا تضرّ ولا تنفع ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، كما عبد المشركون الملائكة في زمن الجاهلية وقالوا هؤلاء شفعاؤنا عند الله .

 

 

منهج التوحيد طريق الفلاح

    لقد أنزل الله تعالى حكماً قاطعاً في الكتب السماوية - في التوراة والزبور والإنجيل والقرآن - وأكّد عليه بلسان أنبيائه ورسله وأوصاهم بأن لا يعبدوا إلاّ الله وحده ولا يشركوا به شيئاً في العبادة ولا يقدّسوا شيئاً من المخلوقات ولا من المخلوقين ، فمن أشرك بالله أحداً من هؤلاء فمصيره جهنّم .

   فقد قال الله تعالى في سورة الزمر مخاطباً رسوله محمّداً خاتم النبيّين {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ . بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ} ، وقال تعالى في سورة النساء {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} ، وقال تعالى في سورة لقمان عن لسانه {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} وقال تعالى في سورة البينة {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} .

   وصور الإشراك مختلفة ومتعدّدة وليس الذي يعبد صنماً هو المشرك وحده ، فقد تعبد مزاراً أو قبراً لإمامٍ أو أحد المشايخ وفي ظنّك أنّه مجرّد مزار مقدّس تزوره وتقدّسه وتقبّل الأبواب والجدران ظناً منك أنّ هذا عمل صالح وأنّ الله يأجرك عليه ، ولكن ظنّك هذا خاطئ وأملك خائب وعملك إشراك وأنت معاقَب عليه ، لأنّ الله تعالى غيور لا يرضى أن تقدّس المخلوقات والمخلوقين أو تقبّل قبور الأنبياء والأولياء أو تقبّل الأبواب والجدران أو تركع لَهم بالتحية أو تنذر لَهم أو تستعين بِهم عند قيامك وقعودك أو تبكي عليهم أو تحلف بِهم ، فاليمين لا يجوز إلاّ بالله ، وحروف القَسم ثلاثة ، وهي الواو والباء والتاء (و ب ت) فتقول والله ، أو تقول بالله أو تالله . وقد علّمنا الله سبحانه في كتابه المجيد بأن نحلف به ولا نحلف بغيره ؛ فقال تعالى في سورة يونس مخاطباً رسوله الكريم {وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} ، وقال تعالى في قصة يوسف {قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} ، وقال تعالى في سورة التغابن {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} .

   فالتعظيم لغير الله إشراك ، واليمين بغير الله إشراك ، وتقبيل القبور وجدران الأضرحة والأبواب إشراك : فقد قال تعالى في سورة الكهف {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} ، فكذلك اليوم أصبحت أكثر الناس تشرك بالله في هذه الأعمال وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً ، وقد قالوا كما قال الأوّلون ، وذلك في سورة الزمر {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} ، وقال تعالى في  سورة يونس {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ} ، فإنّ قبور الأولياء لا تضرّ ولا تنفع ولا تقضي حوائج المحتاجين ، فقد قال تعالى في سورة المائدة {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ، وقال تعالى في سورة الإسراء {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} ، وقال تعالى في سورة الأعراف {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} . هذا بعض ما جاء في القرآن نهياً عن عبادة الأوثان والقبور والمزارات .

   وإليك بعض ما جاء في التوراة في هذا الخصوص :

·            فقد جاء في سفر لاويين (سفر الأحبار) في الفصل السادس والعشرين ، قال الله تعالى (لا تصنعوا لكم أوثاناً 1ولا منحوتات 2  ولا نصُباً 3 تقيموا لكم  وحجراً مزخرفاً 4 لا تصنعوا في أرضكم لتسجدوا له لأنّي أنا الربّ إلاهكم .)

[1 الوثن: بناء مرتفع مستدير يُنسَب لأحد الآلهة المزعومة أو لأحد القدّيسين كالمقام المتّخذ في زماننا مثل مقام الخضر ومقام الصادق وغير ذلك . 

2  المنحوتات : هي تماثيل المخلوقين كما تستعمله النصارى من تمثال مريم والمسيح والصليب وغير ذلك .

3  النصُب : هي أحجار ظاهرة تُنصَب في الجدار أو فوقه رمزاً لأحد الآلهة المزعومة أو لأحد الملوك أو لغيرهم ، ومثال ذلك حجر في إيران في "قدم كاه" يزورونه ويقبّلونه .

4  ما أكثر الأحجار المزخرفة في مراقد الأئمة والمشايخ ، وما أكثر من يقبّلها ويقدّسها ويتبرّك بِها في زماننا هذا .] 

·            وجاء في ألواح النبي موسى (ع ) في سفر التثنية في الفصل الخامس ، قال الله تعالى (لا يكن لك آلهةٌ أخرى تجاهي ، لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً صورةً ما مِمّا في السماء من فوق وما في الأرض من أسفل وما في الماء من تحت الأرض ، لا تسجد لَها ولا تعبدها لأنّي أنا الربُّ إلاهكَ إلاهٌ غيور .)

 

 

الله يغضب على المشركين

   إنّ الله تعالى يكره المشركين ويغضب عليهم ويبعدهم من رحمته ولا يغفر لَهم ذنوبَهم . فقد قال الله تعالى في سورة النساء {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} ، وقال تعالى في سورة المائدة  {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} ، وقال تعالى في سورة النساء {وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} ؛ فإن شئت أن تكون من الموحّدين فاجعل أعمالك خالصةً لوجه الله لا تشرك بِها أحداً من الأنبياء والأولياء : فلا تنذر للأنبياء والأئمة والمشايخ فإنّه إشراك ، ولا تستعِنْ بِهم عند قيامك وقعودك فإنّه إشراك ولو تقول يا محمّد ، وتقبيل قبورهم وأبواب مراقدهم وجدرانها إشراك ، وتقديسها والركوع لقبورهم بالتحية إشراك ، وسؤال حوائجك منهم إشراك ، فإنْ كانت لك حاجة فادخل أحد المساجد وصلِّ لوجه الله واسألْ حاجتك من الله وهو يقضيها لك : فقد قال تعالى في سورة غافر{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ، وقال تعالى في سورة البقرة {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} .

 

  

التقليد الأعمى ضلال

   إنّ الإنسان المقلّد كالأعمى الذي يقوده طفل فيتعثّر في طريقه وقد يقع في حفرة إذا غفل عنه الطفل الذي يقوده . وقد ذمّ الله المقلّدين في كتابه المجيد ومدح العقلاء والمفكّرين الذين يستعملون عقولَهم ولا يقلّدون أحداً في الدين ، فقال تعالى في ذمّ المقلِّدين في سورة الزخرف {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} ، فقال الرسول {أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ} ، وقال تعالى في سورة البقرة {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} ، وقال تعالى في سورة المائدة {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ} .

 

 [القادة والمقلِّدون يوم القيامة]

  ثمّ بيّن سبحانه بأنّ القادة تتبرّأ من مقلِّديهم يوم القيامة وتكون عداوة بين القادة والمقلِّدين ، وذلك في سورة البقرة فقال {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ . وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ} لرؤسائهم {لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} أي رجعة إلى الدنيا {فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا} ، وقال تعالى في سورة الأحزاب حاكياً عن المقلِّدين {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} ، وقال تعالى في سورة ص {هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ} : هذا قول القادة لمقلِّديهم ، فتجيب المقلِّدين قادتَهم {قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا} أي قدّمتم لنا هذا المنهج الباطل منهج الإشراك وحسّنتموه لنا حتّى تمسّكنا به وأشركنا بربِّنا فصار جزاؤنا العذاب ومصيرنا إلى هذا المكان {فَبِئْسَ الْقَرَارُ} لكم ولنا {قَالُوا} أي المقلِّدون {رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ} .

   أقول يجب على المسلم أن لا يقلِّد أحداً من العلماء تقليداً أعمى دون رويّة أو تفكّر ، ولا مذهباً من المذاهب الباطلة ، بل يتبع القرآن وهو قول الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ؛ أمّا المذاهب والفرق الإسلامية فقد أصبحت ثلاثاً وسبعين فرقة ، والنبيّ (ع ) لم يأتِ إلاّ بدينٍ واحد وكتابٍ واحد وشريعةٍ واحدة ، ولكنّ أعداء الله فرّقوا بين المسلمين وجعلوهم فرقاً عديدة بقصد الرئاسة ، كما قيل في المثل (فرِّقْ تسُدْ ) ، وكلّ فرقة تقول نحن على حقّ والباقي على ضلال ، وكلّ منهم مقتدٍ بآبائه وأجداده وإن كانوا على باطل ، كما قال الله تعالى في سورة الأعراف{إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} ، ويريد بالشياطين زؤساء الضلال وعلماؤهم . وقال تعالى في سورة الزخرف {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} .

   أقول يا ترى هل جعلوا حكماً فيما بينهم من الأنبياء أو من الملائكة فحكم لإحدى الفرق الإسلامية بأنّها على حقّ والفرق الباقية على ضلال ، أو أنزل الله في القرآن بأنّ الفرقة الفلانية على حقّ ؟ كلاّ لا هذا ولا ذاك ، وإنّما هو تقليد أعمى ، ولكنّ الله تعالى أوضح في القرآن وبيّن في عدّة سور منه بإنّ الموحّدين على حقّ وهم مهتدون ، وأنّ المشركين على ضلال وفي النار خالدون .

   وإذا قلتَ لأحدهم إنّك مشرك ، أنكر عليك وغضب وقال أنا موحّد وإنّ الله واحد لا شريك له – ولذلك إذا سئلوا يوم القيامة عن إشراكهم {قَالُواْ وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} (23) سورة الأنعام – فإنْ قلتَ له إذاً لماذا تعبد القبور وتقدّسها ؟ فيقول هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، كما قالت العرب في زمن الجاهلية الذين كانوا يعبدون الملائكة ، ومن ذلك قوله تعالى في سورة يونس {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ} ، وقال تعالى في سورة الزمر{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} ، فكذلك اليوم يقول من عبد قبور الأولياء وقدّسها .

   أقول هل إنّ الفضة والذهب في قبور الأولياء تقرّبهم إلى الله زلفى أم إنّ نفوس الأولياء تفعل ذلك ؟ فإنْ قالوا الفضة والذهب فقد أخطأوا ، فقد قال الله تعالى في سورة سبأ {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى} ، وإنْ قالوا نفوس الأولياء تقرّبنا إلى الله زلفى ، فأقول إنّ الأنبياء والأولياء حين مماتِهم صعدوا إلى السماء إلى الجنان ولم يبقَ على الأرض غير الأجسام البالية التي لا تضرّ ولا تنفع ، ولَمّا كان مقرّ الأنبياء والأولياء في السماوات فهم لا يسمعون من يدعوهم ولا يعلمون بمن يناجيهم ولا قدرة لَهم على قضاء حوائج الناس . فقد قال الله تعالى في سورة فاطر {إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} ؛ فإنْ شئت أن تكون من الناجين فاترك عبادة البشر وتقديسهم وإنْ كانوا أنبياء واعبد ربّك وحده ولا تشرك في عبادته أحداً من المخلوقين . قال الله تعالى في آخر سورة الكهف {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} .

 

 

الوساطة

     تستعمل الوساطة بين المخلوقين بعضهم لبعض ولا يمكن أن يمارس هذا العمل بين الله وعبيده ، لأنّ الناس فيهم الكريم وفيهم اللئيم ، فإنْ كانت لك حاجة عند رجل لئيم فلا يقضيها لك إلاّ أن تجعل بينك وبينه واسطة ، ولكن الكريم لا يحتاج إلى واسطة بل يقضي حاجتك بلا واسطة ، وهذا الأمر لا ينكره أحد ؛ إذاً فما ظنّك بالله أليس هو أكرم الأكرمين ، وقد قال تعالى في سورة البقرة {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} وقال تعالى في سورة المؤمن {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} فإنّ الله تعالى قال {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ولم يقل إجعلوا بيني وبينكم واسطة .

   وقد جاء في دعاء أبي حمزة الثمالي لزين العابدين علي بن الحسين (ع ) قوله (الحمد لله الذي أناديه كلّما شئت لحاجتي وأخلو به حيث شئت لسرّي بغير شفيع ٍ فيقضي لي حاجتي، والحمد لله الذي أدعوه ولا أدعو غيره ولو دعوت غيره لم يستجب لي دعائي) ، فتأمّل قول زين العابدين فإنّه قال (بغير شفيع ) يعني بغير واسطة (فيقضي لي حاجتي) ، فتعلّم منه التوحيد واقتدِ به ولا تجعل لله واسطة غير عملك الصالح وتوحيدك لله وبذلك تفوز بالجنان .

 

 

تسمية الأبناء

    في زمن الجاهلية كانوا يسمّون أبناءهم عبد اللات وعبد العزى وعبد مناة وعبد الشمس وغير ذلك من الأسماء التي تجعلهم عبيداً للأصنام والأوثان أو تجعلهم عبيداً للملائكة ، وقد نهى النبيّ (ع ) عن التسمية بتلك الأسماء ، واليوم أعاد التاريخ نفسه فصاروا يسمّون أبناءهم عبد الحسن وعبد الحسين وعبد الزهرة وعبد الحمزة وعبد الإخوة وغير ذلك من الأسماء التي تنسبهم عبيداً للأئمة والمشايخ وهذا كلّه إشراك بالله ولا تجوز هذه التسمية حتّى لو سمّيت ابنك عبد النبي ، لأنّ الناس كلّهم عبيد الله وليس عبيد البشر . فقد جاء في كتاب نهج البلاغة بأنّ الإمام علياً (ع ) بعث كتاباً إلى إبنه الحسن وفيه وصايا وحكم ومن جملة الوصايا قال فيه : (ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرّاً ) فإنْ أردتَ أن تسمّي ابنك فسمّه عبد الله أو عبد الكريم أو عبد الرحيم أو ما شابه ذلك من أسماء لكي يرضى الله عنك ولا يمقتك .

 

 

المساجد

    لقد أشركت الناس في أعمالِها لله حتّى في بناء المساجد ، فإذا أراد أحدهم أن يبني مسجداً فإنّه يشرك الحسين مع الله في المسجد فيكتب عليه (حسينية ومسجد ) ولِمّا كان هذا المسجد مشتركاً بين الله وبين أحد الأئمة فإنّ الله تعالى لا يقبله من بانيه ولا يأجره عليه لأنّه أشرك في المسجد أحد المخلوقين مع الخالق . فقد قال الله تعالى في سورة الجن {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} ، هذا قول الله ولكنّهم دعوا مع الله عشراتٍ لا آحاداً ، بل مئات ، وأحبّوهم كحبّهم لله بل أشدّ وأكثر . فقد قال الله تعالى في سورة البقرة {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ} فهذا هو الإشراك ، فيجب على الإنسان أن يخلص لله فيحبّ الله أكثر من حبّه لأولاده وآبائه وعشيرته ، فقد قال تعالى بعد ما سبق من الآية {وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ} ولكن أصبحت الناس تحبّ الأئمة والمشايخ أكثر من حبّهم لله ، وهذا هو الإشراك ، فقد قال الله تعالى في سورة يوسف {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} يعني يؤمنون بأنّ الله خالقهم ورازقهم وهو القادر على قضاء حوائجهم ولكنّهم يشركون المخلوقين في العبادة مع الخالق ويطلبون الرزق منهم ويتركون الرازق ويسألون حوائجهم مِمّن لا قدرة له على قضائها وينسون القادر .  هذا وقد قال الله تعالى في سورة العنكبوت {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ} أي اطلبوا الرزق من الله ولا تسألوا غيره . وقال تعالى في سورة النحل {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ} .

   وقد بنى أحدهم مسجداً في الحلة فكتب فوق الباب (حسينية ومسجد علي بن أبي طالب) فتأمّل أيّها القارئ فقد أشرك هذا الباني إثنين مع الله ، بل لم يجعل حصّة منه لله ، لأنّ الحسينية جعلها للحسين بن علي والمسجد جعله لعليّ بن أبي طالب ، ولم تبقَ حصّة منه لله . ومثل هذا كان عمل المشركين في الجاهلية إذ يهبون حصّة الله من أنعامهم لأصنامهم ولا يهبون من حصّة الأصنام لله ، وذلك قوله تعالى في سورة الأنعام {وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُواْ هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللّهِ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ} ، فكذلك هذا الباني جعل حصّة الله من المسجد وهي النصف إلى الإمام علي (ع ) ، إذاً لم يبقَ فيه شيء . هذا وقد قال الله تعالى {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} .

  

 

حوار بيني وبين أحدهم

 قلت لأحدهم : إنّك مشرك .

قال : كيف تثبت أني مشرك ؟

قلت : لأنّك تقدّس القبور وتقبّل أضرحتها وجدران المراقد وأبوابَها وهذا إشراك .

قال : إنّما أحترم هذه القبور وأقبّل الجدران لأجل من دُفِن فيها وليس تقديساً للجدران والأبواب ، أما سمعت قول امرئ القيس إذ يقول :

أمرّ علَى الديارِ ديارِ ليلَى      أقبّلُ ذا الجدارِ وذا الجدارا
وما حبّ الديارِ شغفنَ قلبِي    ولكنْ حبّ مَنْ سكنَ الدّيارا

قلت له : أنا أعلم أنّك تقدّس هذه القبور لأجل من دُفِن فيها ولكنّ المغالاة في حبّ الأئمة والمشايخ جعلك تشرك بالله لأنّك تحبّهم أكثر من حبّك لله .

قال : كيف تثبت ذلك ؟

قلت : هل دخلتَ أحد المساجد يوماً من الأيام ؟

قال : دائماً أدخل المساجد وأصلّي فيها وأدعو وأقرأ القرآن .

قلت : فهل في يومٍ من الأيام علّقت فيها بعض المصابيح أو الثريّات ؟

قال : كلاّ .

قلت : هل أهديت بعض الأفرشة إلى أحد المساجد ؟

قال : كلاّ .

قلت : هل زيّنت بعض أبواب المساجد أو الشبابيك بالفضة أو الذهب ؟

قال : كلاّ .

قلت : هل قبّلتَ يوماً باب أحد المساجد أو جدرانَها ؟

قال : كلاّ .

قلت : إنّ المساجد بيوت الله وتلك القبور مدفن البشر ، فأنت تعلّق الثريّات والمصابيح على قبور البشر ولا تعلّقها في بيوت الله وتزيّن أضرحتها بالذهب والفضة ولا تجعلها في المساجد ، وتقدّس القبور وتقبّل الجدران والأبواب ولا تقبّل أبواب المساجد ، وعملك هذا يثبت أنّك تحبّ الأئمة والمشايخ أكثر من حبّك لله ، وهذا هو الإشراك والمغالاة في حبّهم ، كما غالت النصارى في حبّ المسيح ، فإن شئت النجاة من النار فاترك الإشراك واجعل أعمالك خالصةً لوجه الله ولا تغالِ في حبّ البشر . قال الله تعالى في سورة البقرة {وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ} فليكن حبّك لله أكثر وأشدّ من حبّك للأئمة والأولياء بل حتّى الأنبياء .

قال : كلامك حقّ ومعقول وسأترك الإشراك وأكون موحّداً بعون الله تعالى .

 

    الصفحة الرئيسية

 

المطبوعات للمؤلف

1.        الكون والقرآن - وقد طبع ثلاث مرّات والرابعة في المطبعة . الأولى سنة 1366 هجرية الموافق 1947 ميلادية ، طبع في مطبعة النجاح في بغداد . الطبعة الثانية بالموصل سنة 1347 هجرية الموافق 1055 ميلادية مطبعة نينوى . الطبعة الثالثة طبع في بغداد مطبعة أسعد سنة 1348 هجرية الموافق 1978 ميلادية . الرابعة في مطبعة الجامعة في بغداد سنة 1985 ميلادية . الكون والقرآن بصيغة PDF 

2.      الإنسان بعد الموت - وقد طبع مرّتين ، الأولى سنة 1366 هجرية الموافق 1947 ميلادية طبع في بغداد مطبعة النجاح . والطبعة الثانية في بغداد مطبعة المعارف وذلك سنة 1383 هجرية الموافق 1964 ميلادية .  الإنسان بعد الموت PDF 

وألحقنا به جزءً آخر أسميناه الرد على الملحدين     

3.       المتشابه من القرآن  - طبع في بيروت سنة 1386 هجرية الموافق 1966 ميلادية

         المتشابه من القرآن  بصيغة PDF

4.       مشاكل الزواج والطلاق - طبع في الموصل في مطبعة الزهراء الحديثة وذلك سنة 1381 هجرية الموافق 1961 ميلادية .

5.      بين التوراة والقرآن خلاف - طبع في بغداد مطبعة أسعد ، وذلك سنة 1404 هجرية الموافق 1982 ميلادية .

الخلاف بين التوراة والقرآن     ،     الخلاف بين التوراة والقرآن بصيغة PDF

 

وكلّها نفدت من الأسواق سوى (بين التوراة والقرآن خلاف ) والذي في المطبعة وهو (الكون والقرآن ) الطبعة الرابعة .

6.       ساعة قضيتها مع الأرواح  - وهو هذه الطبعة من الكتاب .

        ساعة قضيتها مع الأرواح بصيغة PDF

 

  

المخطوطات

1.  حقائق التأويل في الوحي والتنزيل ، تفسير القرآن بأكمله .

2.    حكم المواريث في القرآن .

3.    كشف المعادن من خاماتِها .

4.    بين التوراة والإنجيل والقرآن خلاف .

===============================================================

 

                                                          الصفحة الرئيسية

 

 

 

 

    Man after Death   An Hour with Ghosts           The Universe and the Quran   The Conflict between the Torah and the Quran                الخلاف بين التوراة و القرآن     الكون والقرآن   المتشابه من القرآن   ساعة قضيتها مع الأرواح  



[1]  قال النبيّ (ع) :" تحشر الناس يوم القيامة عراةً حفاةً غُلفاً ." وقال الله تعالى في سورة الكهف{ لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } يعني : جئتمونا عُراةً كما جئتم إلى الدنيا عراة . 

[2]  ومن هذا يظهر أنّ الأطفال لا تبقى عراة في عالم الأرواح لأنّ الأطفال لا ذنب لَهم . أمّا الرجال والنساء فيعامَلون بأعمالِهم فمن كان من الصالحين تعطيه الملائكة ثياباً يستر بِها عوراته .

   ولقد رأيت عمّي علي يرتدي ملابس وكذلك الفتاة التي أعطتني ثوباً ترتدي ملابس هي الأخرى . أمّا الفاسقون فيبقون عراة بين النفوس ، وذلك عذاب الخزي في عالم الأرواح ؛ قال الله تعالى في سورة فصّلت { لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ} .  

[3]  لم يكن اليود أو موادّ التعقيم الأخرى معروفة عند الناس حينذاك بل كانوا يضعون "عطّابة" على الجرح ، وهي صوفة يحرقون نصفَها ثمّ يخمدونَها ويضعونَها على الجرح .

[4]  قال الله تعالى في سورة القيامة يصف الأرواح حين خروجِها من الأجسام {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ . إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} ، وأمّا سبب هذا الالتفاف فهو تجاذب يكون بين الساقين فيمنع النفوس من المشي على الأقدام فينطلقون كالطيور .

[5]  قال الله تعالى في سورة الحج في ذمّ المشركين{وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } فالطيور والرياح خطر على الأرواح .

[6]  ومن هذا يظهر أنّ جاذبية الأرض ليس لَها تأثير على الأرواح .

[7]  قال الله تعالى في سورة الحج في ذمّ المشركين{وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } ، فهذا هو خطف الطير 

[8]  قال الله تعالى في سورة الإنسان في وصف الولدان {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا} ، فاللؤلؤ يكون شفّافاً قبل خروجه من الصدَفة . وقال تعالى في وصف الحور في سورة الصافّات {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} يعني كأنّها زلال البيض في نقاوته وشفّافيّته . وفي سورة الواقعة وصَفَهنّ باللؤلؤ فقال تعالى {وَحُورٌ عِينٌ . كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} ، يعني كاللؤلؤ قبل خروجه من الصدَفة .

[9]  قال الله تعالى في سورة البقرة {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ } ، وقال تعالى في سورة إبراهيم{مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ}

[10]  قال الله تعالى في سورة إبراهيم في وصف النفوس{لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء} يعني أفئدتهم فارغة من الدم ورئاتهم فارغة من الهواء ، لأنّهم نفوس أثيرية ، والشاهد على ذلك قول حسّان :

ألا  أبـلغْ أبـا سـفيانَ عنــّــي             فـأنتَ  مُـجَوّفٌ نخبٌ هـــواءُ

[11]  قال الله تعالى في سورة إبراهيم متوعّداً الكافرين والظالمين {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ . مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء} يعني يؤخّرهم ليوم مماتِهم الذي تشخص فيه أبصارهم ، أي تثبت .

[12]  قال الله تعالى في سورة ق{لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} ، أي قويّ البصر .

[13]  قال الله تعالى في سورة الإنسان في أهل الجنّة{لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا} ، أبعدهم الله عن الشمس لأنّها ترهق النفوس .

[14]  فكلمة (ما) تستعمل عند ذكر المادّيات والجمادات والحيوانات ، أمّا كلمة (من) فتستعمل عند ذكر من يعقل كالإنسان والملائكة والجنّ وغير ذلك ، فمثلاً تقول العرب لمن يطلب منهم حاجة (خذ ما تريد) وتقول لمن يطلب رجالاً للمساعدة في حصاد أو إطفاء حريق أو غير ذلك (خذ من تريد) .

[15]  وهذا عكس ما رأيتُه أنا في عالم النفوس ، فقد رأيتً نفسي عارياً ، والسبب في ذلك هو أنّ إغماءه كان ليلاً والشعاع الذي كان يخرج من صدره غشى على بصره ، فرأي نفسه كأنه يرتدي وشاحاً أبيض ، ولو كان ذلك نهاراً لرأى نفسه عارياً كما رأيتُ أنا .