كتاب: حقائق التأويل في الوحي والتنزيل

بقلم: محمد علي حسن الحلي (رحمه الله تعالى)

توزيع: دار الكتب العلمية (بيروت)

الوصف: تفسير الايات القرآنية كاملة اضافة الى الايات الغامضة

فهرس الآيات , البحث في القرآن الكريم

- 

 

مقدمة المشرِفين على طباعة التفسير

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

{الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ } ....

{رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ } .

لقد قام المفسّر الراحل محمد علي حسن الحلّي رحمه الله بكتابة تفسيره المسمّى (حقائق التأويل في الوحي والتنزيل) ، وظلّ مستمراً بتنقيحه حتى وفاته سنة 1991 ، وعندما قمنا بطبع ونشر هذا التفسير حاولنا جهدنا أن يكون حسب آخر ما استطعنا الوقوف عليه من تفسيره ، وقمنا بمراجعة التفسير من الناحية الإملائية والنحوية فقط وحسب ما استطعنا ،

(وذلك حسب سماح المفسّر بذلك لكونه لم يدرس علوم اللّغة والإعراب والنحو عدا معرفته بالقراءة والكتابة فقط لا غير ، وأنّ تفسيره هو إلهام من الله تعالى) ،

ثمّ توكّلنا على الله بتقديمه للطباعة والنشر راجين من الله التوفيق للسير في نهج التوحيد الخالص بعيداً عن البِدَع والسُبُل المتفرّقة ، راجين من ربِّنا جلّ وعلا أن يتقبّل منّا وأن لا يؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ، إنّه هو الغفور الرحيم ، والهادي إلى الصراط المستقيم ، والحمد لله ربّ العالمين .

وقد أضَفنا في الهامش بعض الكلمات الضروريّة لتوضيح المعنى وعند ذلك نثبّت أنه من قِبَل (الْمُراجع) ، وكذلك إذا أضاف المراجع بعض الكلمات الضروريّة وعند ذلك نضع تلك الكلمات بين قوسين مربّعين مثل هذه [ ] ، وعدا ذلك فالنص الكامل قد حافظنا عليه كما هو.

   فإذا لم تُذكر كلمة (الْمُراجِع) أو لم تُكتَب أقواس مربّعة [ ] ، فذلك يعني أنّ الهامش كُتِبَ من قِبَل المفسّر نفسه . وعدا ذلك فكلّ النصّ هو من كتابة المفسّر بدون تغيير أو تبديل .

وأوّل ما كتبهُ المفسّر رحمهُ الله هو كتاب الكون والقرآن ثمّ كتاب الإنسان بعد الموت وكتاب الرد على الملحدين ثمّ كتاب المتشابه من القرآن  وقال المفسّر أنّ هذه الكتب هي مقدّمات للتفسير والّتي هي لا غِنَى عنها لفَهم التفسير .

ثمّ كتب كذلك كتاب ساعة قضيتها مع الأرواح وكتاب الخلاف بين التوراة والقرآن ، وأخيراً كتاب (حقائق التأويل في الوحي والتنزيل) وهو تفسير القرآن الكريم بأكمله ، ولكنّه لم يتمكّن من طبعه ونشره في حياته ، والّذي حاولنا بعد الاتّكال على الله والاستعانة به سبحانهُ أن نطبعه في هذه الطبعة ، راجين من الله توفيقه ورضاه وغفرانه وإحسانه إنّه هو الغفور الرحيم وهو نِعمَ المولى ونِعمَ النصير .       

المشرفون على طباعة ونشر التفسير

 

 

تَمهيد

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله ربّ العالمين ، باعث الرُسُل والنبيّين ، ومنزل الأحكام والقوانين ، في كتُب المرسَلين ، سلام الله عليهم أجمعين ، وعلى محمّد الصادق الأمين ، وعلى عباد الله الصالحين ، وعلى الشهداء والصدّيقين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .

أمّا بعد فإنّي سألت الله التوفيق فهداني سواء الطريق ، وسألت منه الثواب فأعطاني عِلم الكتاب ، وسألته الجنان فعلّمني تفسير القرآن ، فحمداً له على هدايته وشكراً له على معطياته .

لقد وعدتُ في كتابي المتشابه من القرآن  بأنّني سأكتب كتاباً أجمع فيه تفسير القرآن بأكمله ويكون عنوانه (حقائق التأويل في الوحي والتنزيل) وقد أنجزت ما وعدت بما يسّر لي ربّي وأعانني عليه فألهمني تفسير القرآن وأعطاني عِلم البيان ، فهو الميسّر المستعان ، فله الحمد في كلّ زمانٍ ومكان .

محمد علي بن حسن الحِلّي 

 

 

المقدّمة

لقد أنزل الله القرآن على قِسمَين وهما المحكَم والمتشابِه ، فالمحكَم معروف لدى الجميع ولا يحتاج إلى شرح وتفسير . أمّا المتشابِه فلا يعلم تأويلهُ وشرح معانيه إلاّ الله وحده ، والدليل على أنّ العرب لم يفهموا المتشابه من القرآن موعظة الحسن البصري الّتي يعظُ بها عمر بن عبد العزيز فيقول "إعمل بالمحكم من كتاب الله وآمِن بالمتشابه منهُ " يعني آمِن بهِ ولو أنّك لم تعرف معناه .

   وإنّما أنزل الله القرآن على قِسمَين حُجّةً على قريش لأنّهم قالوا ما هذا إلاّ قول البشر وليس من عند الله ، وقالوا لو نشاءُ لقلنا مِثلَ هذا . فردّ الله عليهم فقال تعالى ما مضمونه : إن كنتم صادقين فيما تقولون بأنّ القرآن جاء به محمّد من تلقاء نفسه فَائْتوا بسورة واحدة مثل المحكم من القرآن فصاحةً وبلاغةً أو حلّوا ألغاز الآيات المتشابهة منهُ وافهموا المقصود منها ، فإن عجزتم عن هذا وذاك فاعلموا أنّما اُنزِلَ بعِلم الله وأنّه وحيٌ يوحَى ، وأنا مُمهلكم ألف سنةٍ وأزيدكم على ذلك ثلاث مائة وستّاً وستّين سنة ، فإن عجزتم عن حلّ ألغازه فسأرسل لكم رجلاً من عبادي يوضّح لكم ما اشتبه عليكم من معانيهِ ويُبيّنُ لكم ما التبس عليكم من أحكامهِ فحينئذٍ تعلمون عِلمَ اليقين أنّ القرآن مُنزل من عند الله لم يختلقه محمّد كما تزعمون . وهذا معنى قوله تعالى في سورة الشعراء {فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاء مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون } فإذا حسبتَ هذه الجُملة بحروف الجمل وهيَ {فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاء مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون } يكون الناتج 1325 وهذا تاريخ ولادتي على حساب الهجري الإيراني [1] وإذا أضفنا إليه 41 وهو الفرق بين الأشهر الشمسيّة والقمريّة ، يعني الفرق بين الحساب الإيراني والحساب العراقي يكون الناتج 1366 وهذا تاريخ طبع كتابي الكون والقرآن ثمّ كتابي الإنسان بعد الموت ، و الرد على الملحدين ، وكان عمري حينئذٍ 41 سنة ، ثمّ طبعت كتابي المتشابه من القرآن ، وهذا آخر كتاب ألّفتهُ الذي بين يديك وهو (حقائق التأويل في الوحي والتنزيل) .

   وكان العرب قبل الإسلام أهل فصاحة وبلاغة وكان فيهم الشعراء والخطباء ولكن مع فصاحتهم وبلاغتهم وذكائهم لم يتمكّنوا أن يجاروا القرآن ولو بآية واحدة وعجزوا عن ذلك ، فنزل قوله تعالى في سورة الإسراء {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } . وكذلك الألغاز كانت مستعملة عند العرب وخاصّة ً عند شعرائهم وخطبائهم ، فأنزل الله القرآن على ما جرت به عاداتهم وقال فائْتوا بسورةٍ من مِثله فصاحة أو حلّوا لغزاً من ألغازه إن كنتم في شكٍ منه فعجزوا عن هذا وذاك .

ومن ألغاز العرب وصيّة مُهلهل لَمّا أراد العبدان قتله ، فقال :

مَنْ مُخبِرُ الأقوامِ أنّ مُهَلْهِلاً     للهِ درُّكُما ودَرُّ أبيكُما

فلمّا سمعت اليمامة بنت أخيهِ وصيّتهُ حلّت ألغاز شِعرِه فقالت :

مَنْ مُخبِرُ الأقوامِ أنّ مُهَلْهِلا     أضحَى قَتِيلاً في الفَلاةِ مُجَنْدَلا

للهِ درُّكُما ودَرُّ أبِيكُما              لا يَبْرَحِ العبدانِ حَتَّى يُقْتَلا

فقبضوا على العبدين وقتلوهما . وكذلك أوصَى بعض العرب قاتلَهُ فقال يا هذا أنا أعلم أنّ المنيّة قد حضرت ولكن سألتك بالله إذا قتلتني إمضِ إلى داري وقف بالباب ونادِ : "ألا أيها البنتان إنّ أباكما" ، وكان لهُ بنتان ، فلمّا قتلهُ ورجع من الصحراء إلى المدينةِ مرّ على دار المقتول ووقف بالباب ونادى كما أوصاه المقتول ، فخرجت ابنتا المقتول وتعلّقتا بالرجل وحملتاهُ إلى الحاكم ، فقال كيف عرفتما أنّه قتل أباكما ؟ فقالتا عرفنا من قوله واعترافهِ ، فقال الحاكم : وماذا قال ؟ فذكرتا للحاكم قوله ، فقال الحاكم ليس في كلامه دليل القتل ، فقالتا :

ألا أيُّها البِنتانِ إنّ أباكُما      قَتيلٌ خُذا بِالثَّارِ مِمَّنْ اتَاكُمَا

فهذا الشطر تكملة البيت ، ثمّ استقرأهُ الحاكم فأقرّ بقتله وقُتلَ بأبيهما . والآيات المتشابهة التي في القرآن حيّرت عقول العلماء وأذهلت أفكار الأذكياء فلم يفهموا معناها ولا المقصود منها من وقت نزولها إلى يومنا هذا ، فأخذ المفسّرون يتخبّطون تخبّط عشواء فغيّروا معناها بالتفسير وبدّلوا أحكامها بالتأويل فضلّ كثير من الناس عن الحقّ بسبب تفسيرهم وجحدوا الخالق بسبب تأويلهم . ولكنّ الله تعالى لم يترك القرآن مُهمَلاً إلى الأبد بل وعدَ سُبحانهُ بتوضيح ما اشتبهَ على الناس من آياتهِ وتعهّدَ ببيان ألغازهِ وغوامض كلماتهِ فقال تعالى في سورة القيامة {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } وقال تعالى في سورة ص {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ } أي سوف تعلمون نبأ المتشابه من القرآن بعد زمن طويل .

والحمدُ لله الّذي وفَى بما وعد ، فبيّنَ لنا وأرشد ، والسلام على خاتمِ الأنبياء محمّد .

وإليك حروف الجمل وأرقامها :

أ

1

ب

2

ج

3

د

4

،

ه

5

 

و

6

ز

7

،

ح

8

ط

9

ي

10

،

ك

20

ل

30

م

40

ن

50

،

س

60

ع

70

ف

80

ص

90

،

ق

100

ر

200

ش

300

ت

400

،

ث

500

خ

600

ذ

700

،

ظ

800

ض

900

غ

1000

لا

0

 

  وكانت هذه القاعدة والأرقام معروفة عند الناس من قديم الزمان ، والدليل على ذلك لَمّا نزلت سورة البقرة وقرأ النبيّ (ع) (أ ل م ) قالت اليهود كيف نؤمن لدِينٍ يزول بعد 71 سنة ؟ وذلك أنّهم حسبوا أرقام هذه الحروف فظنّوا أنّ دين الإسلام ينتهي بعد هذه المدّة ، فقال النبيّ عندنا حروف اُخرى وهي (أ ل ر) فقالوا وهذه تساوي 231 فيكون المجموع 302 ، فكيف نؤمن بدين يزول بعد هذه المدّة ؟ فقال النبيّ ولنا حروف غيرها أيضاً وهي (ك ه ي ع ص) و (ق) و (ن) و (ط س م ) ، فقالت اليهود لقد ضاع علينا حسابها فلم نعلم مدّة بقاء دينكم .

وحساب الجُمل يكون على قِسمَين : الأوّل يُسمّى ظواهر الحروف ، والثاني يُسمّى بواطن الحروف .

فالأوّل يُحسب على ما هيَ عليه من أرقام الحروف ، ومثال ذلك كما في هذا البيت :

وقَلْبِي طارَ جَذْلاناً        عَلَى التَّارِيخِ فَقَدْ غَرَّدْ

فإذا حسبتَ حروف " فَقَدْ غَرَّدْ " يكون الناتج 1388 هجري وهو تاريخ طبع الطبعة الثانية لكتابي الإنسان بعد الموت .

أمّا بواطن الحروف يكون الحساب فيها كما في البيت الذي جاء في ملحمة أبي يزيد البسطامي قال :

إذا بلغَ الزمانُ عُقيبَ صومٍ       بإسمِ الله فالمهديُّ قاما

فإذا حسبت حروف "صوم" بحساب بواطن الحروف يكون الناتج 1388 هجري أيضاً ، والحساب يكون كما يلي :

(ص) تسعين (و) سته (م) أربعين ، ثمّ  تجمع حروف كلمة تسعين وكلمة سته وكلمة أربعين ، فيكون الناتج 1388 وهو تاريخ السنة الحاليّة الهجري . وهكذا تجعل الشعراء تاريخاً في أشعارهم يصوغونها جملة مرَكّبة من هذه الحروف لتنطبق على تاريخ الحادثة من زواج شخص أو ولادة طفل أو موت إنسان أو تأليف كتاب أو غير ذلك مِمّا نظموا الأبيات بشأنها ، ومثال ذلك مِمّا نظمهُ السيد مُرتضى آل وهّاب الكربلائي في تقريض كتابي الكون والقرآن فقال في آخر الأبيات

هذِي دَلائِلُ فَضْلِهِ أَرَّخْتُهُ     فالكَوْنُ والقُرْآنُ بُرْهانُ التُّقَى

فإذا حسبتَ هذه الجملة الأخيرة ، أي الشطر الأخير يكون الناتج 1366 وهو تاريخ طبع كتابي الكون والقرآن . وهكذا يجعلون تاريخاً في أشعارهم لئلّا ينسَوها .

 

دلائل في التفسير

لَمّا كان الإنسان لم يتعوّد سماع بعض كلمات لم يسمعها من قبل صعُبَ عليه اليوم تفهيمها ، فإذا عرّفتَها لهُ وأفهمتَه معناها قد لا يقبل منك إلا إذا جئتَهُ ببيّنةٍ تدلّ على ذلك أو شهودٍ يشهدون على صحّة قولك أو علامةٍ واضحة تثبت ما تقول . ولذلك أخذ المفسّرون يأتون بشواهد من أشعار الجاهليّة الّذينَ كانوا قبل الإسلام وقبل نزول القرآن لكي يطمئنّ السامع بما يقوله المفسّر للقرآن ، أو يأتي بآيةٍ اُخرى من القرآن يستشهد بها على تفسير الآية الاُولى ، وهكذا صارت عادة عند المفسّرين بأن يستشهدوا بأبيات من شعر شعراء الجاهلية ، وقد أرشدهم إلى ذلك إبن عبّاس حين أتاهُ رجل فسأله عن قوله تعالى {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ } فقال "إذا خفيَ عليكم شيء من القرآن فابتغوهُ في الشعر فإنّه ديوان العرب ، أما سمعتم قول الشاعر "وقامت الحرب على ساق" .

وأنا كذلك أستشهد بشعر شعراء الجاهلية واُكثِر منه ولكن لا أزيد على خمسة أبيات كشاهد على كلمة واحدة من كلمات القرآن ، وذلك ليطمئنّ القارئ بمعناها ولا يُكذّب كما قال الشاعر :

من ذا يُكذِّبُني وشهودي خمسةٌ     وشُهُودُ كلِّ قضِيّةٍ إثنانِ

قَلَمِي وقِرْطاسِي ومِدادي     ولِسانُ العربِ والمترجم لسانِ

 

 

قواعد الكلام في القرآن

·      كلّ كلمة "إذْ " تأتي في القرآن قبل الجُملة فهي إخبار عن الماضي ، مثال ذلك قوله تعالى {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ } وقوله {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ } وما شابه ذلك .

·      وكذلك كلمة "فلمّا" تأتي في القرآن فهي إخبار عن الماضي ، مثال ذلك قوله تعالى {فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ } وقوله {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ } وما شابه ذلك . ولكن إذا سبقتها كلمة "إن " تكون إخباراً عن المستقبَل ، مثال ذلك قوله تعالى في سورة هود {وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ } يعني لَمّا يموتون وينتقلون إلى عالَم النفوس يوفّيهم ربّك أعمالهم . والشاهد على ذلك اللام من قوله { لَيُوَفِّيَنَّهُمْ } فهو لام العاقبة . وقال تعالى في سورة ي س {وَإِنْ كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } يعني لَمّا تقوم القيامة يحضرون في المحشر للعقاب والحساب . إلاّ إذا سبقتها كلمة "كلاّ " بدل "إنْ " فحينئذٍ تعطي معنى الماضي ، ومثال ذلك قوله تعالى في سورة عبسَ {كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ } فهنا تكون " لَمّا" نافية ، والمعنى لم يقضِ ما أمرهُ من واجبات .

·      وكلمة " إذا " تأتي في القرآن لتبيان الشيء وإظهار حقيقته في زمن محدود ، ومثال ذلك قوله تعالى في سورة طـه {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى } ، والمعنى : تبيّن في ذلك الوقت أنّها حيّة تمشي ، وقوله تعالى في سورة الأعراف {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } يعني حينئذٍ تبيّن كذبهم ونكثهم للعهود ، فكلمة " إذا " تعطي معنى الحين ، ومن ذلك قول كعب بن زُهير :

حَديثُ أَناسِيٍّ فَلَما سَمِعتُهُ      إِذا لَيسَ فيهِ ما أَبينُ فَأَعقِلُ

فهذه الكلمة تدلّ مرةً على الماضي واُخرى على المستقبَل وذلك على سياق الحديث ، إلاّ إذا جاء ألف ولام مبتدئاً بالكلمة التي تكون بعد كلمة "إذا" فحينئذٍ تكون الجملة إخباراً عن المستقبَل ، ومثال ذلك قوله تعالى في سورة التكوير {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ، وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ } وقوله تعالى {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ } .

وكذلك كلّ كلمة "حتّى" تأتي قبل "إذا" تكون الجملة إخباراً عن الماضي ، ومثال ذلك قوله تعالى في سورة النمل {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ } وقوله في سورة الكهف {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا } . ومن ذلك قول النابغة الذبياني :

حَتّى إِذا الثَورُ بَعدَ النَفرِ أَمكَنَهُ   أَشلى وَأَرسَلَ غُضفاً كُلَّها ضارِ

حَتّى إِذا ما قَضى مِنها لُبانَتَهُ              وَعادَ فيها بِإِقبالٍ وَإِدبارِ

وكذلك إذا جاءت كلمة "ما" بعد "إذا" تكون الجُملة إخباراً عن الماضي ، وتكون كلمة "إذا" بمعنى حين ، ومثال ذلك قوله تعالى في سورة التوبة {وَلاَ عَلَى الّذينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ } يعني حين أتوك ، وقوله {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ } . ومن ذلك قول زُهير بن أبي سلمى يصف النعمان حين أرادَ كسرى قتلهُ :

وأجْمَعَ أمْراً كانَ ما بَعدَهُ لَهُ      وكانَ إذا ما اخلولجَ الأمرُ ماضِيَا

وقال امرؤ القيس :

وكنتُ إذا ما خِفتُ يوماً ظُلامَةً      فإِنَّ لها شِعْباً ببُلطةِ زَيْمَرَا

وقال عنترة :

إذا ما مُنادي الحيّ نادَى أجَبْتُهُ     وخيلُ المنايا بالجماجمِ تَعثُرُ

فكلمة "إذا" تأتي مرّةً للمستقبَل ومرّةً للماضي ومرّةً لتبيان الشيء وزمن حدوثهِ .

·      وكلّ كلمة "إنْ " يأتي بعدها كلمة "إلاّ " فهيَ نافية ، ومعناها "ما" ومثال ذلك قوله تعالى في سورة المؤمنون حاكياً عن قوم نوح {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ } وفي سورة إبراهيم {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا } يعني ما أنتم إلاّ بشرٌ مثلنا . أو يأتي لام العاقبة بعدها مِثل قوله تعالى في سورة الأنبياء {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ } يعني وما أدري ، أو تأتي كلمة "ما" بعدها أو قبلها ومثال ذلك قوله تعالى في سورة الطارق {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ } ومعناها ما كلّ نفسٍ عليها حافظ يحفظها من العذاب لَمّا ينزل بالكافرين ، وقوله في سورة الأحقاف {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ } يعني فيما لم نمكّنكم فيه . ولكن إذا لم تأتِ كلمة "إلاّ " بعدها أو لام العاقبة أو كلمة "ما" فهي غير نافية بل هي للإثبات فتكون بمعنى "قد" إذا جاء سير الكلام على الماضي ومثال ذلك قوله تعالى في سورة المؤمنون {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ } يعني وقد كنّا لمبتلين . والبلاء هو الاختبار ، أو تعطي معنى الحين ومثال ذلك قوله تعالى في سورة الإسراء {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ } وقوله في سورة فاطر {إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ } يعني حين تدعوهم .

·      أمّا كلمة " أنْ " بفتح الهمزة فهي تعطي معنى الحين إذا كان سير الكلام على الماضي ومثال ذلك قوله تعالى في سورة مريم {أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا } يعني حين دعَوا . وإذا كان سير الكلام على المضارع تكون بمعنى "لئلاّ " ومثال ذلك قوله تعالى في سورة الزمر {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ } يعني لئلاّ تقول ذلك يوم القيامة . وإذا كان الفعل أمراً فهيَ تعطي معنى الوجوب ومثال ذلك قوله تعالى في سورة نوح {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ } ومعناه يجب أن تعبدوا الله وتتّقوهُ ، وقوله في سورة الشعراء {أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ } يعني يجب إرسالهم .

·      وتأتي كلمة "ما" للكثرة والتنوّع ، ومثال ذلك قوله تعالى في سورة آل عمران {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنْتَ لَهُمْ } والمعنى فبرحمة كثيرة من الله لنتَ لهم . وقال تعالى في سورة المائدة {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ } والمعنى فبكثرة نقضهم للمواثيق واختلاف أنواعها لعنّاهم . وقد تأتي كلمة "ما" بمعنى الّذي ومثال ذلك قوله تعالى في سورة الرعد {وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ } يعني وإنّ الّذي نريك من عذابهم في الدنيا هو بعض عذاب الآخرة .

 

القَسَم في القُرآن

ينقسم اليمين في القرآن إلى قِسمَين ، وهو ماضٍ ومضارع ، أي أنّ الله تعالى يُقسمُ تارةً بحادث مضى وانقضى ، وتارة يُقسِمُ بحادث لم يقع بل سيقع فيما بعد ، وهو قَسَمُ تهديد .

v فالماضي معناهُ إن لم تؤمنوا برسولي أفعلْ معكم كما فعلتُ فيمن مضى قبلكم من الاُمَم السالفة . وذلك كلّ قسَم يتقدّمهُ حرف (وَ) كقوله تعالى {وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ . النَّجْمُ الثَّاقِبُ } فالنجم الثاقب أرسله الله تعالى على أهل نينوى في زمن النبي يونس حين امتنعوا عن الإيمان ، والمعنى : إن لم تؤمنوا برسولي اُرسلْ عليكم أحد المذنّبات كما أرسلتها على أهل نينوى . وهذا كلّ قَسَم يتقدّمه حرف (وَ)

v        أمّا الثاني فهو إنذار بحادث أو عذاب سيقع في المستقبَل ،

§      وهو كلّ قَسَم يتقدّمه كلمة (فلا) كقوله تعالى في سورة التكوير {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ . الْجَوَارِ الْكُنَّسِ } وقوله تعالى في سورة الواقعة {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ . وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } وهذا قَسَم تهديد أيضاً ، ومعناهُ إن لم تؤمنوا برسولي اُرسِلْ عليكم بعض المذنّبات فتحرقكم وهو حادث لو تعلمون عظيم الوقع شديد التأثير بالعذاب .

§      أو يتقدّم القَسَم كلمة (لا) كقوله تعالى في سورة القيامة {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ . وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ } وهذا قسَم تهديد ووعيد بوقوع العذاب في المستقبَل لأنّ يوم القيامة لم يأتِ بعد .

§       أو تأتي كلمة (إذا) بعد القسَم ، كقوله تعالى في سورة الشمس { وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا . وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا } وقوله في سورة اللّيل { وَاللّيل إِذَا يَغْشَى . وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى } وقوله في سورة الضحى { وَالضُّحَى . وَاللّيل إِذَا سَجَى } فهذه الثلاثة قسَم تهديد ووعيد وإنذار بوقوع العذاب في مُستقبَل الزمان إن لم يحصل الإيمان .

 

السماوات

تأتي كلمة "سماوات" في القرآن على ثلاثة أقسام ، وكلٌ منها له معنى خاصّ دون غيره .

v فالأوّل [ يدلّ على السماوات الغازيّة ]

§      يأتي ذكر السماء على الإفراد ويعني به جوّ الأرض أي الطبقات الغازيّة أو ما يُسمّى بالغلاف الجوّي ، ومثال ذلك قوله تعالى في سورة سبأ {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } ، فقوله تعالى {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } يدلّ على أنّ السماء هي جوّ الأرض وليس بطبقة مادّية جامدة ، فلو كانت جامدة لقال : وما يعرج إلَيها ، أي يصعد حتّى يصل إليها ، ولكنّه تعالى قال {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } والمعنى كلّما صعد فهو في السماء من بدء صعوده حتّى يصل المكان الّذي يريدهُ . وقال تعالى في سورة الروم {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاءُ } ، فلو كانت فوقنا طبقة جامدة لقال تعالى : فيبسطه تحت السماء كيف يشاء .

ولزيادة الإيضاح أقول إنّ الفضاء ليس فارغاً من شيء بل فيه طبقات غازيّة واُخرى أثيريّة وأجرام مادّية ، فالسماء إن جاءَ ذكرها على المفرد يُريد بها جوّ الأرض أي الطبقات الغازيّة ، ومن ذلك قوله تعالى في سورة البقرة {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء } فالسماء هنا يريد بها جوّ الأرض . وقوله تعالى في سورة الإنفطار {إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ } يريد بها السماوات الغازيّة التي فوق الأرض .

§      وكذلك إذا جاء ذكر السماء على الجمع مقرونة بذكر الأرض فإنّه تعالى يقصد بها السماوات الغازيّة على شرط أن تكون بينهما كلمة اُخرى تفصل بينهما أي بين الأرض والسماوات ، ومثال ذلك قوله تعالى في سورة إبراهيم {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ } ، فالسماوات هنا يريد بها الطبقات الغازيّة . وقال تعالى في سورة مريم {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ } فالسماوات هنا يريد بها الطبقات الغازيّة لأنه فصلَ بين ذكر الأرض وذكر السماوات بثلاث كلمات وهنّ قوله تعالى (يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ ) ثمّ جاء ذكر الأرض . وهكذا كلّ آية يأتي فيها ذكر السماوات مع ذكر الأرض على أن تكون كلمة اُخرى تفصل بينهما يُراد بها الطبقات الغازيّة .

v ثانياً  [يدلّ على السماوات الأثيريّة ] :
تأتي كلمة "سماوات" في القرآن على الجمع بغير ذكر الأرض معها ففي هذه الحالة يقصد بها السماوات الأثيريّة أي الجنان التي هي مسكن الملائكة والنفوس الصالحة التقيّة ، ومثال ذلك قوله تعالى في سورة النجم {وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا } فالسماوات هنا يريد بها الأثيريّة السبع ، والدليل على ذلك قوله تعالى (وَكَم مِّن مَّلَكٍ ) فبيّنَ سبحانه أنّ السماوات هذه تسكنها الملائكة . فكلّ آية يأتي فيها ذكر السماوات على الجمع ولا يأتي معها ذكر للأرض فهيَ السماوات الأثيريّة باستثناء آيتين واحدة في سورة الطلاق لا تخلو من ذكر الأرض وهي قوله تعالى {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ } فهذه السماوات أيضاً يريد بها الجنان السبع ، والآية الثانية في سورة الإسراء قوله تعالى {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ } فهذه الآية أيضاً لا تخلو من ذكر الأرض ولكن يريد بها الجنان السبع ومن سكنها .

v ثالثاً [يدلّ على الكواكب السيّارة وبضمنها الأرض ] :
يأتي ذكر السماوات مقرونة بذكر الأرض ويجمع بينهما واو عطف ، ومثال ذلك قوله تعالى في سورة الأحقاف {مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ } فالسماوات هنا يريد بها الكواكب السيّارة لأنّه تعالى قرنها بالأرض ، أي السماوات التي هي من جنس الأرض . وقال تعالى في سورة الشورى {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ } فالدوابّ لا تدبّ إلاّ على أراضي . هذا مختصَر عن
معنى السماوات ، فمن أراد زيادة إيضاح فليطالع كتابي الكون والقرآن  يجدْ فيه ما يسرّهُ ، وسأشرح عن كلّ آية في مكانها بعون الله تعالى .

 

الْمُشتبه والْمُتشابه

"الْمُشتبه" هو ما يشتبه على الإنسان من كلام فلا يعلم المقصود منه إلاّ بعد شرحه وتوضيحهِ ، كقوله تعالى في سورة الأنبياء {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ } ، فهذه الآية لا يعلم الإنسان معناها والمقصود منها إلاّ بعد شرحها بالتفسير ، وقد أوضحتُ تفسيرها في كتابي الكون والقرآن .

أمّا "الْمُتشابه" فهو ما يشبهُ بعضه بعضاً في المعنى ويختلف في الألفاظ ، ومثال ذلك قوله تعالى {وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ } وقوله {إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ } وقوله {وَفُتِحَتِ السَّمَاء فَكَانَتْ أَبْوَابًا } فهذه الآيات يشبه بعضها بعضاً في المعنى وتختلف في الألفاظ ، وكلّها تدلّ على أنّ السماوات الغازيّة تتشقّق يوم القيامة ويختلط بعضها بالبعض فتكون كالدخان . فالمشتبه والمتشابه لا يعلم الإنسان المقصود منهما إلاّ بعد الشرح والتفسير .

والآيات المتشابهة كثيرة في القرآن ، ومن ذلك الأمثال الّتي جاءت في القرآن مِثل قوله تعالى في سورة الأنعام {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ } وقوله في سورة البقرة {كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً } وقوله في سورة الرعد {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ } وما أشبه ذلك من الأمثال التي جاءت في القرآن . وبعض الآيات يرى الإنسان فيها تناقضاً لأنهُ لم يفهم معناها فلذلك يظنّ أنّها مُتناقضة ، ومثال ذلك قوله تعالى في سورة الجن {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا } بينما يوصي الله نبيّهُ بالقسط في سورة المائدة وذلك قوله تعالى {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } ، وقال تعالى في سورة الرحمن {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ } فإذا تأمّل الإنسان في هذه الآيات يظنّ أنّ فيها تناقضاً ، ولكنّها آيات متشابهة وقد وعد الله سبحانه بتبيانها وتوضيح ما اشتبه عليهم من أمرها . وبعض الآيات ينكرها الإنسان فيظنّ أنّها من كلام البشر لأنّ الجُملة تشتبه عليه فلا يعلم معناها والمقصود منها ، ومثال ذلك قوله تعالى في سورة الكهف {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ } فيقول السامع كيف تكون إرادة للجدار وهو من الجمادات ؟

وأكثر الآيات المتشابهة تجد فيها تقدير جُملة محذوفة أو كلمات أو حروفاً محذوفة ، يدلّ عليها ما بعدها أو قبلها ، وكانت هذه العادة مُستعملة عند العرب ولذلك أنزل الله القرآن على ما جرت بهِ عاداتهم ، ومن ذلك قول لبيد :

قالتْ غداةَ انتَجَيْنا عِندَ جارتِنا     أنتَ الذي كنتَ لولا الشيبُ والكِبَرُ

فقول الشاعر " أنتَ الذي كنتَ " يعني كنت صاحبنا فهجرناك ، ولولا الشيب والكِبر لَما هجرناك .

أو تجد جملة فيها تقديم وتأخير ، أي تقديم الكلمة الأخيرة على الجُملة أو تأخير الكلمة الاُولى بعد إتمام الجُملة ، ولذلك يشتبه على الإنسان الّذي لم يسمع من قبل مثل تلك الجُمل ، وكانت هذه العادة عندهم من الفصاحة والإيجاز ، ومن ذلك قولهم "يا صاحِ" يعنون يا صاحبي ، وقد جاء في أشعارهم وأمثالهم كثير مثل هذا ، ولا تزال هذه العادة موجودة في الموصل ينادون "عبّو" لمن اسمه عبد الله ، و "قدّو" لمن اسمه قادر ، و "حمّو" لمن اسمهُ حامد ، وهكذا تجد في كلّ قطر من الأقطار العربيّة لهم عادات في الكلام خاصّة بهم وأسماء للأشياء غير ما يُسمّى في القطر الآخر ، مثلاً "البُر" يُسمّى حنطة ، والدقيق يسمّى "طحين" ، والهُرطمان يُسمّى "جلبان" ، والقِدر يُسمّى في الموصل "دست" ، والرقبة يُسمّونها "حلق" بينما في بغداد يُسمّون الفم حلق . وإليك بعض النبات وهو "الحمقاء" تجد في كلّ بلد له إسماً خاصّاً غير ما يُسمّى في البلد الآخر ، ففي كربلاء يُسمّى "لوَيْنَة " وفي الحلّة يُسمّى "ابُّيرْدَه" وفي الديوانيّة يُسمّى "حُمِيضة" وفي الموصل يُسمّى "حَمْقَه" [وفي بغداد يُسمّونه بَرْبِين] وكان في زمن الجاهلية يُسمّى "رِجله" يؤكل ورقها مطبوخاً ونيّئاً . وهكذا تجد اختلافاً في أسماء الأشياء بين قطرٍ وآخر ، والذي لم يتعوّد على تلك الألفاظ أو لم يسمع من قبل مثل تلك الكلمات يشتبه عليه معنى الكلام فلا يعرف المقصود من كلامهم . وإنّ الله تعالى لم ينزل القرآن بلغة قطر خاصّ من الأقطار العربيّة بل باللّغة الأصليّة للعرب . وإليك بعض أشعارهم للمثقّب العبدي :

تقُولُ إِذَا دَرَأتُ لها وَضِينِي       أَهذا دِينُهُ أَبَداً ودِينِي

يريد هذا ديدنه أبداً وديدني ، فحذف إحدى الدالَين لتسهيل الكلام ، والمعنى هذه عاداته لا تزال وعادتي ، فكلمة "ديدن" معناها العادة المستمِرّة . فإيجاز الكلام واختصاره عندهم من الفصاحة ولذلك قالوا "خير الكلام ما قلّ ودلّ " . وقد أنزل الله القرآن موجزاً وخاصّةً الآيات المتشابهة منه ، ولكن العرب مع فصاحتهم وبلاغتهم وذكائهم لم يتمكّنوا من حلّ ألغازه . ومن الآيات التي اشتبهَ على الناس معناها قوله تعالى في وصف الزقّوم في سورة الصافات {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ . طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ } فقالوا هذا غير معقول كيف ينبتُ في النار شجر والنار تحرق الأخضر واليابس ؟ فقال النبيّ (ع) هكذا اُنزِلت . وهذه واحدة من مئات الآيات المتشابهة التي لم يفهم الناس معناها والمقصود منها .

وقد رويَ أنّ أبا بكر سأل النبيّ (ع) فقال : أشبتَ يا رسول الله ؟ فقال : "شيّبتني إذا الشمس كوّرت ، والعاديات ضبحاً ، والسماء والطارق ." وفي حديث آخر قال : "شيّبتني هود ." أي سورة هود ، وذلك لأنهُ أخذَ يفكّر في معناها حتّى شاب رأسهُ ولم يهتدِ إلى تأويلها ." وقد رويَ عن عائشة أنّها قالت : "ما كان رسول الله يُفسّر القرآن إلاّ آيات بعدد ، علّمهنّ إيّاهُ جبريل ."

واعلمْ أنكَ عند مطالعتك تفسيري هذا لا ترى فيه مشتبهاً بل تجدهُ كلّه واضحاً ليس فيه التِباس ولا شَكّ ، ولكنّك لو طالعتَ تفاسير من سبقني من المفسّرين يتبيّن لك المحكم من المتشابه وتعرف بأنهم لم يفهموا تفسير القرآن ولم يتمكّن أحد قبلي أن يوضّح الآيات المتشابهة للقرآن كما أوضحتها أنا ، وهذا من فضل ربّي وكان فضلهُ عليّ كبيرا .

محمد علي حسن                                                                                                   

 

التكرار في القصص القرآني

يُلاحِظ القارئ للقصّة القرآنية أنّه لا يُلتزَم فيها بالسّرد القصصي ، ولكن يُلتزَم فيها بالوصول إلى الغاية من القصّة . ووفقاً لذلك الإلتزام ترى من القصص القرآنيّة ما تُقدّم كاملة الأحداث والمواقف في معرض واحد كما في قصّة يوسف (ع) ومنها ما تُقدّمُ في حلقات ، يخصّ بكلّ حلقة منها معرضٌ يتطلّب هذه الحلقة من القصّة فحسب . وهو كشاهد على ما جاء في السورة من موعظة وإرشاد أو تحذير أو تشويق . ومثال ذلك قوله تعالى في سورة المزمل {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا . فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا } فهنا جاء ببعض قصّة فرعون كشاهد على إرسال الرُسُل . وقال تعالى في سورة آل عمران {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالّذينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ } فهنا جاء ذكر فرعون وقومه كشاهد على العقاب والعذاب لمن يُكذّب بآيات الله . وجاء في سورة الإسراء {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا } فهنا جاءت القصّة كشاهد على أنّ خوارق العادات التي طلبتها قريش من رسول الله لا تجدي نفعاً مع المشركين [2]  كما جاء موسى إلى فرعون بتسع آيات من خوارق العادات فلم يؤمن بها فرعون بل قال هذا سِحرٌ مبين .

وهكذا جاءت القصص في القرآن مُتكرّرة متقطّعة كشاهد على قول المشركين أو رفضهم للقرآن إو إنكارهم لرسالة محمّد (ع) أو في تحذير من العذاب أو في تشويق إلى الجنّة والثواب . ويبيّن الله سبحانه في كلّ سورة من تلك السور قِسماً من قصّة موسى وفرعون بما ينطبق مع الحوادث التي وقعت لرسول الله وقومه من مؤمنين أو مشركين .

 

قصّة موسى في القرآن

أوّلاً : يُلاحَظ أنّ المواطن القرآنية التي ذكرت فيها قصّة موسى مع قومه أو مع فرعون أو غيرهما تبلغ إحدى عشرة سورة هي : البقرة ، المائدة ، الأعراف ، يونس ، الكهف ، طا ها ، الشعراء ، النمل ، القصص ، غافر ، النازعات .

ثانياً : يُلاحَظ أنّ ما جاء في سورة البقرة من قصّة موسى (ع) إنّما جاء في ثنايا قصّة بني إسرائيل الممتدّة عبر تاريخ طويل مع موسى وغير موسى . فذكر طرفاً من قصّة موسى معهم عرَضاً أثناء تذكير الله إيّاهم بما كان منه جلّ شأنه من إكرام لهم ، وما كان منهم من عناد وصدّ عن دين الله وكفران بأنعم الله ، ووقوف في وجه أنبياء الله وتحدّ لهم بلغ درجة الفتك والقتل .

ثالثاً : يُلاحَظ أنّ السوَر التي تعرّضت لقصّة موسى (ع) قدّمت من القصّة عشرين مشهداً .. هي :

1- ما أحاط بولادة موسى من أحداث دفعت فرعون إلى تقتيل من يولد ذَكراً لبني إسرائيل .

2- خوف اُمّ موسى على وليدها وما أوحَى الله بهِ إليها .

3- وقوع موسى في يد فرعون وموقف امرأته منه .

4- إشفاق اُمّه عليه وبحثها عنه .

5- إعادة موسى الطفل إلى اُمّهِ لترضعه بعد امتناعه عن المرضعات .

6- بلوغه مرحلة الشباب ، وما كان منه في تلك الفترة من معاونة الإسرائيلي على قتل المصري ، ثم فراره حين علمَ بائتمار القوم به .

7- إتّجاهه إلى مدين ، والتقاؤه بشيخ مدين واسمه "رعوئيل" وتزوجه إحدى بناته .

8- عودته إلى مصر بأهله وما وقع له في رحلة العودة .

9- تكليفه بالرسالة ، وتخوّفه من لقاء فرعون ، وطلبه من الله أن يعينه بأخيه هارون ليؤازره في القيام بالرسالة .

10- مواجهة موسى لفرعون .

11- إيمان السَحَرة .

12- خروج موسى ببني إسرائيل من مصر ، وتعقّب فرعون لهم .

13- مطالبة بني إسرائيل موسى أن يجعل لهم صنماً .

14- دعوتهم إلى دخول الأرض المقدّسة .

15- معاقبتهم بالتيه .

16- خروج موسى لميقات ربّه مُستخلِفاً هارون في قومه .

17- تكليم موسى لربّهِ وعودته .

18- غضب موسى لاتّخاذ بني إسرائيل العجلَ معبوداً .

19- طلبهم رؤية الله جهرة .

20- إستسقاء موسى لقومه .

هذه قصّة موسى مع بني إسرائيل من مبدئها إلى منتهاها ، وهي كما ترى لم تأتِ كاملة في مكان واحد من القرآن الكريم ، بل اشتملتها إحدى عشرة سورة ، واختصّت كلّ سورة بعدّةِ مشاهد منها على حسب ما يقتضيه السياق ، بحيث تبدو في تفرّدها قصّة مُستقلّة متكاملة البنيان ، واضحة الحدود . فإذا أخذتَ كلّ حلقة من تلكم الحلقات ونسّقتها مع غيرها رأيت القصّة الشاملة لحياة موسى كلّها مع بني إسرائيل متكاملة البنيان متلاحمة النسج تربطها الوحدة بمختلف مظاهرها ، على الرغم من توزّعها هذا التوزّع ، سواء وحدة الموضوع أو وحدة السياق التعبيري أو وحدة الجوّ النفسي ... دون أن ترى فيها تكراراً أو تحتاج إلى ترشيح أو تبيين . وهذا إحكام وقدرة لا طوق لمخلوق على السير في طريقها ، حتّى أن كثيرين لم يَدُرْ بخلدهم أن يسلك القرآن بقصصهِ هذا المسلك ، ومن دار بخلده استبعده .

 

لا منسوخ في القرآن

يظنّ بعض الناس أنّ في القرآن منسوخاً وسبب ذلك أنهم يقرأون آيات في القرآن لا يعرفون المقصود منها فيقولون هذه الآية نَسخَتْ تلك الآية ، ومن جملتهم إبن خزيمة ، فقال من جملة الآيات المنسوخة آية القتال وذلك قوله تعالى في سورة التوبة {قَاتِلُواْ الّذينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ } فنسخ بها تسعة مواضع ، أحدها في سورة البقرة {فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ } ، وفي سورة آل عمران {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى } ، وفيها {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الاُمور} ، وفي المائدة {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ } وفي الأنعام {وَذَرِ الّذينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا } وفي العنكبوت {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } ، وفي الشورى {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ } فهذه جملة ما نُسخ بآية القتال . هذا ما قاله إبن خزيمة كما جاء في مجلة الرسالة الإسلامية العدد 114 ص 42 .

وأقول ليس في القرآن منسوخ بل كلّه مُثبَت ، والدليل على ذلك قوله تعالى في سورة الأنعام {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } 115 ، وقال أيضاً في نفس السورة في آية 34 {وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ } ، وقال تعالى في سورة يونس {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } 64 ، وقال تعالى في سورة ق {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ } .

وإنّما المنسوخ هو في بعض أحكام التوراة والناسخ هو القرآن . وذلك من قوله تعالى في سورة البقرة {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } 106 ، وسبب نزول هذهِ الآية قول بعض اليهود لبعض المسلمين : إن كتابنا أحسن من كتابكم وأكثر أحكاماً وتشريعاً . فنزلت هذه الآية تطميناً لقلب النبيّ (ع) .

التفسير :

{مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } في التوراة {أَوْ نُنسِهَا } يعني أو نتركها كما هي {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } في القرآن . والمعنى : ما نُبطِلْ من حُكمٍ لآية في التوراة على المسلمين إلاّ ونأتِكَ بخير منه في القرآن أو مِثل الذي تركناه في التوراة لم نبطلْ حكمه على المسلمين من تشريع {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ، فالنسخ هنا بُطلان حُكم وتبديله بآخر ، ومن ذلك قوله تعالى في سورة الحـج {فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ } أي يبطل ويغيّر ما يلقي الشيطان على قلب النبيّ من وساوس . والاستنساخ هو الكتابة على الورق ، ومنه قوله تعالى في سورة الجاثية {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } يعني كنّا نكتب أعمالكم نسخة بعد نسخة . والنسي هو ترك الشيء على حاله ، ومن ذلك قوله تعالى في سورة الأعراف {فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا } يعني نتركهم في النار كما تركوا يومهم هذا فلم يعملوا له . فالناسخ هو القرآن جاء ناسخاً لبعض أحكام التوراة ، والمنسوخ هو التوراة .

وإليك بعض أحكام التوراة التي نسخها القرآن وجاء بخير منها . من تلك الأحكام إعتزال الزوجة وقت الحيض سبعة أيّام بعد الطُهر فيكون مدّة اعتزالها أربعة عشر يوماً على التقريب . وقد نسخها القرآن فجعل اعتزال المرأة وقت الحيض حتّى تطهُر أي مدّة سبعة أيام على التقريب ، فكان هذا الحكم خيراً للمسلمة من الحكم السابق .

والحكم الثاني الصيام عند اليهود 23 ساعة فنسخه القرآن فجعله من الفجر إلى اللّيل ، فكان هذا الحُكم أحسن من السابق .

والحكم الثالث الملابس عند اليهود إذا تلطّخت بالدم فلا تطهر حتّى يُقرَض مكان الدم بالمقراض ويُزال ، وقد نسخه القرآن فاكتفى بغسل المكان الملطّخ بالدم .

وكذلك حكم تحريم البهائم ذوات الظفر وشحوم بعض الأنعام كما جاء بقوله تعالى في سورة الأنعام {وَعَلَى الّذينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا } ، فهذا الحكم أيضاً قد نسخه القرآن . وهكذا نسخ القرآن بعض الأحكام التي في التوراة فجاء بخيرٍ منها في القرآن ، وأبقى بعضها لم ينسخها .

وأمّا التي جاء القرآن بمثلها : حكم القصاص وغسل الجنابة وغسل الميت وتحريم أكل لحم الخنزير وتحريم الخمر والربا وغير ذلك .

وأمّا قوله تعالى {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ } سورة النحل

التفسير : {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً } في القرآن {مَّكَانَ آيَةٍ } في التوراة ، يعني إذا خفّفنا حُكماً من أحكام التوراة على المسلمين فكتبناه في القرآن قالت اليهود لرسولنا محمّد {أَنتَ مُفْتَرٍ } .

 

 



[1]  يحسب الإيرانيون تاريخهم الهجري على حساب الأشهر الشمسيّة ، ولكنّ العراقيّين يحسبونه على الأشهر القمريّة .

[2]  وذلك قولهم [كما في سورة الإسراء] {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا ، أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا} إلى آخر ما طلبوه من خوارق العادات .

الصفحة التالية>> الصفحة الرئيسة



كتاب الكون والقرآن ..تفسير الظواهر الكونية في القرآن الكريم، ووصف دقيق لأحداث القيامة كتاب المتشابه من القرآن تفسير الآيات الغامضة في القرآن الكريم والتي ظلت غامضة منذ 1400عام كتاب حقائق التأويل في الوحي والتنزيل: التفسير الكامل للأيات القرانية بضمنها الايات المتشابهة والغامضة
كتاب الإنسان بعد الموت: وصف دقيق لحال الأنسان بعد الموت وتكوين الجنان وجهنم والملائكة والشياطين. كتاب ساعة قضيتها مع الأرواح: رحلة في عالم الأرواح مدتها ساعة زمنية كتاب الخلاف بين التوراة والقرآن: يوضح من زور التوراة وفي أي عصر والأخطاء الواضحة فيها ومقارنتها بالقرآن الكريم