كتاب: حقائق التأويل في الوحي والتنزيل

بقلم: محمد علي حسن الحلي (رحمه الله تعالى)

توزيع: دار الكتب العلمية (بيروت)

الوصف: تفسير الايات القرآنية كاملة اضافة الى الايات الغامضة

فهرس الآيات , البحث في القرآن الكريم

تفسير سورة يوسف من الآية( 79) من كتاب حقائق التأويل في الوحي والتنزيل   بقلم محمد علي حسن الحلي (رحمه الله تعالى) : 

79 - (قَالَ) يوسف (مَعَاذَ اللّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ ) لو فعلنا كما طلبتم (إِنَّـآ إِذًا لَّظَالِمُونَ ) في حقّ البريء .

80 - (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ ) يعني فلمّا يئسوا منه أن يُجيبهم إلى طلبتهم (خَلَصُواْ نَجِيًّا ) أي اعتزلوا عن الناس وأخذوا يتناجَون فيما بينهم ويتشاورون هل يذهبون إلى أبيهم بغير بنيامين أم يُقيمون في مصر ، وما هو الحلّ في هذه المشكِلة (قَالَ كَبِيرُهُمْ ) في السنّ وهو راؤوبين (أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقًا مِّنَ اللّهِ ) بأن نُعيد بنيامين إليهِ فكيف نرجع وحدنا ونترك بنيامين في مصر (وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي ) حقّ (يُوسُفَ) يعني ما قصّرتم في حقّهِ فكنتم قد عاهدتم أباكم أن تُعيدوهُ إليهِ فنقضتم العهد وألقيتموهُ في الجُبّ . فالتفريط معناهُ التقصير والتضييع ، والشاهد على ذلك قول لبيد :

                            أقْضِي اللُّبانةَ لا أفرِّطُ رِيبةً      أو أنْ يَلومَ بِحاجةٍ لُوَّامُهَا

وقال جرير :
                            آلُ المهَلَّبِ فَرَّطُوا في دِينِهِمْ      وطَغَوا كما فَعَلتْ ثمودُ فبَارُوا

(فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ ) يعني لا أخرجُ من مصرَ ، ومن ذلك قول الأعشى :

                               أقُولُ لَها حِينَ جَدَّ الرحِيلُ      أَبْرَحْتِ رَبّاً وأَبْرَحْتِ جَارَا

يعني أخرجتِ معكِ سيّداً وأخرجتِ جاراً حين خرجتِ . وقالت الخنساء :

                        دقَّ عَظْمِي وهاضَ منّي جَناحِي      هُلْكُ صَخْرٍ فما أُطيقُ براحَا

يعني فما أطيقُ القيام من مكاني . (حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي ) في الرجوع إلى أرض كنعان (أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي ) بما يُريد وما يُسبّب في نجاة بنيامين (وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ) فقال راؤوبين أنا أبقى هُنا وأنتم إحملوا الطعام إلى أهلكم وأخبروا أباكم بالحادثة . وذلك قوله :

81 - (ارْجِعُواْ إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ ) كأس الملِك (وَمَا شَهِدْنَا ) بأعيننا (إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا ) يعني ما رأيناهُ لَمّا سرق ولكن رأينا الكأس حين أخرجوهُ من متاعهِ (وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ ) يعني وما كنّا نحفظ بنيامين وقتَ غيابهِ عنّا إذا ذهبَ لقضاء حاجةٍ أو في اللّيل وقت المنام أو وقت دخوله على العزيز فينفرد بهِ ، وإنّما كنّا نحفظهُ وقت أن يسير معنا ويجلس معنا ، فلا نعلم ماذا صنعَ وقت غيابه وحين سرق الكأس لكي نمنعهُ عن ذلك .

82 - (وَاسْأَلِ) أهل (الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا ) يعني أهل مصر الّذينَ أخرجوا الكأس من متاعهِ ، والمعنى : إبعث اُناساً يسألونهم عن ذلك ويتحقّقون هل هو صحيح (وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا ) يعني واسأل أهل القافلة الّتي أقبلنا معهم وهم كنعانيّون فيخبرونك عن الحادثة (وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ) في قولنا .

83 - (قَالَ) يعقوب لأولادهِ حين كلّموهُ بذلك (بَلْ سَوَّلَتْ ) أي زيّنت وحسّنت (لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا ) في بنيامين كما سوّلت لكم في أخيهِ يوسف (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا ) يوسف وبنيامين وراؤوبين (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ ) بحالي (الْحَكِيمُ) في مصالح العباد .

84 - (وَتَوَلَّى) يعقوب (عَنْهُمْ) يعني أعرضَ عن أولادهِ واعتزلَ يبكي على المفقودين منهم (وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ ) وهذا مثَل يُضرَب بين الناس ، فيقول قائلهم "لم أجدْهُ حتّى ابيضّت عيناي" ، (فَهُوَ كَظِيمٌ ) يعني يكتمُ حُزنهُ في قلبهِ ولا يشكو لأحدٍ من الناس .

85 - (قَالُواْ) أولاده (تَالله تَفْتَأُ ) أي لا تزال ، ومن ذلك قول أوس بن حجر يصفُ حرباً :

                              فَمَا فَتِئَتْ خَيْلٌ تَثُوبَ وَتَدَّعِي      وَيَلْحَقُ مِنْهَا لاحِقٌ وتَقَطَّعُ
وقال الأعشى :
                                  تَمَنَّوْكَ بِالغَيْبِ ما يَفْتَئُونَ      يَبْنُونَ في كلِّ ماءٍ جَدِيرَا

فقول الشاعر "ما يَفْتَئُونَ " يعني ما يتركون البناء بل مداومون عليهِ ، وقال الآخر :

                                 لَعَمْرُكَ ما تَفْتَأُ تَذْكُرُ خالِداً      وقَدْ غالَهُ ما غالَ تُبّعَ مِنْ قبلُ

(تَذْكُرُ يُوسُفَ ) وتبكي عليه (حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا ) يعني حتّى تشرف على الموت (أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ ) أي من الميتين ، فالحرَض الاقتراب من الموت بسبب شِدّة المرض أو بسبب مُصيبة تُصيب الإنسان ، وفي ذلك قال العرجي :

                      إنِّـي امْـرُؤٌ لَـجّ بي حُبٌ فأَحْرَضَني      حَـتّى بَلِيـتُ وحَـتّى شَـفَّني السّـقَمُ

وقال الطِرمّاح :
                               مَنْ يَرُمْ جَمْعَهم يَجِدْهم مَرَ === اجِيــحَ حُماةً للعُزّلِ الأَحْراضِ

يعني للمرضَى الّذينَ عزلوهم عن الناس . وقال امرؤ القيس :

                 أَرَى الْمَرْءَ ذَا الأزْوادِ يُصْبِحُ مُحْرَضاً      كَإحْراضِ بَكْرٍ في الدِّيارِ مَرِيضِ

86 - (قَالَ) يعقوب (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ ) "الحُزن" ما خفيَ في القلب من هموم ، و"البثّ " ما لا يُطيق إخفاءهُ من الهموم فيبثّها للناس ويخبرهم بها (وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ ) من شأن يوسف (مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) أنتم وذلك بالرؤيا الّتي رأيتها .

87 - ثمّ قال (يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ ) إلى مصر (فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ ) بنيامين ، أي تجسّسوا ، ولكن كلمة "تحسّسوا" تستعمل لتحصيل أخبار الشخص من أفواه الناس واستماع ما يتحدّثون عنهُ ، ومن ذلك قول عنترة :

                              فبعَثتُ جاريتي فقلتُ لها اذْهبي      فتَحَسَّسِي أخبارَها لي واعْلَمِي

وقال الآخر :
                                  تَرَى الطَّيْرَ العِتَاقَ يَظَلْنَ مِنْهُ      جُنُوْحاً إِنْ سَمِعْنَ له حَسِيْسَا

وبعبارةٍ اُخرى أقول إنّ التحسّس ما تنصتُ لهُ الاُذُن ، أي تسمعه الآذان ، ومن ذلك قوله تعالى في وصف جهنّم في سورة الأنبياء {لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا } ، وأمّا كلمة "تجسّسوا" فتستعمل لطلب آثار الشخص والتفتيش عنهُ برؤيا العين ، ومن ذلك قولهم "جسّ الطبيبُ يدي" أي لمسها بنفسهِ ورآها بعينهِ ، قال الله تعالى في سورة الحجرات {وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا } ،

(وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ ) يعني لا تيأسوا مِمّا قدّرهُ اللهُ لكم من الراحة والاطمئنان بواسطة يوسف ، وبذلك يُشير إلى الرؤيا الّتي رآها يوسف حين طفولتهِ ووعدهُ يعقوب بالخير بقولهِ {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ } ، والمعنى : فتّشوا عن يوسف لأنّ الخير يأتيكم على يدهِ . فكلمة "رَوْح" معناها الراحة والاطمئنان ، والشاهد على ذلك قولهُ تعالى في سورة الواقعة {فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ } ، وقال النابغة الذبياني يمدحُ إبن الجلاح :

                             فَسَكَّنْتَ نَفْسِي بَعْدَما طارَ رَوْحُها      وألْبَسْتَنِي نُعمَى ولَسْتُ بِشاهِدِ

(إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ) . ثمّ ساروا إلى مصر كما أمرهم أبوهم .

------------------------------------
<<الصفحة السابقة الصفحة الرئيسة الصفحة التالية>>



كتاب الكون والقرآن ..تفسير الظواهر الكونية في القرآن الكريم، ووصف دقيق لأحداث القيامة كتاب المتشابه من القرآن تفسير الآيات الغامضة في القرآن الكريم والتي ظلت غامضة منذ 1400عام كتاب حقائق التأويل في الوحي والتنزيل: التفسير الكامل للأيات القرانية بضمنها الايات المتشابهة والغامضة
كتاب الإنسان بعد الموت: وصف دقيق لحال الأنسان بعد الموت وتكوين الجنان وجهنم والملائكة والشياطين. كتاب ساعة قضيتها مع الأرواح: رحلة في عالم الأرواح مدتها ساعة زمنية كتاب الخلاف بين التوراة والقرآن: يوضح من زور التوراة وفي أي عصر والأخطاء الواضحة فيها ومقارنتها بالقرآن الكريم