كتاب: حقائق التأويل في الوحي والتنزيل

بقلم: محمد علي حسن الحلي (رحمه الله تعالى)

توزيع: دار الكتب العلمية (بيروت)

الوصف: تفسير الايات القرآنية كاملة اضافة الى الايات الغامضة

فهرس الآيات , البحث في القرآن الكريم

تفسير سورة المائدة من الآية( 89) من كتاب حقائق التأويل في الوحي والتنزيل   بقلم محمد علي حسن الحلي (رحمه الله تعالى) : 

89 - (لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ) اللّغو في اليمين هو أن يحلف الإنسان سهواً أو ناسياً أو سبقَ لسان ، مثَلاً إذا سألك أحد "هل رأيت فلان ؟" فتقول "لا والله ما رأيتُهُ " ، ثمّ تذكر أنّك رأيتهُ قبل ساعة أو أكثر منها ، فهذا هو النسيان فيجب عليك أن تستغفر ربّك لِما حلفتَ ناسياً ، وكذلك إذا حلفتَ سهواً أو سَبْقَ لسان فيجب عليك أن تستغفر ربّك (وَلَـكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ ) أي بتعقيدكم الأيمان ، وهو توثيقها وتوكيدها ، ومن ذلك قول حسّان بن ثابت الأنصاري :

                                 وَكَمْ قَدْ عَقَدُوا للهِ ثُمَّ وَفَوْا بِهِ      بِمَا ضَاقَ عَنْهُ كُلُّ بَادٍ وَحَاضِرِ

ومِمّا يؤيّد هذا قوله تعالى في سورة النحل {وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً } . فاليمين الموثّقة أن تُعاهد على شيء وتحلف عليهِ ، واليمين المؤكّدة أن تقول والله وبالله وتالله (فَكَفَّارَتُهُ) أي كفّارة اليمين الموثّقة أو المؤكّدة إذا حلفتَ بها ثمّ حنثتَ عنها فعليك كفّارة (إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ) لمن كان مُتوسّط الحال (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ) مؤمنة ، وهذا الحكم لمن كان غنيّاً (فَمَن لَّمْ يَجِدْ ) في بيته شيئاً من المال أو الطعام ليُطعم عشرة مساكين (فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ) يصومها (ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ ) ثمّ حنَثتُم (وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ ) ولا تحنثوا إلاّ لضرورة مع أداء الكفّارة (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) نِعمهُ .

90 - (يَا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ) "الخمر" يُطلق على كلّ شراب مُسكّر ، و"الميسر" هو القمار بأنواعه (وَالأَنصَابُ) هي أحجار كبيرة كان المشركون يذبحون عليها الأنعام قرباناً للأصنام ، وتقديرهُ لا تأكلوا من الأنعام الّتي تُذبح للأصنام فهيَ رجسٌ (وَالأَزْلاَمُ) هي أقداح كانوا يستقسمون بها الجزور ، وهي لعبة كالقمار ، كلّ ذلك (رِجْسٌ) أي مرض نفسي (مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ) سنّها لكم ليصدّكم عن ذكر الله وليوقع العداوة فيما بينكم بسببها (فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) بتجنّبها ولا تخسرون . فالرجس هو المرض ، والشاهد على ذلك قوله تعالى في سورة التوبة {وَأَمَّا الّذينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ } ، يعني فزادهم مرضاً إلى مرضهم ، والدليل على ذلك قوله تعالى في سورة البقرة {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً } .

91 - ثمّ قرّر مافيهما من المفاسد والمضارّ فقال تعالى (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ) فشارب الخمر تزيل عقلهُ فيتكلّم بالفُحش وربّما أفضى بهِ إلى المقاتَلة ، والميسر يسبّب أن يُقامر الرجل على أهلهِ ومالهِ فيقعد حزيناً سليباً ينظر إلى ماله في يد غيره فيورث العداوة والبغضاء ، وهذا من مفاسدهما في الدنيا ، ثمّ أشار إلى مفاسدهما في الدِين فقال تعالى (وَيَصُدَّكُمْ) بالاشتغال بهما (عَن ذِكْرِ اللّهِ ) الّذي تحيى بهِ القلوب (وَعَنِ الصَّلاَةِ ) الّتي هيَ عمود الدين (فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ) عن فِعلهما ؟

92 - (وَأَطِيعُواْ اللّهَ ) فيما نهاكم عنه (وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ ) في تعاليمهِ وإرشاداتهِ (وَاحْذَرُواْ) أن تولّوا عنهُ (فَإِن تَوَلَّيْتُمْ ) عنه ولم تسمعوا لقولهِ (فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ ) وعلينا الحساب والعقاب الشديد .

93 - لقد حرّم الله تعالى في الآية السابقة ثلاثة أشياء وهي "الخمر" وهو كلّ مُسَكّر ، ثانياً "الميسر" وهو القمار ، ثالثاً "الأنصاب والأزلام" وهو اللّحم الّذي يوزّع باسم الأصنام . فقال بعض الصحابة : "يا رسول الله لقد شربنا الخمر في الماضي وأكلنا من تلك اللّحوم ولعبنا بالميسر ونخاف أن نأثم عليها" ، فنزل قوله تعالى (لَيْسَ عَلَى الّذينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ ) أي ليس عليهم إثمٌ ولا حرج (فِيمَا طَعِمُواْ ) من الخمر قبل تحريمهِ (إِذَا مَا اتَّقَواْ ) في المستقبل شربهُ ، يعني إذا تجنّبوا شربه في المستقبل (وَّآمَنُواْ) بتحريمهِ ولم يُعارضوا (وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ) بسبب تركه ، لأنّ الّذي يشربه يعمل الموبقات والّذي يتركه يميل إلى عمل الصالحات ، (ثُمَّ اتَّقَواْ ) لعِب الميسر (وَّآمَنُواْ) بتحريمهِ ولم يعترضوا على ذلك (ثُمَّ اتَّقَواْ ) أكل اللّحوم الّتي تُذبح على الأنصاب للأصنام والّتي تُستقسم بالأزلام فلا يأكلون منها ولا يذبحون القرابين لغير الله كما يفعل المشركون ، بل يذبحون لله وفي سبيلهِ (وَّأَحْسَنُواْ) مع الفقراء بإطعامهم مِمّا يذبحون من الأنعام لوجه الله (وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) مع الناس .

94 - (يَا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ ) أي ليختبركم (بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ ) يعني صيد البرّ دون صيد البحر (تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ ) يعني الصغار منها كالفراخ والبيض وما لا قدرة لهُ على الفرار (وَرِمَاحُكُمْ) يعني الكبار منها الّتي تصيدونها برماحكم (لِيَعْلَمَ اللّهُ ) بالاختبار (مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ ) يعني حين لم يرهُ أحد فيتجنّب الصيد لقوّةِ إيمانه مِمّن لا يخافه لضعف إيمانه (فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ ) النهي فاصطاد في أيّام الحجّ أو في الشهر الحرام (فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) في الآخرة إنْ لم يُكفّر عن إثمهِ . ثمّ بيّن نوع الكفّارة فقال :

95 - (يَا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ) يعني وأنتم مُحرمون في أيّام الحجّ وفي الأشهُر الحرُم (وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ ) عليهِ (مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ) في الخِلقة ، فإذا قتل نعامة فكفّارتها بُدنة ، وإنْ قتل حمار وحش أو شبيهه فكفّارتهُ بقرة ، وإنْ قتل ظبياً أو أرنباً فكفّارتهُ شاة (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ ) أي يحكم في الصيد بالجزاء رجلان صالحان من أهل مِلّتكم ودينكم فيرَون هل تساوي هذه الكفّارة قيمة الصيد التي قتلها أو تقوم مقامها في الوزن (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ ) أي يهديهِ هدياً واصل الكعبة ، فكلمة "بالغ" معناها واصل ، والدليل على ذلك قوله تعالى في سورة الكهف {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا } ، يعني لَمّا وصلا مجمع البحرين نسيا حوتهما ، فالهدي يذهب بهِ إلى المسجد الحرام ويعطيهِ إلى أحد خدَمَة الكعبة (أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ ) عشرة يُطعمهم غداءً أو عشاءً إن لم يتمكّن على الهدي . وإنّما لم يذكر في هذه الآية عدد المساكين لأنّ ذكرهم قد سبق قبل خمس آيات وذلك في كفّارة الحنث في اليمين بالله وهو قوله تعالى {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } ، وقوله (أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا ) يعني أو ما يعادل ذلك الإطعام صياماً ، فيصوم عشرة أيام بدل إطعام عشرة مساكين إن لم يتمكّن من إطعام الطعام (لِّيَذُوقَ) الصيّاد بهذه الكفّارة (وَبَالَ أَمْرِهِ ) أي لتكون هذه الكفّارة عقاباً له على سوء فعلهِ ، "فالوبال" هو كلّ شيء سيّء ، ومن ذلك قول جرير يهجو الفرزدق :

                                 لقدْ عَلِمَ الفَرَزْدَقُ أنَّ تَيْماً      علَى شِرْبٍ إذا نَهِلُوا وَبِيلُ

أي يشربون ماءً كدِراً وَخْماً ، وقال الآخر :

                                  أَذُلّ الحَياةِ وعِزّ الْمَماتِ      وكلاً أَراهُ طَعاماً وَبِيلا

أي طعاماً وخماً لا خير فيهما ، وقال أبو دهبل :

                           فَلا خَيْرَ في حُبٍّ يُخافُ وَبالُهُ      ولا في حَبِيبٍ لا يَكونُ لَهُ وَصْلُ

(عَفَا اللّهُ ) عنه (عَمَّا سَلَف ) بكفّارتهِ (وَمَنْ عَادَ ) مرّةً ثانيةً إلى قتل الصيد في الشهر الحرام (فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ ) ولا يعفو عنه (وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ) فينتقم مِمّن يخالف أوامره .

------------------------------------
<<الصفحة السابقة الصفحة الرئيسة الصفحة التالية>>



كتاب الكون والقرآن ..تفسير الظواهر الكونية في القرآن الكريم، ووصف دقيق لأحداث القيامة كتاب المتشابه من القرآن تفسير الآيات الغامضة في القرآن الكريم والتي ظلت غامضة منذ 1400عام كتاب حقائق التأويل في الوحي والتنزيل: التفسير الكامل للأيات القرانية بضمنها الايات المتشابهة والغامضة
كتاب الإنسان بعد الموت: وصف دقيق لحال الأنسان بعد الموت وتكوين الجنان وجهنم والملائكة والشياطين. كتاب ساعة قضيتها مع الأرواح: رحلة في عالم الأرواح مدتها ساعة زمنية كتاب الخلاف بين التوراة والقرآن: يوضح من زور التوراة وفي أي عصر والأخطاء الواضحة فيها ومقارنتها بالقرآن الكريم