كتاب: حقائق التأويل في الوحي والتنزيل بقلم: محمد علي حسن الحلي (رحمه الله تعالى) توزيع: دار الكتب العلمية (بيروت) الوصف: تفسير الايات القرآنية كاملة اضافة الى الايات الغامضة |
|
||
102 - (وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ ) يعني علماء اليهود تتبّعوا قول الشياطين وقالوا كقولهم (عَلَى مُلْكِ سُليمان ) يعني قالت اليهود في محمّد كما قالت الشياطين في ملك سُليمان . فإنّ الشياطين قالوا لم ينل سُليمان هذا الملك إلاّ بسحره ، وكذلك اليهود قالوا إنّ محمّداً لم ينل هذه المنزلة ولم يجتمع إليه الناس إلاّ بسحرِه ، وذلك لشدّة حسدهم وبُغضهم إيّاه .
ثمّ بيّنَ سُبحانهُ بأنّ سُليمان لم يعمل بالسِحر ولم يكتم الحقّ كما كتمه هؤلاء اليهود فقال (وَمَا كَفَرَ سُليمان ) فكلمة "كفر" معناها تغطية الشيء وكتمانه ، ومن ذلك قول الشاعر اليمني :
فَلَا تَكفُرُوا مَا قَدْ صَنَعْنَا إِلَيْكُمُ وكافُوا بِهِ فالكُفْرُ بورٌ لِصانِعهِ
والمعنى : ما كتم سُليمان الحقّ ولا عمل بالسِحر ، (وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ ) أي كتموا الحقّ وعملوا بالسِحر ، وقد ضرب الله مثَلاً في هذه الآية فجعل محمّداً مقام سُليمان ، وهؤلاء اليهود مقام الشياطين ، والمعنى : لقد قلتم أيّها اليهود في شأن محمّد كما قالت الشياطين في شأن سُليمان ولكنّ الأمر عكس ذلك ، فإنّ محمّداً ليس ساحراً ولا كافراً بل أنتم كافرون إذْ كتمتم الحقّ في شأن نبوّته وأخفيتم على الناس حقّهُ مع عِلمكم بصحّةِ قولهِ وإيضاح تبيانه . ثمّ بيّنَ سُبحانهُ بأنّ السِّحر من عادات اليهود وأعمالهم لا من أعمال المسلمين ونبيّهم فقال (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ) فهم شياطين الإنس (وَ) يعلّمون الناس أيضاً (مَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ ) أي ما اُنزلَ عليهما من الذلّ والفرقة بسبب الأسر ، والملِكان هما من ملوك بني إسرائيل وكانا من جملة الأسرى الّذينَ أخذهم نبوخذنصّر إلى أرض بابل في العراق ، وهما (هَارُوتَ وَمَارُوتَ ) وكانا يعلّمان الناس التفرقة بين الزوجة وزوجها ويأخذان أجرة على ذلك .
ثمّ بيّنَ سُبحانهُ بأنّ الرجُلين وإن كانا ساحرَين ولكن لا يغشّان الناس ولا يكتمان الحقّ كهؤلاء اليهود الّذينَ كتموا أمر محمّد بعد أن اتّضح لهم أنّه نبيٌّ ، فقال تعالى (وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ ) من الناس (حَتَّى يَقُولاَ ) له (إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ ) أي مِحنة واختبار (فَلاَ تَكْفُرْ ) أي فلا تعمل بالسحر فتكتم الحقّ (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ) أي بين الرجُل وزوجتهِ (وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ ) والمعنى : وما أهل بابل بضارّين اليهود بالأسر إلاّ بإذن الله ، لأنّ اليهود كفروا وفسقوا وأشركوا فسلّط الله عليهم ملك بابل فأضرّ بهم (وَيَتَعَلَّمُونَ) أهل بابل من الملِكين (مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ ) أي ما يضرّ بقومهم وأهل بلدتهم ، ومعلوم ما في ذلك من الضرر ، لأنّهم يُفرّقون بين الزوجين (وَلَقَدْ عَلِمُواْ ) أهل بابل (لَمَنِ اشْتَرَاهُ ) أي لمن اشترى ذلك السِحر من الملِكين وتعلّمهُ منهما (مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ ) وهنا حذف في الكلام تدلّ عليه اللّام من قوله (لَمَنِ ) والتقدير : ولقد علموا لمن اشتراه عذاباً وما له في الآخرة من خلاق ، أي من نصيب في الجنّة ، لأنّ الساحرَين كانا يشترِطان على الناس فيقولان : من تعلّم منّا هذا السِحر وعمل بهِ فله عذاب يوم القيامة وما لهُ في الجنّة من نصيب .
فكان بعض الناس يقبل بهذا الشرط ويتعلّم منهما ، وبعضهم لا يقبل بذلك . ثمّ عادَ سبحانهُ إلى ذمّ اليهود فقال (وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ ) أي بئس المال الذي أبدلوهُ بأنفسهم ، لأنّهم ألقَوا بأنفسهم في جهنّم لأجل المال والرئاسة ، ومن ذلك قول المسيّب بن علَس :
يُعْطَى بِها ثَمَناً وَيَمنَعُها وَيَقولُ صاحِبُهُ أَلا تَشري
(لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ) العاقبة .
103 - (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ ) بمحمّد والقرآن (واتَّقَوْا) أي وتجنّبوا الإشراك والمعاصي (لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ ) من المال والرئاسة التي حصلوا عليها في دار الدُنيا (لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ) ما في الجنّةِ من نعيم دائم .
104 - (يَا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا ) كان بعض اليهود يجلسون عند النبيّ (ع) ويستمعون لحديثهِ ثمّ يقولون راعِنا يا محمّد ، أي أمهلنا كي نتكلّم ونسألك بعض الأسئلة ، ولكنّهم أرادوا بذلك إهانة النبيّ بقولهم "راعِنا" ، وهي من الرعونة وهي خِفّة العقل ، فصار المسلمون يقولون كقولهم لأنّهم لم يفهموا قصد اليهود بتلك الكلمة ، فنهاهم الله تعالى عن تلك الكلمة فقال (وَقُولُواْ انظُرْنَا ) أي انتظرنا كي نسأل ونتكلّم (وَاسْمَعُواْ) حديث النبيّ ولا تُقاطعوهُ دائماً (وَلِلكَافِرِينَ) بالنبيّ (عَذَابٌ أَلِيمٌ ) يعني ولليهود الكافرين بالنبيّ المغيّرين معنى الكلمة عذابٌ أليم في الآخرة .
105 - (مَّا يَوَدُّ الّذينَ كَفَرُواْ ) بمحمّد (مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ) يعني اليهود أهل التوراة (وَلاَ الْمُشْرِكِينَ ) من أهل مكة (أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم ) أيها المسلمون (مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ ) يعني لا يحبّون أن ينزل الوحي عليكم بالقرآن بل يريدون ذلك لهم (وَ) لكن (اللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ ) أي بالوحي والحكمة والنبوّة (مَن يَشَاء ) من عباده ، لا بمن تختارهُ الناس (وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) على أنبيائهِ ورُسُله ومن اقتدَى بهم .
106 - لَمّا نزل قوله تعالى في سورة الأنعام {وَعَلَى الّذينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا ...إلخ } قال النبيّ : "اللّهمّ خفّف على أمّتي الأحكام ولا تشدّد" ، فنزلت هذه الآية (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ ) في التوراة ، يعني ما نبطل من حُكمٍ كان في التوراة عليكم أيها المسلمون (أَوْ نُنسِهَا ) يعني أو نترك حُكم الآية كما هو نقيمه عليكم (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا ) في القرآن ، يعني بخير من ذلك الحُكم وأيسر منه تخفيفاً عليكم أيها المسلمون (أَوْ مِثْلِهَا ) يعني أو نأتِكم بحُكم مِثل ما في تلك الآية التي لم تُنسَخ من التوراة (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) فيأتيك بأحكام أيسر مِمّا في التوراة وأخفّ .
فالمنسوخ هو في التوراة والناسخ لتلك الأحكام هو القرآن .
فَ"النسخ" هنا هو بُطلان حُكم وتبديله بآخر ، ومن ذلك قولهُ تعالى في سورة الحج {فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثمّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} أي يبطل ويغيّر ما يلقي الشيطان على قلب الرسول من وساوس . والاستنساخ هو الكتابة على الورق ، ومنه قوله تعالى في سورة الجاثية {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } يعني كنّا نكتب أعمالكم نسخة بعد نسخة .
و"النسي" هو ترك الشيء على حالته ، ومن ذلك قولهُ تعالى في سورة الأعراف {فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا } يعني نتركهم في جهنّم كما تركوا يومهم هذا فلم يعملوا لأجله .
ونظير هذه الآية في سورة النحل قوله تعالى {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } ، فقوله تعالى {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ } يعني إذا بدّلنا حُكم آية في القرآن مكان آية في التوراة {قَالُواْ} اليهود {إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ } يا محمّد لأنّك تأتي بأحكام لا تنطبق مع أحكام التوراة .
فالقرآن ليس في أحكامه تبديل وتغيير كما يظنّ المسلمون ، والشاهد على ذلك قوله تعالى في سورة الأنعام {وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ } وقال أيضاً {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } وقال تعالى في سورة يونس {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُنيا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } .
ومن جملة ما أبطل حُكمه على المسلمين وجعله حلالاً لهم اللّحوم والشحوم التي حرّمها على اليهود في التوراة ، وذلك قوله تعالى في سورة الأنعام {وَعَلَى الّذينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ } أي حيوان ذي ظفرٍ مشقوق ، {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا } ، وغير هذا كثير لا مجال لشرحه .
أمّا الأحكام التي حرّمها على المسلمين كما هي محرّمة على اليهود في التوراة فمن جملتها لحم الخنزير والميتة والدم وما أهلّ به لغير الله . ومن جملتِها شرب الخمر فهو محرّم في التوراة على اليهود ، وقد أبقى تحريمه على المسلمين في القرآن ، وذلك قوله تعالى في سورة المائدة {يَا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } .
وقد جاء تحريم الخمر في التوراة في سفر الأمثال في الإصحاح الثالث والعشرين آية 29-35:
"لِمَن الويلُ لِمَن الشقاوة لِمَن المخاصَمات لِمَن الكربُ لِمَن الجروحُ بلا سببٍ لِمَن ازمهرار العينين ؟ لِلّذينَ يدمنونَ الخمر الّذينَ يدخلون في طلب الشراب الممزوج ، لا تنظرْ إلى الخمر إذا احمرّت حين تُظهرُ حبابَها في الكأس وساغت مرَقرِقةً . في الآخر تلسع كالحيّة وتلدغ كالأفعوان . عيناك تنظران الأجنبيّات وقلبك ينطق بأمورٍ ملتويةٍ . وتكون كمضطجعٍ على رأس ساريةٍ . تقول ضربوني ولم أتوجّع ، لقد لكأوني ولم أعرف . متى أستيقظ، أعود أطلبُها بعد ."
وجاء في سفر إشعيا في الإصحاح الخامس الآية 11-12 :
"ويلٌ للمبكّرين صباحاً يتبعون المسكّر، للمتأخّرينَ في العتمة تلهبُهم الخمر، وصار العود والرباب والدفّ والناي والخمر ولائمَهم وإلى فعل الربّ لا ينظرون ... لذلك وسّعت الهاويةُ نفسَها وفغرت فاها."
![]() |
![]() |
![]() |
||
كتاب الكون والقرآن ..تفسير الظواهر الكونية في القرآن الكريم، ووصف دقيق لأحداث القيامة | كتاب المتشابه من القرآن تفسير الآيات الغامضة في القرآن الكريم والتي ظلت غامضة منذ 1400عام | كتاب حقائق التأويل في الوحي والتنزيل: التفسير الكامل للأيات القرانية بضمنها الايات المتشابهة والغامضة |
![]() |
![]() |
![]() |
|
كتاب الإنسان بعد الموت: وصف دقيق لحال الأنسان بعد الموت وتكوين الجنان وجهنم والملائكة والشياطين. | كتاب ساعة قضيتها مع الأرواح: رحلة في عالم الأرواح مدتها ساعة زمنية | كتاب الخلاف بين التوراة والقرآن: يوضح من زور التوراة وفي أي عصر والأخطاء الواضحة فيها ومقارنتها بالقرآن الكريم |