ومن العرض السابق نستفيد أن النصارى اختلفوا في أصل دينهم على المقالات الآتية:
أولاً: مقالة الحق والدين الصحيح:
وهم الذين اعتقدوا أن المسيح عبدالله ورسوله، وأنه مخلوق مصنوع ولكن الله ملأه حكمة، وعلماً، ورحمة، وجعله مباركاً أينما كان، وهذه هي العقيدة الصحيحة، ومن الذين كانوا على هذه العقيدة تلاميذ المسيح -عليه السلام- بشهادة الله سبحانه وتعالى لهم في القرآن كما قال تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [أل عمران 52]}،
ومن الموحدين المشهورين آريوس وكان لأتباعه انتشار عظيم في فلسطين، ومقدونية، والقسطنطينية، وأنطاكية، وبابل، والإسكندرية، وأسيوط بمصر، ويقول ابن البطريق المؤرخ: (فأما أهل مصر والإسكندرية فكان أكثرهم أريسيون) وكذلك غلب الأريسيون على بيت المقدس، وهذه المدن والأقاليم هي مهد النصرانية الأولى.. وكان ذلك قبل انعقاد أول مجمع للنصارى.. فلما عقد المجمع الأول في نيقية سنة 325م، وخرج بالقول بألوهية المسيح، بدأ السلطان الغاشم يستعمل الاضطهاد، والقمع، والمصادرة لعقيدة التوحيد،ويقوم بتعقب أفرادها في كل مكان وقتلهم وتشريدهم، فلم يأت الإسلام إلا وهم ملاحقون مضطهدون مطيرون،
ثانياً: مقالات الباطل والشرك والضلال:
وهي متعددة جداً، وقد اختلفت النصارى على أقوال كثيرة في حقيقة الإله:
1- فمنهم من قال بأن المسيح، وأمه إلهان من دون الله، وهم فرقة البربرانية.
2- ومنهم من قال بأن المسيح كشعلة نار انفصلت من شعلة نار فلم تنقص الأولى، وهي مقالة سابليوس وشيعته.
3- ومنهم من قال بأن المسيح إنسان حلت فيه النعمة الإلهية بالمحبة، والمشيئة وسمي ابن الله لذلك وهذه مقالة (بولس الشمشاطي)، وقوله قريب من قول الموحدين...
4- ومنهم من قال إن المسيح إله كامل، وإنسان كامل، وأنه اجتمع فيه اللاهوت والناسوت بإرادتين، ومشيئتين، وهو ما خرج به مجمع نيقية الأول، وفرضه في الإمبراطورية الرومانية.
5- ومنهم من قال بأن روح القدس إله مع الله والإبن، وكفَّر من قال بغير ذلك.
6- ومنهم من قال بأن روح القدس مخلوق مصنوع، وليس بإله.
7- ومنهم من قال بأن المولود من مريم هو الإنسان، وليس الإله، وأن المسيح متحد مع الله بالمحبة والموهبة فقط، أي ولم يجتمع فيه اللاهوت والناسوت، وهي مقالة نسطور.
8- ومنهم من قال بأن المسيح لما اتحد فيه اللاهوت بالناسوت تحول إلى طبيعة واحدة، وهي مقالة ديسقورس بطريرك الإسكندرية، ومن شايعه، وكفَّر من يقول بالطبيعتين والمشيئتين.
9- ومنهم من قال بأن المسيح اجتمع فيه اللاهوت والناسوت، وأصبحا طبيعتين ومشيئتين، ووجه واحد، وأقنوم واحد، وهذه العقيدة هي التي خرج بها مجمع خليقدونية سنة 451م.
10- ومنهم من قال بأن المسيح له طبيعتان ولكن له مشيئة واحدة، وليس مشيئتان وهي مقالة يوحنا مارون، ومن شايعه.
وأما اختلاف النصارى في الشرائع، والعبادات، فلا يوجد عندهم شيء من دينهم أجمعوا عليه، واتفقوا عليه، في صلاة أو صيام، أو طعام..
العبرة التي نستفيدها من اختلاف النصارى في أصل دينهم:
1- أن الخلاف الذي نشأ في النصرانية كان أساسه حقيقة الإله.
2- أن الذين غلبوا على أمرهم، وقرروا ألوهية المسيح -عليه السلام- كانوا القلة، ولكنهم كانوا مؤيدين من السلطان الغاشم بدءاً بقسطنطين ابن هيلانة وتبعه على ذلك معظم أباطرة الرومان الذين لاحقوا عقيدة التوحيد.
3- أن النصرانية المثلثة المشركة إنما فرضت بالبطش والطغيان.
4- أن الدين الحق الذي جاء به المسيح -عليه السلام- من الدعوة إلى توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، وأنه عبدالله ورسوله، وكلمته وروحه، وليس إلهاً مع الله، هذه العقيدة قد كانت عقيدة الأغلبية التي لاقت الاضطهاد، والنفي والتشريد، فانقرضت شيئاً فشيئاً حتى جاء الإسلام ولم يبق من أتباعها إلا القليل.
5- أن الحكام الرومان الذين دخلوا في النصرانية لم يتنصروا، ولكن النصارى هم الذين تروموا، وحولوا النصرانية من عقيدة التوحيد إلى عقيدة وثنية شركية، تؤله البشر وتعبدهم.
6- أن أصدق وصف يطلق على النصارى هو (الضالون)، وذلك أنهم قد ضلوا حقاً وكان ضلالهم في أصل دينهم، وهو حقيقة الرب الإله الذي له العبادة والخضوع، والذي خلق السماوات والأرض، وخلق المسيح وأمه، ويملك أن يهلك المسيح وأمه، ومن في الأرض جميعاً كما قال تعالى:
{ لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعاً، ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما، يخلق ما يشاء وهو على كل شيء قدير} (المائدة:17).
7-أن هؤلاء النصارى المشركين بالله لا يستدلون على عقيدتهم بنص صريح من التوراة (التي يزعمون الإيمان بها، وأنها العهد القديم)، ولا من الإنجيل.
فالتوراة لم يأت فيها نص قط، يذكر التثليث، ولا الصلب، ولا الفداء، ولا أن روح القدس إله مع الله، وإنما في التوراة التوحيد فقط..
وكذلك الإنجيل مملوء كما أسلفنا ببيان النصوص القطعية التي تثبت بشرية المسيح، وعبوديته لله رب العالمين.
اقرأ ايضا
الأدلة من الإنجيل على أن عيسى رسول اللـه وليس هو اللـه أو ابن اللـه