فسير سورة البقرة من الآية( 1) من كتاب المتشابه من القرآن بقلم محمد علي حسن الحلي (رحمه الله تعالى) : بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ1 - (الم ) إنّ الحروف التي في أوائل السور كلّ حرفٍ منها يرمز إلى كلمة ، والحرف يكون في أوّل الكلمة ، فالألف معناه إقرأ ، والخطاب للنبيّ (ع) ، وهذه أوّل سورة نزلت على النبيّ : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} . واللام معناه لَهم أي للناس ، والميم يرمز إلى إسم محمّد ، فيكون المعنى : إقرأ للناس يا محمّد ، أو إقرأ لَهم يا محمّد ، والمعنى واحد .
2 - ( ذَلِكَ الْكِتَابُ ) ويريد بالكتاب ما نزل من السوَر والآيات قبل سورة البقرة وكتبها أصحاب النبيّ عندهم ، وهي سورة القلم والمزمّل والمدثّر وغيرها ، لأنّ الكلام الذي لا يُكتب في القرطاس وغيره لا يسمّى كتاباً ، وإنّ جبرائيل (ع ) لم ينزل بكتاب من السماء ، بل نزل بسور وآيات كان يتلوها على محمّد ، ولَمّا كتبها أصحابه وحفظوها عندهم حينئذٍ جاز تسميتها بالكتاب ، فلفظة ذلك وتلك تشير إلى ما كتبوه من السور والآيات قبل نزول هذه السورة ، كقوله تعالى في سورة يونس {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ}.
3 - (الّذينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) أي بما غاب عنهم ، يعني يؤمنون بالبعث والحساب والجنّة والنار وغير ذلك مِمّا جاء ذكره في القرآن والكتب السماويّة (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ ) الواجبة (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ) للفقراء والمحتاجين ، ويجب أن يكون إنفاقهم في سبيل الله لا لغايةٍ اُخرى .4 - (والّذينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ) أي بالقرآن وأحكامه (وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ ) أي ويؤمنون بالكتب السماويّة الّتي أنزِلَتْ على الأنبياء قبل القرآن (وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ) يعني يوقنون بعالم النفوس وبالجزاء والعِقاب .5 - (أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) في الآخرة . ثمّ أخذَ سُبحانهُ في ذمّ الكافرين فقال تعالى :6 - (إِنَّ الّذينَ كَفَرُواْ ) بك يا محمّد وبالقرآن (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ) لأنّهم ظالمون يظلمون الناس ، والظالم لا يهديه الله إلى الإسلام بل يُضلّه . والشاهد على ذلك قوله تعالى في سورة إبراهيم { وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء } .7 - (خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ) ، "الختم" سدّ أفواه القناني ، يُقال "خَتَمَ فم القارورة" أي سدّها سدّاً مُحكماً ، ومن ذلك قول الإعشى : وصَهْبَاءَ طَافَ يَهُودِيُّها وأَبْرَزَهَا وعَلَيْهَا خَتَمْ والمعنى : ختم الله على قلوبهم بالرَين أي بالصدأ وعلى سمعهم بالوَقر أي ثقل السمع ، وعلى أبصارهم غِشاوة أي قِلّة البصر لئلاّ يُسلِموا ، وذلك لأنّهم ظالمون يظلمون الناس ، والله لا يهدي القوم الظالمين (وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ ) في الآخرة . ثمّ أخذَ سُبحانهُ في ذمّ المنافقين فقال تعالى :8 - (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ ) هو يوم القيامة ، لأنّ الأرض تتمزّق في ذلك اليوم فلا يبقَى يومٌ أو ليلٌ في الأرض ، (وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ ) حقيقةً بل هم كاذبون منافقون .9 - (يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالّذينَ آمَنُوا ) بقولهم آمَنّا (وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ ) بأنّهم يخدعون أنفسهم لأنّهم لم يُفكّروا في عواقب الاُمور ولم يعلموا أنّ خداعهم سيكون وبالاً عليهم .10 - (فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ) أي نفاق ، وهو مرض نفسي ، ومن ذلك قول الشاعر : أُجَامِلُ أَقْوَاماً حَيَاءً وَقَدْ أَرَى صُدُوْرَهُمُ بَادٍ عَلَى مِرَاضُهَا (فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ ) أي مؤلم (بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ) أي بسبب كذبهم وخداعهم .11 - (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ ) بكذِبكم ونفاقكم (قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ )12 - (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ ) بالحقيقة لأنّهم اعتادوا الدجَل والنفاق13 - (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ) أي للمنافقين (آمِنُواْ) لِمحمّد وانقادوا لأمره (كَمَا آمَنَ النَّاسُ ) أي كما آمَن المهاجرون من أهل مكّة (قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء ) أي كما آمَن الجُهّال ، مفردها سفيه وهو الجاهل بالاُمور القليل المعرفة ، فقال الله تعالى (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ ) عواقب الاُمور .14 - (وَإِذَا لَقُواْ الّذينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا ) كما آمنتم (وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ ) يعني إذا التقَوا بمن أغوَوهم وقادوهم إلى الكفر والضلال (قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ ) بالتبعيّة ولسنا مع المؤمنين (إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُونَ ) بالمؤمنين بأن قلنا لهم آمَنّا .15 - (اللّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ ) بأن يؤجّل عقابهم ولا يعاجلهم به في دار الدُنيا (وَيَمُدُّهُمْ) بالمال ويتركهم (فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) أي يتحيّرون ويتردّدون كالأعمى الّذي لا يرَى حقيقة الأشياء ، ومن ذلك قول رؤبة : ومَهْمَهٍ أطرافُهُ في مَهْمَهِ أعمَى الهُدَى بِالجاهِلينَ العُمَّهِ16 - (أُوْلَـئِكَ الّذينَ اشْتَرُوُاْ ) أي استبدلوا (الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ ) لأنّهم أبدلوا الجنّةَ بالنار والعزَّ بالعار (وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ ) إلى دينٍ من الأديان السماويّة بل كانوا تائهين .17 - (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً) أي مثَل هؤلاء المنافقين كمثَل أصحاب الذي استوقد ناراً ، يعني طلب إيقاد النار ، وهو موسى بن عمران . قال الله تعالى في سورة القصص {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُون}.
والمعنى : مثَل هؤلاء النافقين وفعلهم معك يا محمّد كمثَل المنافقين من قوم موسى وفعلهم معه ، ومِمّا يؤيّد ذلك قوله تعالى في سورة الأحزاب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا}.
(فَلَمَّا أَضَاءتْ ) يعني فلمّا أضاءت الشجرة التي كلّم الله تعالى منها موسى وهي شجرة الزيتون ، أضاءت بالعلم والهداية (مَا حَوْلَهُ ) يعني أضاءت على موسى ومن حوله وهم بنو إسرائيل بأن أنقذهم من يد فرعون وخلّصهم من عذابه ، وفعلاً كانت الشجرة تضيء بالنور ولذلك ظنّها موسى ناراً . فكفر بنو إسرائيل بعد ذلك وفسقوا وخيّم الجهل عليهم فقالوا أرِنا الله جهرةً فأخذَتهم الصاعقة ، وصارت ظلمة ، وهذا معنى قوله تعالى (ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ ) أي بنور الهداية من فاسقي بني إسرائيل (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ ) الجهل (لاَّ يُبْصِرُونَ ) الحقّ .