الجنة او الجنان
من كتاب الانسان بعد الموت لمفسر القرآن المرحوم محمد علي حسن الحليإنّ الجنان التي ندخلها يوم القيامة هي أثيرية وليست بِمادية لأن التي تدخلها هي النفوس لا الأجسام ، وموقعها في الفضاء ، وهي سبعٌ فإذا صار يوم القيامة تكون ثمانية , وقد سبق الكلام عنها في كتابنا (الكون والقرآن) بعنوان (السماوات الأثيرية) ، وهنّ الحاملات للعرش وهنّ الملقّبات بالكرسي ، فقد جاء في مجموعة التوراة في صحف إشعيا النبيّ في الإصحاح السادس والستين قال : ((هكذا قال الربّ : السماوات كرسيّي والأرض موطئ قدمي )) ، فالسماوات هنا يريد بِها الطبقات الأثيرية .
والجنان الأثيرية باقية لا تفنى ولا تزول إلى الأبد ولا يعتريها عارض ، والجنان لا يعلم الناس موقعها ليدخلوها ولكنّ الله تعالى يرسل ملائكته فيرشدون المؤمنين إليها .
قال الله تعالى في سورة الأعراف {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} فقوله تعالى {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} يعني يقولون إذا دخلوا الجنة : الحمد لله الذي أرشدنا إلى طريق الجنة فدخلناها وما كنّا لنهتدي إلى طريقها لولا أن هدانا الله إليها .
وقال تعالى في سورة الفاتحة {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} يعني أرشدنا إلى الطريق المستقيم الذي يوصلنا إلى الجنة ، ولذلك قال بعدها {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} ، فالذين أنعم عليهم هم أهل الجنة ، وذلك كقوله تعالى في سورة النساء {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} .
وقال تعالى في سورة يونس {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} ، فقوله تعالى {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} يعني يهديهم إلى طريق الجنة بسبب إيمانهم بالله وتصديقهم بمحمّد (ع) .
وقال تعالى في سورة الإنسان {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا} أقول كيف يعيش الإنسان بلا شمس وهي حياة الإنسان ولكن النفوس هي التي تدخل الجنة دون الأجسام فلذلك قال سبحانه {لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا} وذلك لأنّ النفوس تتأذّى من شعاع الشمس وحرّها وكثرة ضيائها ، والمعنى لا يرون في الجنّة شمساً ولا قمراً ولا يصيبهم فيها حرٌّ ولا برد ، فالقمر بلغة طي يسمّى " زَمْهَرِيرًا " ، وفي ذلك قال شاعرهم :
وليلةٍ ظلامُها قدِ اعْتَكَرْ قَطَعتُها والزمهريرُ ما زَهَرْ
وإنما كانوا يسمّون القمر زمهريراً لأنّهم كانوا يظنّون أنّ البرد يأتي من القمر كما أنّ الحرّ يأتي من الشمس .
وقال تعالى في سورة البقرة {وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} فقوله تعالى {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ} يعني الذي رُزِقوا به في الدنيا وجدوه أمامهم في الجنة ، لأنّ كلّ ثمرة لها روح فإنّهم أكلوا المادّيات في دار الدنيا فوجدوا الأثيريات في الجنة فقالوا {هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ} ، وأمّا قوله تعالى {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} يعني مطهّرة من الحيض والبول والغائط لأنّها أثيرية .
وقال تعالى في سورة الرعد {مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} فقوله تعالى {أُكُلُهَا دَآئِمٌ} يعني ثمرتها موجودة دائماً فهي لا تفسد ولا تنفد لأنّها أثيرية .
وقال تعالى في سورة مريم {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا} فلماذا يقول {نُورِثُ} لأنّ الأشجار التي كانت للكافرين في دار الدنيا يعطيها الله للمؤمنين في الآخرة فتكون إرثاً لهم ، وذلك لأنّ الأشجار لها أرواح كما للناس نفوس .
وقال تعالى في سورة المؤمنون {أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ . الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} يعني يرثون ما كان للكافرين في دار الدنيا وهو الأثيري منه لا المادّي .
وقال تعالى في سورة الزخرف {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ . لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ} .
وقال تعالى في سورة الصافات {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ . إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} فلماذا لا يموتون ؟ لأنهم أثيريون .
وقال تعالى في سورة الدخان {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ}
وقال عزّ مِن قائل في سورة محمد {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ..إلخ} فقوله تعالى {لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} لأنه أثيري فلو كان مادّياً لتغيّر طعمه .
والخلاصة إنّ الجنة أثيرية وأشجارها أثيرية وسكانها أثيريون وحورها بنات أهل الدنيا وولدانها أولاد أهل الدنيا أي نفوسهم الأثيرية , فأولاد الكافرين الذين يموتون قبل بلوغ الرشد يكونون خدماً لأهل الجنة وكذلك البنات ، وأما بنات المؤمنين فهنّ الحور يتزوّج بهنّ أهل الجنة ، وأمّا أطفال المؤمنين كلٌّ منهم يبقى عند أبويه في الجنة يأنسون بهم ويلاعبونهم ، وذلك لأنّ نفوس الأطفال لا تكبر بعد انفصالها من الأجسام بل تبقى على ما كانت عليه وقت مماتها . قال الله تعالى في سورة الزخرف {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} يعني أزواجهم التي كانت معهم في دار الدنيا . وقال تعالى في سورة الطور {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ} يعني من أولاد أهل الدنيا يكونون غلماناً لأهل الجنة .
والخلاصة أنّ موقع الجنان في السماء لا في الأرض وهنّ أثيريات لا مادّيات ، والدليل على ذلك قوله تعالى في سورة الأعراف {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} فبيّن سبحانه أنّ الجنة لا يدخلها أحد إلاّ بعد أن تفتح له أبواب السماء ، والسماء هنا يريد بِها الطبقات الغازية .
وقال تعالى في سورة القمر {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ . فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} يعني عنده في السماء .
وقال تعالى في سورة الحاقة {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ . فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} يعني في الفضاء .
وقال تعالى في سورة القلم {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ } يعني عنده في السماء . وقال تعالى في سورة الرعد {مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا ..إلخ} فقوله تعالى {أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا} دليل على أنّها ليست في أحد الكواكب السيارة ، فلو كانت الجنة أرضاً كأرضنا لكان الظلّ منتقلاً عليها ولم يكن دائماً , ولو فرضنا أنّ ذلك يكون حين وقوف الأرض عن دورتها المحورية فيكون الظلّ فيها دائماً غير متنقّل إذاً لأصبحت جحيماً وليست بنعيم وذلك في الجهة التي تكون مقابلة للشمس ، وأمّا الجهة التي تكون بعكس الشمس فإنّها تصبح زمهريراً لشدّة البرد فيها ، إذاً الجنة لا تكون على أرضٍ من الأراضي بل هي في السماء .