بسم الله الرحمن الرحيم
هذا الموضوع نقلا من كتاب (زيارة المزارات ) لحيدر علي قلمداران القمي
كان الأئمة عليهم السلام يتبرؤون كل التبرؤ وترتعد أبدانهم ممّا يَنْسِبُهُ إليهم بعض الغلاة - لعنهم الله - من علمهم المطلق بالغيب، كما روى المجلسي نقلاً عن كتاب «رجال الكشي» بسنده عن عن عنبسة بن مصعب قال قال لي أبو عبد الله (الإمام الصادق) عليه السلام:
«أيُّ شيء سمعت من أبي الخطاب؟ قال: سمعتُه يقول إنكَ وضعتَ يدكَ على صدره وقلتَ لهُ عِه ولا تنسَ! وأنكَ تعلمُ الغيبَ وأنك قلتَ له عيبةُ علمنا وموضعُ سرِّنا أمينٌ على أحيائنا وأمواتنا! قال (الإمام الصادق): لا والله ما مس شيء من جسدي جسده إلا يده، وأما قوله إني قلتُ أعلمُ الغيبَ فو اللهِ الذي لا إله إلا هو ما أعلم، فلا آجرني الله في أمواتي ولا بارك لي في أحيائي إن كنتُ قلتُ له. قال: وقدامه جويرية سوداء تدرج فقال: لقد كان مني إلى أم هذه أو إلى هذه كخطة القلم فأتتني هذه فلو كنت أعلم الغيب ما كانت تأتيني ولقد قاسمتُ مع عبد الله بن الحسن حائطا بيني وبينه فأصابه السهل والشرب وأصابني الجبل..»(104).
إن عدم معرفة الغيب لا تُنقص من شأن الأئمة ولا تُنزّل من مقام إمامتهم، بل حتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ المُؤيَد بالتأييدات الإلهية، ومهبط الوحي الإلهي نفى علم الغيب(105) عن نفسه وذلك طبقاً للآية الكريمة: ((قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء الله وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)) (الأعراف/188).
ولا يقتصر الأمر على عدم علم الغيب بل إن كثيراً من العوارض البشرية التي تعرض لكل فرد عادي كانت تعرض لهم - عليهم السلام - أيضاً، كما روى الشيخ الصدوق في كتابه الشريف «عيون أخبار الرضا» (ج2/ص203) قال:
«حدثنا تميم بن عبد الله بن تميم القرشي قال حدثني أبي عن أحمد بن علي الأنصاري عن أبي الصلت الهرويقال قلت للرضا عليه السلام: يا ابن رسول الله! إن في سواد الكوفة قوماُ يزعُمُون أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ لم يقع عليه السهو في صلاته! فقال: كذبوا لعنهم الله إن الذي لا يسهو هو الله الذي لا إله إلا هو... الحديث».
ورى المجلسي في «بحار الأنوار» نقلا عن كتاب «السرائر» بسنده عن الفضيل قال: «ذكرتُ لأبي عبد الله عليه السلام السهوَ فقال: وينفلت من ذلك أحد؟! ربما أقعدت الخادمَ خلفي يحفظ علىَّ صلاتي. إياكم والغلو فينا! قولوا إنا عبيد مربوبون وقولوا في فضلنا ما شئتم. من أحبنا فليعمل بعملنا وليستعن بالورع فإنه أفضل ما يستعان به في أمر الدنيا والآخرة...»(106).
وكتب أمير المؤمنين علي عليه السلام رسالةً إلى «المنذر بن الجارود العبدي» قال له فيها: «أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ صَلَاحَ أَبِيكَ غَرَّنِي مِنْكَ وظَنَنْتُ أَنَّكَ تَتَّبِعُ هَدْيَهُ وتَسْلُكُ سَبِيلَهُ فَإِذَا أَنْتَ فِيمَا رُقِّيَ إِلَيَّ عَنْكَ لَا تَدَعُ لِهَوَاكَ انْقِيَاداً وَلَا تُبْقِي لِآخِرَتِكَ عَتَاداً تَعْمُرُ دُنْيَاكَ بِخَرَابِ آخِرَتِكَ وتَصِلُ عَشِيرَتَكَ بِقَطِيعَةِ دِينِكَ...» (نهج البلاغة/الرسالة 71 ص462).
وأورد السيد «هاشم البحراني» في مقدمة تفسيره «البرهان»، في الباب العاشر منها: أن بعض الناس زعموا أن المقصود من آيات القرآن هم الأئمة وأن «المفضل بن عمر» نقل ذلك إلى الإمام الصادق عليه السلام فأنكره بشدة وقال:
«و بلغكَ أنهم يزعمون أن الدين إنما هو معرفة الرجال ثم بعد ذلك إذا عرفتهم فاعمل ما شئت!.... وذكرتَ أنكَ قد عرفت أن أصل الدين معرفة الرجال وذكرت أنه بلغك أنهم يزعمون أن الصلاة والزكاة وصوم شهر رمضان والحج والعمرة والمسجد الحرام والبيت الحرام والمشعر الحرام والشهر الحرام هو رجل، وأن الطهر والاغتسال من الجنابة هو رجل، وكل فريضة افترضها الله على عباده هو رجل، وأنهم ذكروا ذلك بزعمهم أن من عرف ذلك الرجل فقد اكتفى بعلمه به من غير عمل..... (إلى قوله عليه السلام):
أُخْبِرُكَ أنه من كان يدين بهذه الصفة التي كتبتَ تسألُني عنها فهو عندي مشركٌ بالله تبارك وتعالى بيِّنُ الشرك لا شكَّ فيه.»(107).
وقد أكد أمير المؤمنين والأئمة - عليهم السلام - على التحذير من الغلو والغلاة وقال عليه السلام في هذا الصدد قولته الشهيرة: «هَلَكَ فِيَّ رَجُلَانِ مُحِبٌّ غَالٍ وَمُبْغِضٌ قَالٍ»(108) (نهج البلاغة/الحكمة رقم 117).
لذا نجد أن صاحب «تُحف العقول» يذكر ضمن وصايا أمير المؤمنين: «إياكم والغلو فينا! قولوا إنا عبيد مربوبون وقولوا في فضلنا ما شئتم. مَنْ أحبَّنا فليعمل بعملنا وليستعن بالورع».
وأنه كان يكرر وصيته: «.» (109) أي لا تُسقطوا أنفسكم من أعين مخالفيكم وأعدائكم بإيمانكم بالعقائد المغالية السخيفة التي تفضحكم أمام الناس يوم القيامة.
ولكن للأسف مع كل هذه الوصايا والتعاليم وضع الأعداء الخبثاء أو الأصدقاء الحمقى أحاديث كثيرة عن الأئمة - عليهم السلام - تُثبت لهم العلم بالغيب وإحياء الموتى وشفاء المرضى وتقسيم أرزاق العباد وأن لا شيء يتم في العالم ولا يتحرك إلا بإذنهم، وأنه عندما قام أمير المؤمنين بضرب «مرحب» نزل جبرائيل وإسرافيل وميكائيلمن السماء خشية من أن تصل ضربة أمير المؤمنين إلى الثور والحوت الحاملين للأرض!! وأن الأئمة كانوا يقضون على الثعابين وهم لا يزالون في المهد ويقفزون إلى السماء وهم في المهد، وأنه قبل نزول القرآن وبعثة نبي آخر الزمان قرأ عليٌّ على رسول الله سوراً من القرآن وهو لا يزال حديث الولادة ملفوفاً في قماش مهده!! وأمثال تلك الخرافات والأساطير التي يردّها العقل والشرع والتي لعن الأئمة - عليهم السلام - واضعيها واظهروا البراءة منهم مراراً كما روى الشيخ الصدوق في كتابه الشريف «عيون أخبار الرضا»عن الإمام الرضا عليه السلام أنه قال: «...يا ابن خالد! إنما وضع الأخبار عنا في التشبيه والجبر الغلاة الذين صغروا عظمة الله تعالى فمن أحبهم فقد أبغضنا ومن أبغضهم فقد أحبنا ومن والاهم فقد عادانا ومن عاداهم فقد والانا... الحديث»(110)
وروى الصدوق في كتابه المذكور أيضاً بسنده عن الإمام الرضا عليه السلام قوله: «يا ابن أبي محمود! إن مخالفينا وضعوا أخباراً في فضائلنا وجعلوها على ثلاثة أقسام: أحدها: الغلو، وثانيها: التقصير في أمرنا وثالثها: التصريح بمثالب أعدائنا فإذا سمع الناس الغلو فينا كفّروا شيعتنا ونسبوهم إلى القول بربوبيتنا، وإذا سمعوا التقصير اعتقدوه فينا، وإذا سمعوا مثالب أعدائنا بأسمائهم ثلبونا بأسمائنا وقد قال الله عز وجل ولا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ»(111).
المصادر
(104) المجلسي في بحار الأنوار ج 25/ص 322، من الطبعة الجديدة.
(105) مما يجدر ذكره أن الآية نفت علم الغيب المطلق عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ وَسَلَّمَ سواء كان علماً ذاتياً أو علماً موهوباً من الله وذلك لأنها نفت نتائج علم الغيب وانتفاء النتائج يستوي فيه أن يكون ذلك العلم بالغيب موهوباً أو ذاتياً، فالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيه وَآلِهِ لا يملك القدرة المطلقة على اختراق حُجُب الغيب متى شاء، بل لا يعلم الغيب إلا ضمن حدود ما يطلعه الله سبحانه عليه بمشيئته. فتأمل (المترجم)
(106) المجلسي في بحار الأنوار ج 10/ص 92، من الطبعة الجديدة.
(107) انظر بصائر الدرجات لمحمد بن الحسن الصفّار: ص526 - 527. وبحار الأنوار للمجلسي: ج24/ص 286 - 289، الطبعة الجديدة.
(108) وجاءت هذه العبارة عنه - عليه السلام - أيضاً بلفظ آخر هو: «يَهْلِكُ فِيَّ رَجُلَانِ مُحِبٌّ مُفْرِطٌ وَبَاهِتٌ مُفْتَرٍ» (الحكمة رقم 469، من نهج البلاغة)، (المترجم)
(109) المجلسي في بحار الأنوار: ج10/ص93 من الطبعة الجديدة.
(110) الشيخ الصدوق في «عيون أخبار الرضا»: ج1/ص 143.
(111) المصدر السابق: ج1/ص 304.