السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
انقل اليكم هذه المقالة للكاتب ( د. السيدولداباه) وذلك لاهمية الموضوع .
هل سيلغي العلم الدين؟
تاريخ النشر: الإثنين 11 أكتوبر 2010
"ستيفن هاوكينج" عالم فيزيائي بريطاني مشهور، يعيش مشلولاً شللاً كاملاً منذ سنوات عديدة ويخاطب العالم من مقعده المتحرك وحاسوبه الشخصي.
"هاوكينج" أصدر مؤخراً كتاباً مثيرا بعنوان "التصميم الكبير"the grand design ، كان يمكن أن لا يثير اهتمام غير الباحثين الفيزيائيين المختصين لولا عنوانه الفرعي: "إجابات جديدة حول القضايا القصوى في الحياة".
بيد أن الكتاب اشتهر فور صدوره بالأطروحة التي ختم بها مؤلفه، مجازفاً بالقول في الصفحة قبل الأخيرة: "وما دامت هناك قوانين مثل الجاذبية، فإن الكون بإمكانه أن يبدع نفسه انطلاقاً من لا شيء .إن الخلق التلقائي هو السبب في وجود شيء بدل العدم، ولماذا يوجد الكون ونوجد نحن. فليس من الضروري أن نذكر الإله للضغط على زر البداية والشروع في إطلاق الكون".
أثارت هذه الجملة جدلًا واسعاً في الأسابيع الماضية بين العلماء والفلاسفة، وبدت غريبة على عالم فيزيائي كبير من نوع "هاوكينج" الذي كان نشر قبل عقدين كتاباً بعنوان "تاريخ مختصر للزمن" بيعت منه عشرة ملايين نسخة، ذهب فيه إلى أن فرضية الإله الخالق ملائمة تماماً للحقائق العلمية الصحيحة.
وقد استند "هاوكينج" إلى النظرية الفيزيائية الجديدة المعروفة بـ "نظرية M" M theory أو نظرية العوالم المتعددة للتدليل على رأيه، مع العلم أنها لا تزال فرضية غير مؤكدة، كما لا معنى لتحميلها مضامين ميتافيزيقية قصوى.
علق العالم الفيزيائي "اتيان كلين" على أطروحة "هوكينج" بالقول إن كتابه ينم بوضوح عن سذاجة أبستمولوجية (الابستمولوجيا هي فلسفة العلم) على مسافة بعيدة من عبقريته العلمية في مجال تخصصه الدقيق. فنفيه لحاجة الكون إلى إله خالق يقتضي أن تكون له تصور معين لهذا الكائن المفارق الذي لا يحدثنا عن طبيعته وماهيته. فإذا كانت الجاذبية تكفي لتفسير الكون "فلماذا لا نقول إن الجاذبية هي الإله ؟"، وعندئذ تتغير فقط التسمية ما دام هذا القانون الفيزيائي تم تحويله إلى أصل متعال مطلق.
فالمفارقة التي تؤول إليها نظرية "هوكينج" تتمثل في القول بصدور الكون عن العدم، مما يتطلب إضافة بعض الخصائص الفاعلة إلى هذا العدم .مما يعني – كما يقول كلين – أن هذا القانون سابق على ثلاثية الفيزياء الحديثة : "المادة – المكان – الزمان"، وكأن مجرد معادلة رياضية "يمكن أن تصبح كوناً فيزيائياً".
إنما يبينه "كلين" هو ما كان قد قرره جل العلماء في الطبيعيات منذ انحسار أوهام "الديانة الوضعية"، التي حاول أن يستبدل بها الفيلسوف الفرنسي "أوجست كونت" العقلية اللاهوتية، التي اعتبر أنها مرحلة من مراحل الفكر الإنساني تجاوزتها العلوم التجريبية.
فمن البديهي أن مباحث النشأة والأصل لا تدخل في مشاغل واختصاصات العلوم التجريبية التي تتحرى وصف الظواهر الطبيعية لا تحديد أسباب وجودها.
والواقع أن الوهم العلموي (أي قدرة العلم على الوصول إلى كنه الوجود) ناتج عن ثلاث مصادرات لا تصمد أمام التمحيص والنقد:
- مسلمة اكتشاف القوانين الثابتة في الكون بقراءة كتاب الطبيعة من خلال الأدوات الرياضية.
- مسلمة التحقق التجريبي إطاراً للفصل بين الخطأ والصواب في كل القضايا المعرفية.
- مسلمة تمدد الموضوعية العلمية إلى كل أوجه النشاط الإنساني.
أما المسلمة الأولى، فتعود إلى بدايات الفكر العلمي التي ارتبطت بأطروحة فيلسوف الحداثة "ديكارت"، الذي كان أول من اقترح قراءة كتاب الكون الكبير رياضياً للوصول إلى هدف "تملك الطبيعة والسيادة عليها".
والواقع أن هذه المسلمة، وإنْ كانت هي الخلفية الجوهرية لنشأة العلم الحديث، إلا أنها فرضية ميتافيزيقية، وليست علمية، ما دام ليس ثمة دليل على تطابق الأنساق الرياضية التجريدية مع الوقائع الطبيعية. وقد احتاج ديكارت إلى القول بضمانة الإله الحامي من الخداع للتدليل على هذا التطابق المفترض.
والحال أن النماذج الرياضية لا تتعامل مع الظواهر الطبيعية، وإنما مع التجارب المخبرية التي ليست هي التجارب الأولى المشتركة، وإنما هي تجارب مبنية تتم في حقل التطبيقات التقنية من حيث هي "تصرف في الطبيعة " لا اكتشاف لها كما يقول "كارل بوبر".
أما المسلمة الثانية، فقد ظهرت بقوة لدى فلاسفة الوضعية المنطقية الذين اختزلوا معيار الحقيقة في إطار العلومية، واعتبروا التحقق التجريبي هو الخط الفاصل بين الصواب والخطأ.
وما دام العلم التجريبي تصرفاً إجرائياً في الطبيعة تحكمه النجاعة والأثر التقني، فإن الحقيقة لا معنى لها في النظريات العلمية التي لا تكون صائبة ولا خاطئة وإنما فقط "ملائمة" (بلغة بوبر) بحسب مجال صلوحيتها المحدد بالأفق المخبري. فما يميز النظريات العلمية هو قابليتها للتفنيد لا قابليتها للتحقق، وما يسم العلم هو القطائع والانفصال والتحول، لا تراكم الحقائق والتقدم في تفسير ألغاز الكون.
أما المسلمة الثالثة، فهي التي كانت وراء نشأة ما يسمى بالعلوم الإنسانية، التي هي في الواقع معارف "تأويلية - تاريخية " بلغة "هابرماس" متجذرة في الأفق الاجتماعي والرمزي، لا يمكن الفصل جذرياً فيها بين الوصفي والمعياري. ولم يعد ثمة قائل اليوم بقابليتها للوصول إلى أحكام موضوعية مجردة في الإنسانيات أو بقدرتها على تعويض المعتقدات الدينية.
فتصادم العلم والدين لا معنى له، بقدر ما أنه لا معنى للتدليل على الإيمانيات بالأدلة العلمية. إنهما نسقان فكريان متمايزان، لكل منهما منهجه ومفاهيمه. ومدار الفصل بينهما ليس العقل أو الاعتقاد، فالإيمان من حيث هو ثقة شرط في الممارسة العلمية (مصادرة اعتقاد قوانين في الطبيعة) كما أن المنظومات الدينية لا تستغني عن الأساليب البرهانية لصياغة المسلمات الإيمانية، وهي بذا تشترك مع العلم في هذه الأبعاد العقلانية.
لا يحمل كتاب "هاوكينج " جديداً...إنه بقية من الوهم الوضعي ناتج عن خروجه من اختصاصه العلمي إلى متاهات الميتافيزيقا.