واجبات الجسم والنفس
إعلم أنّ الأعمال التي يقوم بِها الجسم غير الأعمال التي تقوم بِها النفس وأنّ واجبات النفس لا يتمكّن عليها الجسم ، أمّا الأعمال التي يقوم بِها جسم الإنسان هي ما يأتي :
أوّلاً : النموّ ما دام شاباً ، فالجسم يأخذ في النموّ والازدياد حتّى ينتهي زمن شبابه فيقف حينئذٍ عن النموّ ، وذلك لأنّ الجسم مكوّن من حجيرات حيّة .
ثانياً : الدورة الدمويّة ، فالدم مستمرّ على الدوران غي الأوردة والشرايين حتّى الموت .
ثالثاً : الجهاز التنفّسي ، فالرئة مستمرّة على أخذ الأوكسجين وإخراج ثاني أوكسيد الكاربون حتّى الموت .
رابعاً : الجهاز الهضمي ، فالمعدة مستمرّة على هضم الطعام حتّى الموت .
خامساً : النوم ، فالنوم من حواسّ الجسم ليس على النفس منه شيء لأنّ النفس لا تنام .
فهذه الأعمال التي يقوم بِها الجسم خاصةً وليس للنفس عليها شيء من ذلك ، فإذا خرجت النفس من الجسم عند النوم فالجسم يبقى مستمراً على أعماله التي سبق ذكرها لا حاجة له بالنفس .
أمّا النفس فمن واجباتِها السمع والبصر والكلام والتفكير والشعور بالآلام واللّذات وغير ذلك ؛ وهذه الصفات تنقسم إلى قسمين :
[القسم الأوّل] فمنها ما تكون مشتركة بين النفس والجسم ، لأنّ أعضاء الجسم هي آلات موصلة لأعضاء النفس وحواسّها ، فالكلام مثلاً يكون مصدره من النفس ولكن لا يكون له صوت إلاّ إذا خرج من فم الجسم ، كما أنّ النائم يتكلّم في الرؤيا ويصرخ ولكن لا يكون له صوت حتّى أنّ من كان جالساً عنده لا يسمع صوته . وكذلك حمل الأثقال : فالنفس هي التي تحمل ، ولكن لولا أعضاء الجسم لَما أمكنها حمل شيءٍ من ذلك ؛ لأنّ النفوس لا يمكنها حمل المادّيات ولو كانت ريشة طائر .
وأمّا القسم الثاني فهو يختصّ بالنفس وذلك الذي سبق ذكره وهو كالسمع والبصر وعير ذلك ؛ لأنّ جسم النائم لا يسمع ولا يبصر ولكن النفس تسمع وإن كان الجسم نائماً ، ولذلك يرى الأعمى في منامه كما يرى البصير في اليقظة لأنّ البصر والسمع يختصّ بالنفس ، فمثال النفس مع الجسم كمثل السائق مع السيّارة ؛ فلنجعل الجسم مقام السيّارة ولنجعل النفس مقام السائق ، فكما يجوز للسائق أن يترك السيّارة واقفة وهي تشتغل ثمّ يعود إليها بعد ساعة ، فالسيّارة لا حاجة لَها في السائق في هذه المدة لأنّها واقفة في مكانِها ولكن آلاتها مستمرّة في الحركة ، فكذلك النفس يجوز لَها أن تترك الجسم نائماً وهو مستمرّ على واجباته ثمّ تعود إليه بعد ساعة ، فالجسم في هذه الساعة لا حاجة له في النفس ، وكما أنّ السائق هو الذي يقود السيّارة ويوجّهها أين ما أراد فكذلك النفس هي التي تسوق الجسم وتوجّهه أينما أرادت ، فالنفس آمر والجسم مأمور لَها مطيع لأمرها ، فالجسم إذاً ما هو إلاّ آلة تستعملها النفس بِما أرادت وتوجّهه ما شاءت .

من كتاب الانسان بعد الموت
لمفسر القران محمد علي حسن الحلي
الطبعة الثانية مطبعة المعارف- بغداد 1964