أن هذا الاستدلال يبطل نفسه ، فلو لم يجز الاعتماد على شيء من التصديقات ، لم يجز الاعتماد على المقدمات المأخوذة في نفس الاستدلال .
مضافا إلى أن : الاعتراف بوجود الخطأ و كثرته ، اعتراف بوجود الصواب بما يعادل الخطأ أو يزيد عليه .
مضافا إلى أن : القائل بوجود العلم ، لا يدعي صحة كل تصديق ، بل إنما يدعيه في الجملة .
و بعبارة أخرى : يدعي الإيجاب الجزئي ، في مقابل السلب الكلي ، و الحجة لا تفي بنفي ذلك .
و الجواب عن الثاني : أن محل النزاع ، و هو :
العلم : حقيقته ، الكشف عن ما وراءه .
فإذا فرضنا : أنا كلما قصدنا شيئا من الأشياء الخارجية ، وجدنا العلم بذلك ، اعترفنا بأنا كشفنا عنه حينئذ ، و نحن إنما ندعي وجود هذا الكشف في الجملة .
و لم يدع أحد : في باب وجود العلم ، أنا نجد نفس الواقع ، و ننال عين الخارج ، دون كشفه .
و هؤلاء: محجوجون بما تعترف به نفوسهم ، اعترافا اضطراريا ، في أفعال الحياة الاختيارية و غيره .
فإنهم : يتحركون إلى الغذاء و الماء ، عند إحساس ألم الجوع و العطش .
و كذا إلى كل مطلوب : عند طلبه ، لا عند تصوره الخالي .
و يهربون : عن كل محذور مهروب عنه عند العلم بوجوده ، لا عند مجرد تصوره .
و بالجملة : كل حاجة نفسانية ، ألهمتها إليهم إحساساتهم ، أوجدوا حركة خارجية لرفعها .
و لكنهم : عند تصور تلك الحاجة ، من غير حاجة الطبيعة إليها ، لا يتحركون نحو رفعه .
و بين التصورين : فرق لا محالة .
و هو أن أحد العلمين : يوجده الإنسان باختياره ، و من عند نفسه .
و الآخر: إنما يوجد في الإنسان بإيجاد أمر خارج عنه ، مؤثر فيه ، و هو الذي يكشف عنه العلم .
فإذن العلم : موجود ، و ذلك ما أردناه .
الميزان في تفسير القرآن ج1ص51 .
و اعلم : أن في وجود العلم شكا قويا من وجه آخر .
و هو : الذي وضع عليه أساس العلوم المادية اليوم ، من نفي العلم الثابت ؛ و كل علم ثابت .
بيانه : أن البحث العلمي ، يثبت في عالم الطبيعة نظام التحول و التكامل .
فكل جزء : من أجزاء عالم الطبيعة ، واقع في مسير الحركة ، و متوجه إلى الكمال .
فما من شيء : إلا و هو في الآن الثاني من وجوده غيره ، و هو في الآن الأول من وجوده .
و لا شك : أن الفكر و الإدراك من خواص الدماغ ، فهي خاصة مادية لمركب مادي ، فهي لا محالة واقعة تحت قانون التحول و التكامل .
فهذه الإدراكات : و منها الإدراك المسمى بالعلم ، واقعة في التغير و التحول ، فلا معنى لوجود علم ثابت باق .
و إنما هو نسبي : فبعض التصديقات أدوم بقاء و أطول عمرا ، أو أخفى نقيضا و نقضا ، من بعض آخر .
و هو المسمى : بالعلم ، فيما وجد .
و الجواب عنه :
أن الحجة : مبنية على كون العلم ماديا ، غير مجرد في وجوده .
و ليس ذلك : بينا و لا مبينا .
بل الحق : أن العلم ليس بمادي البتة ، و ذلك لعدم انطباق صفات المادة و خواصها عليه .
(1) فإن الماديات : مشتركة في قبول الانقسام .
و ليس يقبل العلم : بما أنه علم ، الانقسام البتة .
(2) و الماديات : مكانية زمانية .
و العلم : بما أنه علم لا يقبل مكانا و لا زمان .
و الدليل عليه : إمكان تعقل الحادثة الجزئية الواقعة في مكان معين و زمان معين ، في كل مكان و كل زمان ، مع حفظ العينية .
(3) و الماديات : بأجمعها ، واقعة تحت سيطرة الحركة العمومية ، فالتغير خاصة عمومية فيها .
مع أن العلم : بما أنه علم ، لا يتغير ، فإن حيثية العلم بالذات تنافي حيثية التغير و التبدل ، و هو ظاهر عند المتأمل .
(4) و لو كان العلم : مما يتغير بحسب ذاته كالماديات .
لم يمكن : تعقل شيء واحد ، و لا حادثة واحدة ، في وقتين مختلفين معا ، و لا تذكر شيء أو حادثة سابقة في زمان لاحق .
فإن الشيء المتغير : و هو في الآن الثاني غيره في الآن الأول .
فهذه الوجوه : و نظائرها ، دالة على أن العلم بما أنه علم ليس بمادي البتة .