النفوس بعد الموت
قلنا فيما سبق أنّ الموت كالولادة ، فكما يخرج الجنين من بطن أمه ويرى أنه انتزع جسماً كان يغلّفه ، كذلك النفس عند الموت ترى أنّها انتزعت جسماً كان يغلّفها وخرجت منه ، ولَمّا كانت النفس تعوّدت هذا الجسم وكان يقيها من المؤثّرات الخارجية وكان ملجئاً لَها أخذت تتبعه في بادئ الأمر إلى حيث نقلوه ، ولكنّها في ذلك الوقت تكون متفكّرة ومتعجّبة إذْ ترى أنّها صارت في عالمٍ آخر ، فبعد أن كان الإنسان ذا جسمٍ مادي ثقيل ، أصبح أثيرياً خفيفاً ، وكان لا يسمع إلاّ القريب فصار يسمع البعيد والقريب ، وكان لا يرى المخلوقات الروحانية فصار يرى الروحانية والمادية ، وكان ضعيف النظر فصار قويّ البصر ، وكان يمشي على الأرض فصار يمكنه أن يطير في الفضاء بلا جناح . فإذا رأى ذلك من نفسه أخذته الدهشة ، ثمّ يزيد عجبه إذا رأى أهله وأقاربه يبكون عليه ويقولون مات فلان ، فيأتي إليهم ويقول لَهم : "إنّي لم أمت فما بالكم تبكون عليّ وتقولون مات فلان ألا ترونني واقفاً أمامكم ؟" ولكن لا يسمعه أحدٌ منهم ولا يراه أحد لأنه أصبح مخلوقاً أثيرياً والأثيريات لا تراها الماديات ، ولا يزال يكرّر عليهم الكلام حتّى يعلم أنّهم لا يرونه ولا يسمعونه فحينئذٍ يتركهم إلى ما شاؤوا أن يفعلوا ولِما أرادوا أن يتكلّموا ، فحينئذٍ تأتي إليه أقاربه الأموات ويأخذونه معهم إلى أماكنهم فيتحدّثون ويتزاورون ويأكلون ويشربون ، ويتنزّهون في الحدائق هذا في الليل ، فإذا أصبح الصباح وطلعت الشمس رجعوا إلى أماكنهم ولا يخرجون إلاّ وقت غروب الشمس ، وقد يخرج بعضهم في النهار ويتجوّلون في بعض الأماكن ولكن لا يرتاحون في جولتهم ولا يأنسون بل تؤذيهم الشمس وتخطفهم الطير وتزعجهم أصوات الناس والضوضاء وتهوي بهم الريح في مكانٍ سحيق فيرجعون إلى أماكنهم ، وإنّما يكون خروجهم بالليل ورجوعهم بالنهار لأنّ الشمس تؤذيهم فلا يستطيعون النظر إليها ولا الجلوس في أشعتها ولا يطيب لهم العيش إلاّ في الظلام ، وذلك لحدّة بصرهم وقوته ، يكتفون بالضياء القليل كضياء المصباح أو ضياء القمر أو بلا ضياء ، فهم من هذه الوجهة كالخفّاش يطير بالليل ويختفي بالنهار ، ولذلك يسكنون السراديب أو المحلاّت المنعزلة عن الناس التي لا تنزل عليها أشعة الشمس أو الكهوف أو الخرائب أو البيوت المتروكة التي لا تسكنها الناس . قال الله تعالى في سورةالدهر في وصف أهل الجنة {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا} ، أبعدهم الله تعالى عن الشمس لأنّها تؤذيهم
من كتاب الانسان بعد الموت لمفسر القرآن المرحوم محمد علي حسن الحلي