من كتاب الانسان بعد الموت لمفسر القرآن المرحوم محمد علي حسن الحلي.
[الملابس]
واعلم أنّك حين موتك وانفصالك عن جسمك ترى نفسك عرياناً فتستحي مِمّا أنت فيه فتلتفت يميناً وشمالاً تبحث عن ثوبٍ تلبسه وتستر به عورتك فلا تجد غير الثياب المادية التي كنت تلبسها في الدنيا ، فإذا جئت لتأخذها وتلبسها فلا تقدر على حملها من مكانِها لأنّك أصبحتَ مخلوقاً روحانياً أثيرياً فتتركها وتفتّش عن غيرها حتّى تيأس مِنها و تبقى عرياناً . أمّا إذا كنت من الصالحين ومن الموحّدين فإنّ الملَكين رقيب عتيد اللذَين كانا بصحبتِك في دار الدنيا يأتيانك بثوب جديد أثيري فتلبسه و تستر به عورتك ، وإلى ذلك أشار الله تعالى في كتابه المجيد بقوله {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ} . أو أنّك أعطيت في حياتك الدنيا رداءً للفقير في سبيل الله ، فإنّ الملائكة تأتيك به فتلبسه وتستر به عورتك ، قال تعالى في سورة آل عمران{لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ} ، و قال تعالى في سورة الأنفال {وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ}[العطش]ثانياً إنّك بعد موتك تشعر بالعطش فتذهب تفتّش عن الماء لتشرب وتروي عطشك ، فإذا أتيت آنية الماء لتحملها وتشرب فلا تستطيع حملها لأنّك أصبحت مخلوقاً أثيرياً فتتركها وتذهب تفتّش عن غيرها فتأتي إلى النهر فتبسط يديك إلى الماء لترفعه وتشرب منه فلا يمكنك فتتركه وتذهب تفتّش عن غيره لعلّك تجد ماءً تشربه ، وإلى ذلك أشار الله تعالى في كتابه المجيد في سورة الرعد {كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ ...الخ} . أمّا إذا كنتَ من الصالحين فإنّ الملكين يأتيانك بكأسٍ من ماء الجنة فتشربه فترتوي ولا تظمأ بعده أبداً ، وبذلك تعرف نفسك هل أنت من السعداء أم من الأشقياء .[الجوع] ثمّ إنك تشعر بالجوع فتفتّش عن طعامٍ تأكله فلا تجد فتبقى جائعاً ، فإنْ كنت من الصالحين فإنّ الملَكين يأتيانك بفواكه أثيرية فتأكل وتشبع . وإنْ كنت قد أعطيت لرجل فقير طعاماً : خبزاً أو فاكهةً في سبيل الله ، فإنّ الملَكين يأتيانك به فتأكل ، قال تعالى في سورة البقرة {وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} ، والمعنى إذا أنفقت شيئاً مادياً للفقير في سبيل الله ، كعنقود عنب مثلاً ، فإنّك تجد نسخته الأثيرية في الآخرة ، لأنّ كلّ شيء مادي له روح أثيرية ، فتأكله ويعود عنقوداً [على شجرته في الجنة] كما كان .[تواجد الأرواح] واعلم أنّ الأرواح معنا في بيوتنا ومحلاّتنا وسراديبنا ، فهي مزدحمة في كلّ مكان ترى أعمالنا وتسمع أقوالنا ، وقد جاء ذلك على ألسن الناس أيضاً وحتّى في أغانيهم ، وهو قوله :"الأرض كلها ارواح خفّف مشيتَكْ حتّى على الميتين عمّت أذيتَكْ "ولكنّنا لا نراهم ولا نسمع كلامهم وحتّى أنّنا لا نسمع وقع خطواتهم على الأرض ، قال الله تعالى في سورةمريم {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا}.[تأثير الرياح والأمطار على الأرواح]فإذا خرجتَ ليلاً وكانت رياح شديدة أو أمطار فلا تذهب إلى مكانٍ ما ، بل انتظر في إيوانك حتّى تسكن الرياح والأمطار لأنّ الريح ترفعك وتلقي بك في مكان سحيق فتتألّم ، أمّا الأمطار فتسقط على رأسك فتثقب جسمك الأثيري وتنزل إلى الأرض فتعمل بك كما يعمل الرصاص (صچم) في الأحياء .[الفرار من عالم المادة إلى جوار ربّك] والأحسن من هذا وذاك أن تنهزم من الأرض وتصعد إلى السماء وتنجو من المادة وتكون في جوار ربّك ، فقد قال تعالى في سورةالذاريات{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} يعني تخلّصوا من المادة بأعمالكم الصالحة وتقواكم وبرّكم وبذلك تكونون في الجنان الأثيرية عند ربكم ، وقال تعالى في سورة الأعراففي قصةبلعام بن باعور{وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} ، والمعنى : لو ترك بلعام المادة والطمع لرفعناه إلى الجنان الأثيرية ولكنه طمع في المال وأخلد إلى الأرض ، يعني أحبّ الخلود في الأرض دون السماء . واعلم أنّ الإنسان ضعيف عاجز تعجزه البقة وتقتله الشرقة ، وكذلك في حياته الأثيرية الشمس تزعجه والطير تخطفه والرياح تنقله والحشرات تؤذيه والنفوس الشرّيرة تبتليه ؛ فمن أراد الراحة والسعادة والحياة الأبدية فليترك الدنيا ويعمل للآخرة ويكون من المتقين فإذا مات أخذته الملائكة إلى الجنان يعني إلى السماوات الأثيرية فهناك الحياة الأبدية وهناك ظلٌّ ممدود وماءٌ مسكوب وفاكهةٌ كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة وفرُشٌ مرفوعة ؛ فلا شمس هناك تزعجه ولا رياح تنقله ولا حشرات تؤذيه ولا طير مادّي يخطفه ؛ ولا يوصلك إلى ذلك النعيم إلا عمل البِرّ وترك الطمع والله يحبّ المحسنين
من كتاب الانسان بعد الموت لمفسر القرآن المرحوم محمد علي حسن الحلي.