والنفوس يمكنها أن تكلّمنا وتفهمنا ما أرادت وذلك بالوحي ، ولكن على شروط :
أولاً : أن يكون ذلك وقتَ الليل أو في محلّ مظلم لأنّ النفوس تنفر من ضياء الشمس ،ثانياً :أن يكون المكان خالياً من الأصوات والضوضاء ليفهم الإنسان كلام النفوس ،ثالثاً : أن يكون الهواء ساكناً ليصل كلامهم إلى أذهاننا ، فالوقت المناسب لذلك نصف الليل والأصوات هادئة .رابعاً : أن يكون الشخص المخاطَب حاذقاً فطِناً ليفهم كلامهم وإلاّ فلا يفهم .خامساً : أن تتكلّم معهم بصوتٍ منخفض ولا تعطس ولا تسعل لأنّ النفوس تزعجها الأصوات العالية ، ثمّ إن الهواء يأخذ في الحركة والتموّج من أصواتنا فينقطع عنّا كلام النفوس .وإليك نادرة أذكرها بمقام شاهد فأقول :سافرت من الحلّة إلى الديوانية في بعض الأيام وأقمتُ فيها أربعة أيام أشتغل في مهنة التصوير، فعزمت في اليومالخامس على الرجوع إلى الحلّة ، فلمّا اضطجعت على الفراش وأردتُ النوم سألتُ الله أن يرسل إليّ أحداً يوقظني من نومي في الساعة التاسعة والنصف من الليل أي قبل طلوع الفجر بساعتين [هذا حسب التوقيت العربي القديم الذي كان شائع الاستعمال حينذاك والذي تكون بدايته عند غروب الشمس ] لكي أذهب إلى محطّة القطار فأركب فيه إلى الحلّة ، وكان القطار يمشي من الديوانية في الساعة العاشرة من الليل ، فيكون الوقت بيني وبين مسير القطار نصف ساعة ، وأكتفي بهذا الوقت لأنّ محطّة الديوانية قريبة منها ، ثمّ أخذني النعاس فنمتُ وذلك في الفندق المعروف بِفندق البحراني ، ثمّ انتبهتُ من نومي بعد ساعات ولم يكنْ في الغرفة أحدٌ غيري ، فقلتُ في نفسي : "لا أعلم كم تكون الساعة الآن" ، أي لا أعلم هل ذهب الوقت منّي فجاء الصباح أم لم يأتِ الوقت الذي أريده فأعود إلى نومي . قلتُ هذه الكلمات في نفسي ولكنّ شفتَيّ أخذتا تتحرّكان قليلاً بحيث لو كان شخصٌ واضعاً أذنه في فمي لم يسمع ذلك منّي . فأوحِيَ إلى ذهني أنّ الساعة التاسعة والنصف إلاّ خمس دقائق . هذا فكأنّما كان شخصٌ حاضراً إلى جنبي فأخبرني بالوقت ، وقد رسخت كلماته في ذهني وفهمتها وفهمتُ اتجاه الكلام أيضاً ، ولا أنسى أنّ الكلام أوحيَ إليّ من الجهة اليمنى أي من جهة فضاء الغرفة لا من جدارها ، فصرتُ أكرّر تلك الكلمات على لساني قائلاً "بالتسعة ونصف إلاّ خمس دقائق" إلاّ أنّني لم أسمع لتلك الكلمات صوتاً بل أوحِيَتْ إلى ذهني وحياً ، فتعجّبتُ من ذلك وقلتُ في نفسي : "يا ترى من الذي علم ما نويتُه في نفسي ثمّ أجابني عليه ؟" ففهمتُ من ذلك المتكلّم بالوحي يقول "أنا أخوك صالح" فزاد تعجّبي من ذلك ورفعتُ رأسي عن الوسادة وصرت ألتفت يميناً وشمالاً فلم أرَ أحدً في الغرفة غيري ، غير أنّي لم أكترث بكلامه وقوله "أنا أخوكَ صالح" ، بل قلتُ في نفسي : "إنّ أخي ماتَ وعمره سبع سنين ودُفِنَ في كربلاء فكيف يكلّمني وهو ميّت وكيف يحضر عندي في الديوانية وهو مدفون في كربلاء ؟" ثمّ جلستُ من رقادي وتناولتُ ساعتي من جيب سترتي وكانت معلّقة على الجدار إلى جنبي فنظرت إليها فإذا هي بالتاسعة والنصف ينقص منها دقيقتان ، وقد ذهب من الوقت ثلاث دقائق ، أي من وقت ما أخبرني به أخي إلى وقت رؤيتي للساعة ، فكان الوقت كما أخبرني به لم يزد ولم ينقص دقيقة واحدة ، فزاد تعجّبي من ذلك . وقد خطرت ببالي أسئلة أخرى فوددتُ أن يجيبني عنها ولكن لم أسمع منه جواباً وذلك على ما أعتقد بأنّ الهواء الذي في الغرفة أخذ يتحرّك ويتموّج بسبب ما بدا منّي من حركة وسعال وغير ذلك فانقطع عنّي كلامه فلم أعدْ أفهم منه شيئاً لهذا السبب . أقول فلا شكّ بأنّ الله تعالى أرسل إليّ نفس أخي لتوقظني من نومي إجابة لسؤال ، ولَمّا أيقظتني وسمعت منّي استفهام الوقت أجابتني عليه وأفهمتني بالوقت ، ثمّ سمعت منّي استفهام الشخص المتكلّم فأخبرتني : أنا أخوك صالح ، ثمّ قمت ولبستُ ملابسي وذهبت إلى المحطّة فركبت القطار ورجعتُ إلى الحلّة . وإليك حادثة أخرىنقلتها عن صالح قاسم الموصلي قال : كنت جندياً في بغداد وكانت عليّ حراسة فلمّا انتهت حراستي ذهبت إلى القاووش فانطرحت على فراشي وكان الوقت نصف الليل ولم يكن في القاووش مصباح فبينما أنا مضطجع وإذا بشبح دنا منّي فالتفتّ إليه وإذا هي أمّي فانحنتْ عليّ وقالت "هو" فراعني منظرها في ذلك الظلام فنهضتُ من فراشي فلم أرَ أحداً . فأوقدتُ شمعة كانت عندي وفتّشتُ في القاووش فلم أرَ أحداً فرجعتُ إلى مضجعي وإذا بأمّي تدنو منّي وانحنَتْ عليّ ثانيةً وقالت "هو" ، فخفتُ وخرجتُ من القاووش ونمتُ في مكانٍ آخر . ولَمّا أصبح الصباح جاءتني برقية من الموصل بأنّ والدتك توفّيت أمس ، فعلمتُ بأنّ الذي جاءني ليلاً هو روحها .سؤال 8 :هل تأتي النفوس لزيارة أهلها ؟جواب : تأتي كلّما اشتاقت لزيارتهم وتسلّم عليهم وتكلّمهم ولكنّهم لا يسمعون كلامها ، فإذا يئسَتْ منهم رجعت إلى محلّها .سؤال 9 : لماذا لا تسكن النفوس دورها التي كانت تسكنها في قيد الحياة وتجالس أهلها بل تجالس النفوس ؟جواب : إنّ النفوس لا تألف الأحياء المادية إذْ لا يمكنها مجالستها والتكلّم معها ، ولذلك تألف النفوس التي هي من جنسها لأنها يمكنها رؤيتها ومجالستها والتكلّم معها كما قيل في المثل "الجنس إلى الجنس يميل" وقال الآخر "إنّ الطيور على أشكالِها تقعُ" ، ثانياً إنّها تتجنّب الضوضاء والأصوات العالية وتتجنّب الصدمات التي تعترضها كرمية حجر أو صدمة طائر ، كما صدمتني ومزّقت أحشائي ، أو ما شابَهها ولذلك تحبّ العزلة عن الأحياء المادية .
من كتاب الانسان بعد الموت لمفسر القرآن المرحوم محمد علي حسن الحلي