قلنا فيما سبق أنّ المحشر يكون في الفضاء الذي فيه الشمس والكواكب السيارة أي في فضاء المجموعة الشمسية التي تتمزّق في ذلك اليوم ، وهناك تكون الغازات المنبعثة من الشمس ، فحينئذٍ يصرخ إسرافيل بالناس ويقول : (هلمّوا يا عباد الله إلى الحساب والجزاء ) ، فتلبّيه الناس وتجتمع عنده ، فحينئذٍ ينزل جبرائيل ومعه الملائكة من السماوات الأثيرية ، فتصطفّ الملائكة صفوفاً ويقف جبرائيل أمامهم وتجتمع عنده الأنبياء والأولياء وهناك تكون المحاكمة والحساب ، والحساب يكون للموحّدين الصالحين ، أما الكافرون والمشركون فلا حساب عليهم لأنّه لا يدخل أحد الجنة إلاّ بعد المحاكمة والحساب ، وأوّل من يُحاسَب هم الأنبياء فإنّ الله تعالى يحاسبهم بنفسه فإذا انتهى حسابهم أمرهم الله تعالى أن يحاسبوا المؤمنين ويبعثوهم إلى الجنة ، فحينئذٍ تأتي الأنبياء والملائكة الذين كانوا مع الناس في دار الدنيا يكتبون أعمالهم وهم (رقيب عتيد) فيحاسبون المؤمنين الموحدين ، فالأنبياء تحاكمهم وتحاسبهم والملائكة تشهد عليهم بِما فعلوه في دار الدنيا فمَن ينتهي حسابه تأخذه الملائكة إلى الجنة .
فيبقى المذنبون من الموحدين في المحشر ، فحينئذٍ يسأل الأنبياء والأولياء والملائكة الشفاعة فيأذن الله لمن يشاء فيمن يشاء من الموحدين فيأخذوهم إلى الجنة ويبقى الكافرون والمشركون في المحشر فيقولون للملائكة ألا تأخذونا معكم إلى الجنة وتخلّصونا من العذاب ، فتقول لهم الملائكة إنكم كذّبتم الرسل وكفرتم بربّكم وفعلتم كذا وكذا في دار الدنيا فَ{الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا} [كما في سورة الجاثية] ، ثمّ تجذبهم سقر إليها فيبقون حولها معذَّبين .قال الله تعالى في سورة الأنبياء{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } ، فالموازين هي القوانين التي فيها الأحكام الشرعية ، وذلك كقوله تعالى فيسورة الشورى {اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ ..إلخ} فالموازين التي نزن بِها الفواكه وغيرها لم تنزل من السماء طبعاً . إذاً الموازين يريد بِها الأحكام الشرعية والقوانين العرفية .وقال تعالى في سورة الحديد {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ..إلخ} فالميزان يريد بِها الأحكام والقوانين ، وفي ذلك قال عبيد بن الأبرص :ما الحاكمونَ بِلا سمعٍ ولا بصرِ ولا لسانٍ فصيحٍ يُعجِبُ الناسافأجاب امرؤ القيس :تِلكَ الموازينُ والرحمانُ أنزلَها ربّ البريّةِ بينَ الناسِ مقياساوقال الشاعر :وقال حسّان :قومٌ إذا استُخصِمُوا كانوا فراعنةً يوماً وإن حُكِّمُوا كانوا مَوازيناويثربُ تَعلمُ أنّا بِها إذا الْتَبَسَ الأمرُ ميزانُهاوقال تعالى في سورة الكهف{أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} ، يعني فلا نقيم لهم محاكمة كي يخرجوا من جهنّم بل يبقون فيها معذّبين .وقال تعالى في سورة المؤمنون{فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ . وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} ، ومعناه فمن طالت محاكمته فأولئك هم المفلحون ومن قصرت محاكمته فأولئك الذين خسروا أنفسهم ..إلخ لأنّه لا يدخل الإنسان الجنة إلاّ بعد المحاكمة والحساب ، فالكافرون لا يُحاكَمون لأنّهم لا يدخلون الجنة ، ومثال ذلك الموقوفون عندنا في دار الدنيا فإنّهم لا يطلق منهم أحد إلاّ بعد المحاكمة ،قال الله تعالى في سورة سبأ{وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} ،وقال تعالى في سورة القارعة {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ . فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ . وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ . فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} يعني فمأواه الهاوية والهاوية هي جهنّم .وقال تعالى فيسورة الأعراف {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ . وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ} فالوزن يريد به المحاكمة .وقال تعالى في سورة الزمر {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} .
من كتاب الانسان بعد الموت لمفسر القرآن المرحوم محمد علي حسن الحلي