وصف الله تعالى في سورة مريم، الأحداث المرافقة لولادة المسيح، حيث حملت مريم بعيسى، ولما جاءها المخاض وولدت الطفل الجديد كلّمها وعلّمها أن تشرب من النهر تحتها وأن تأكل من النخلة التي بجنبها إضافة إلى أنه طمأنها وأخبرها أن لا تخاف وعلّمها أن لا تكلم الناس بل تشير إليه ليتكلم بدلها. كل تلك الحكم والمواعظ ورباطة الجأش والصبر وحسن التصرف بالمواقف صدرت من هذا الوليد المفروض أنه رضيع. من أين لهذا الوليد الجديد كل هذا الوعي والإدراك؟ حتى آدم عندما خلقه الله تعالى لم يكن يمتلك معشار تلك الحكمة.
عندما جاءت مريم قومها تحمله بين يديها، جاءوا إليها مستنكرين الطفل الذي تحملّه.. فأشارت إليه فكان جوابهم العجيب:
" فَأَشَارَتْ إِلَيْه قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا"
الصبي كما هو معلوم ، هو غير الرضيع حيث أن الصبي يفوق عمره العشر سنوات ... فكيف جاء في وصف الوليد " كان في المهد صبياً" وليس "رضيعاً " ؟
والمسألة الأخرى تكمن في الكلام التالي الذي نطقه ذلك الوليد:
"قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا "
الوليد الذي لم يمض على ولادته غير دقائق أو ساعات يقول أن الله قد آتاه الكتاب ... فأين ومتى آتاه الله الكتاب؟ وكلامه ينص على أن الامر قد حدث في زمن ماضي.
وتأمل معي القول الآخر لهذا المسيح:
"وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا "
لا حظ قوله تعالى " أين ما كنت " وهناك فرق كبير لو كان القول " أينما أكون" .. حيث أن الأول يدل على أحداث ماضية كان فيها هذا الوليد مباركاً.
ثم لا حظ قوله تعالى "وأوصاني بالصلاة والزكاة" ... متى أوصاه الله بالصلاة ؟ هل بعد الولادة؟! وما معنى وصية بالصلاة للرضع؟
عندما يوصي الله إنساناً بالصلاة فلا بد أن يكون هذا الإنسان واعي لما يوصى به ومدرك له ويقوم به إختياراً وإيماناً .
كل ما تقدم هو إشكلات لم أجد لها حلاً إلّا في كتاب المتشابه من القرآن بقلم محمدعلي حسن الحلي:
حيث بيّن المفسر أن المسيح كان ملاكاً في السماء فأرسله الله في مهمه على الأرض، فخلق له جسداً في رحم مريم.كان المسيح في السماء يكنّى كلمة الله وكان في الملائكة من قسم جبرائيل أي من نوع الروح فكما كان جبرائيل يسمّى الروح كذلك المسيح أيضاً روح ولذلك قال الله تعالى في سورة النساء {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ} أي نزلت تلك الروح إلى الأرض من عنده يعني من السماء فدخلت جسم الجنين الذي تكوّن في رحم مريم فكان المسيح ، ولَمّا مات رجعت تلك الروح من السماء ولذلك قال المسيح : "وما صعد أحد إلى السماء إلاّ الذي نزل من السماء" – إنجيل يوحنّا 3: 13 ، وقوله (وَسَيِّدًا ) وسيكون سيّداً على قومه (وَحَصُورًا ) أي يحصر نفسه عن الشهوات (وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ ) الذين لا يخطئون .
ولهذا السبب كان المسيح واعياً لما يجري وهو الذي علّم مريم ماذا تفعل وكيف تتصرف، وقد أتاه الله الكتاب والعلم وهو في السماء وأوصاه بالصلاة والزكاة خلال مهمته التي سيقضيها على الأرض.
قال تعالى في سورة الأنعام : "وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ"