كتاب: حقائق التأويل في الوحي والتنزيل

بقلم: محمد علي حسن الحلي (رحمه الله تعالى)

توزيع: دار الكتب العلمية (بيروت)

الوصف: تفسير الايات القرآنية كاملة اضافة الى الايات الغامضة

فهرس الآيات , البحث في القرآن الكريم

تفسير سورة الرعد من الآية( 16) من كتاب حقائق التأويل في الوحي والتنزيل   بقلم محمد علي حسن الحلي (رحمه الله تعالى) : 

16 - (قُلْ) يا محمّد لهؤلاء المشركين (مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) أي مَن خلقَ الكواكب السيّارة ومن جُملتها الأرض ومن هو مالِكُها ومن أدارها حول مِحورها ليتكوّن اللّيل والنهار ، ثمّ أدارها حول الشمس لتتكوّن الفصول الأربعة ولتعرفوا حساب السنين والأشهُر والأيّام ، وخلق فيها أنواع المخلوقات وأجرى فيها المياه وأنبتَ أنواع النبات (قُلِ) أليس ذلك هو (اللّهُ) فسيقولون بلى (قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء ) تُوالونهم وتحبّونهم وتعبدونهم (لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا ) ومن كان كذلك فكيفَ يملكُ لكم النفع أو يدفعُ عنكم الضرّ؟ (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ) يعني هل هما سواء في ذلك فتعبدون التمثال الأعمى وتعصون الله البصير (أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ ) يعني من عبدَ التماثيل فقد وقعَ في ظُلمات الجهل ، ومن عبدَ الله نوّر اللهُ لهُ الطريق فاهتدى إلى الحقّ وألقى في قلبهِ نور العلم والهداية ، فهل عندكم الظُلمات والنور سواء؟

(أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ) والمعنى : هل الملائكة الّتي يعبدها المشركون خلَقتْ مثل مخلوقات الله فرأوها بأعينهم أو الملائكة أنبأتهم بمخلوقاتٍ خلَقَتْها فلمّا رأوها اشتبهَ على المشركين مخلوقات الله من مخلوقات الملائكة فلذلك عبدوهم واتّخذوهم شُركاء (قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) في الكون (وَهُوَ الْوَاحِدُ ) الّذي يخلق الأحياء وليس في الكون غيرهُ خالق ، وهو (الْقَهَّارُ) لعبادهِ ، يعني كلّهم يخضعون لسُلطتهِ أمّا في الدنيا وأمّا في الآخرة .

17 - (أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ) أي مطراً فسقط على الجبال (فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ) يعني سالت مياه الأمطار من تلك الجبال إلى الأودية فجرى الماء فيها على قدر تلك الجبال من الكثرة أو القِلّة (فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ ) أي فحملَ الماء الذي سال من الجبال ، وإنّما قال تعالى (فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ ) ولم يقل فحملَ ، لأنّ الماء إن حمل شيئاً وهو راكد لا يجري يُقال فيهِ "حمل الماء" ، ولكن إن كان جارياً وحملَ شيئاً فيحنئذٍ يُقال "احتملَ الماء" ، فيكون حملٌ وجريٌ ، والشاهد على ذلك قول علقمة يصفُ رحيل أحِبّتهِ :
                                   
                            لَمْ أَدْرِ بِالبَيْنِ حَتَّى أَزْمَعُوا ظَعَناً      كُلُّ الجِمَالِ قُبَيْلَ الصُّبْحِ مَزْمُومُ
                            رَدَّ الإماءُ جِمَالَ الحَيِّ فَاحْتَمَلُوا      فَكُلُّهَا بِالتَّزِيدِيَّاتِ مَعْكُومُ

(زَبَدًا رَّابِيًا ) أي نامياً75 ، والشاهد على ذلك قوله تعالى في سورة الروم {وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّه } ، يعني فلا ينمو عند الله . ومن ذلك قول الحُطيئة :

                           إذا واضحوهُ المجدَ أَرْبَى عَلَيْهِمُ      بمستفرِغٍ ماءَ الدَّنابِ سَجيلِ

وقال الآخر :
                                   وأسْمَرَ خَطِّيٍّ كأنَّ كُعُوبَهُ      نَوَى القَسْبِ قَدْ أَرْبَى ذِرَاعاً عَلَى العَشْرِ

يعني : قد زادَ هذا الرُمح ذِراعاً على باقي الرماح العشر . و"الزبَد" هو كبريتات الكالسيوم وكربونات الكالسيوم وغير ذلك مما يتكوّن في الأرض ويتكاثر من اتّحاد عُنصرين ، ويحمل السيل أيضاً من الأحجار الملوّنة والأحجار الكريمة كالعقيق والفيروز "شذر" وغير ذلك (وَ) يحمل السيل أيضاً (مِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ ) وهو كبريتيد الفضة ، والحلية هي أدوات الزينة كالأساور والقلائد والخلاخيل والأقراط وغير ذلك ، وكان الناس قبلاً لا يعرفون تعدين الفضة من خاماتها سوى هذهِ الطريقة : وهيَ أن يحفروا حُفرة في الأرض فيضعوا فيها كبريتيد الفضة76 ثمّ يوقدوا عليه النار فيتطاير الكبريت بعد أن يتحوّل بتسخينهِ إلى غاز ثاني أوكسيد الكبريت وتبقَى الفضّة في الحُفرة فيأخذونها ويعملون منها أدوات الزينة

(أَوْ) يوقدون عليه ابتغاء (مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ ) وهو كبريتات الكالسيوم وكربونات الكالسيوم فإذا أوقدوا عليه النار صار أوكسيد الكالسيوم ، وهو الجُصّ والجبس والنورة ، فيستعمل الأول للبناء ، والثاني للقوالب ولتضميد الكسور في المستشفيات ولأشياء اُخرى ، والثالث يستعمل لتحضير الصودا الكاوية والمسحوق القاصر "كلورين" وأشياء اُخرى ، وكلّها للمتاع ، أي لأشياء يتمتّع بها الإنسان ويستفيد منها وفوائدها كثيرة . وممّا يوقدون عليه النار للمتاع أيضاً هو الكاؤولين وهو الطين الأبيض تصنع منه الأواني الخزفية

(كَذ‌ٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ) أي كذلك يضرب الله الأمثال بالحقّ والباطل ، فالحقّ يُريد بهِ دين الإسلام ، والباطل دين المشركين (فَأَمَّا الزَّبَدُ ) وهو الكبريت (فَيَذْهَبُ جُفَاءً ) أي يذهب أدراج الرياح بالتسخين وهو غازٌ تجفاه الطباع وتكرههُ النفوس لأنّه سامّ وكريه الرائحة يضيقُ صدر من يستنشقهُ ويشتد بهِ السّعال وإذا كان الغاز كثيراً يُسبّب الموت ، وتبقَى الفضّة خالصة من الشوائب لامعة تجذب الأنظار ذات قيمة وفوائد كثيرة فإنّ الله تعالى ضربَ مثَلاً لدين المشركين بغاز ثاني أوكسيد الكبريت الذي هو سامّ لمن يستنشقهُ وكريه الرائحة ، ثمّ لا يلبث أن يزول بالتسخين عن الفضّة ويذهب أدراج الرياح . وضربَ مثَلاً لدِين الإسلام بالفضّة النقيّة من الشوائب الثابتةِ على الأرض الّتي تستعمل للزينة . والمعنى : إنّ دِين المشركين من العرب سيزول كما يزول الكبريت عن الفضّة بالتسخين ، ( وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ) يعني أمّا دِين الإسلام فسيبقَى في الأرض ثابتاً لامعاً ذا فوائد كثيرة لمن اعتنقهُ (كَذَ‌ٰلِكَ) أي مِثل هذا المثَل (يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ ) للناس لعلّهم يهتدون إلى طريق الحقّ .

18 - (لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ ) بالإيمان وصدّقوا رسولهُ لهم (الْحُسْنَى) في الآخرة (وَالّذينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ ) بالإيمان ولم يُصدّقوا رسوله (لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ) مُلكاً (وَمِثْلَهُ مَعَهُ ) من المال (لاَفْتَدَوْاْ بِهِ ) عن عذاب يوم القيامة ولكن أنّى لهم ذلك (أُوْلَـئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ ) أي أسوء العِقاب ، فكلمة "حساب" معناها المجازاة على الأعمال ، فإن سبقتها كلمة خير دلّ على حُسن الجزاء ، وإن سبقتها كلمة سُوء دلّ على العقاب ، ومن ذلك قوله تعالى {إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} أي سريع الجزاء والمكافأة على الأفعال (وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ) يأوون إليها (وَبِئْسَ الْمِهَادُ ) الّذي مهّدوهُ لأنفسهم .

------------------------------------

75 :لم يفهم المفسرون معنى الكلمة فظنوا أنّ الزبَد هو الرغوة التي تطفو فوق الماء فقالوا يعني طافياً ، ففسروا كلمة نامياً بكلمة طافياً .

76 :موجود في الطبيعة على هيئة حصى كبيرة ولكنّه أخف من الحصى وزناً ، لونه رمادي لمّاع مائل إلى السواد . رأيتُ منه في جبال إيران بين طهران وخراسان .

<<الصفحة السابقة الصفحة الرئيسة الصفحة التالية>>



كتاب الكون والقرآن ..تفسير الظواهر الكونية في القرآن الكريم، ووصف دقيق لأحداث القيامة كتاب المتشابه من القرآن تفسير الآيات الغامضة في القرآن الكريم والتي ظلت غامضة منذ 1400عام كتاب حقائق التأويل في الوحي والتنزيل: التفسير الكامل للأيات القرانية بضمنها الايات المتشابهة والغامضة
كتاب الإنسان بعد الموت: وصف دقيق لحال الأنسان بعد الموت وتكوين الجنان وجهنم والملائكة والشياطين. كتاب ساعة قضيتها مع الأرواح: رحلة في عالم الأرواح مدتها ساعة زمنية كتاب الخلاف بين التوراة والقرآن: يوضح من زور التوراة وفي أي عصر والأخطاء الواضحة فيها ومقارنتها بالقرآن الكريم