كتاب: حقائق التأويل في الوحي والتنزيل

بقلم: محمد علي حسن الحلي (رحمه الله تعالى)

توزيع: دار الكتب العلمية (بيروت)

الوصف: تفسير الايات القرآنية كاملة اضافة الى الايات الغامضة

فهرس الآيات , البحث في القرآن الكريم

تفسير سورة البقرة من الآية( 185) من كتاب حقائق التأويل في الوحي والتنزيل   بقلم محمد علي حسن الحلي (رحمه الله تعالى) : 

185 - ثمّ بيّنَ سُبحانهُ متى تكون تلك الأيّام المعدودة فقال (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) يعني إبتداء نزوله كان في شهر رمضان في ليلة القدر ، وذلك قوله تعالى في سورة القدر {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } ، يعني ابتداء نزوله كان في ليلة القدر . ولفظة "قرآن" مشتقّة من القراءة ، وتُطلَق ولو على آية واحدة من القرآن أو سورة أو كلّه . لأنّ جبرائيل كان يقرأ على النبيّ (ع) فيسمّى ما قرأهُ "قرآن" وإن كانت آية واحدة (هُدًى لِّلنَّاسِ ) أي هادياً للناس إلى طريق الصواب (وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ) أي وفيهِ بيّنات من الألواح الّتي جاء بها موسى من عند الله والّتي هيَ هُدىً لبني إسرائيل وفيهِ من التوراة الّتي جاءت متفرّقة وكتبوها في مجموعة التوراة ، والدليل على أنّ كلمة "الهدى" يريد بها الألواح قوله تعالى في سورة غافر {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ } ، فالهُدى يريد بهِ الألواح ، والكتاب يريد بهِ مجموعة التوراة ، وإنّما سمّاها سُبحانهُ الفُرقان لأنّها جاءة متفرّقة فكتبها بنو إسرائيل فصارت كتاباً . والشاهد على ذلك قوله تعالى في سورة طـه {أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى } ، وقال تعالى في سورة الأعلى {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى. صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } .

ثمّ قال تعالى (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) أي فمن حضرَ منكم بلدته ولم يُسافر في شهر رمضان فليصمهُ (وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ ) ولم يُطِق الصوم (فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) أي فعليهِ أن يصوم عدد ما أفطر في أيّامٍ اُخَر ، وذلك عند شفائهِ من مرضهِ ، والمسافر عند رجوعه إلى أهله (يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) يعني إنّما أباح لكم الإفطار في المرض والسفَر لئلاّ يُكلّفكم ما يشقُّ عليكم وما لا تُطيقونه (وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ ) أي لتكمِلوا ما أفطرتم من أيّام شهر رمضان (وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ ) أي على هدايتهِ لكم إلى دين الإسلام ، وهي تكبيرة صلاة العيد (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) نِعَمَ الله عليكم إذْ أعطاكم الصِحّةَ فصمتم .

186 - سأل النبيّ (ع) أحدُ أصحابه قائلاً : " أقريبٌ ربّنا فنُناجيهِ أم بعيدٌ فنناديهِ؟ " فنزلت هذهِ الآية (وَإِذَا سَأَلَكَ ) يا محمّد (عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ) أي أسمع دُعاء الداعي كما يسمعهُ قريب المسافة منهم (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ) أي اُلبّي الداعي لدعوتهِ وأُجيبهُ عند طلبتهِ وأفعلُ ما هو الصالح له ، فإنْ كان في طلبهِ صلاح له اُعْطِهِ ما طلب ، وإذا لم يكن في طلبهِ صلاح أخّرتُ طلبهُ لوقتٍ آخر (فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي ) بالطاعة ، أي فليطلبوا إجابتي لهم ورضايَ عنهم بالطاعة لي . وهذا مِثل قولهم أوقد واستوقد ، وأمسك واستمسك ، فكلمة "أوقد" معناها أشعل النار ، و"استوقد" معناها طلب إيقاد النار ، فكذلك لفظة أجاب واستجاب (وَلْيُؤْمِنُواْ بِي ) أي وليُصدّقوا رُسُلي بما وصفوني عندهم من الكنايات والأسماء الحُسنى (لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ) أي لعلّهم يُصيبون الحقيقة ويهتدون إلى طريق الحقّ .

187 - كانت عادة الصوم عند الناس قبل الإسلام ثلاثاً وعشرين ساعة من كلّ يوم يصومونهُ ، يعني يأكلون بعد غروب الشمس بساعةٍ واحدة ثمّ يصومون ما بقي من اللّيل والنهار كلّه ثمّ يفطرون بعد غروب الشمس بساعة . وكان الجِماع عندهم لا يجوز في أيّام الصوم ولياليه . وهذه عادة اليهود حتّى الآن ، فلمّا نزلت آية الصيام على النبيّ (ع) أخذ المسلمون يصومون كما اعتادوه من الصيام ، ولَمّا كان وقت الإفطار قصيراً وهو ساعة واحدة من الزمن صار بعض المسلمين لا يصِلون إلى إفطارهم ولا يأكلون شيئاً من الطعام ، وذلك بسبب أشغال تعوقهم عن الإفطار في ذلك الوقت ، أو أنّهم ينامون في ذلك الوقت صدفة فإذا انتبهوا من نومهم رأوا أنّ وقت الإفطار قد ذهب منهم فيبقون على صومهم إلى اليوم الثاني فيشقّ ذلك عليهم .

وكان بعض الشباب من المسلمين لا يستطيعون الصبر عن النكاح فإذا صار وقت الإفطار أتَوا نساءهم ، فعَلِمَ الله تعالى بذلك فأراد أن يُخفّف عنهم فأنزل هذهِ الآية (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ ) أي كلّ ليلة يكون في صبيحتها الصيام (الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ ) أي الجِماع (هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ) أي هنّ سِترٌ لكم وأنتم سِترٌ لهنّ ، والشاهد على ذلك قوله تعالى في سورة النبأ {وَجَعَلْنَا اللّيل لِبَاسًا } أي سِتراً ، ومن ذلك قول الشاعر :

                            إذَا ما الضَّجِيعُ ثَنَى عِطْفَهُ       تَثَنّتْ فكانَتْ عَلَيْهِ لِبَاسَاً

أي كانت عليه غطاءً وسِتراً . (عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ ) في الجِماع ، المخاتلة والمخاتنة بمعنى واحد وهو المخادعة ، ومن ذلك قول علقمة :

                         إذا ما اقْتَنَصْنَا لَمْ نُخاتِلْ بِجُنّةٍ      ولكنْ نُنادِي مِنْ بَعِيدٍ ألا ارْكَبِ

وذلك أنّ الرجُل كان يخدع زوجته ويجامعها وهي كارهة ذلك في ليالي الصيام (فَتَابَ عَلَيْكُمْ ) أي فتاب على الّذينَ تابوا منكم (وَعَفَا عَنكُمْ ) أي وعفا عن الّذينَ لم يتوبوا ، لأنّ بعضهم جامعوا نساءهم فندموا وتابوا وبعضهم جامعوا وسكتوا (فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ ) أي لا حرجَ عليكم في جِماعهنّ باللّيل (وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ ) أي واطلبوا الحلال الذي فرضه الله لكم ، ولا تطلبوا الحرام في غير نسائكم (وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ ) طول اللّيل ، يعني في أيّ وقت شئتم من أوقات اللّيل (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ) أي حتّى يتبيّن لكم وميض الفجر من سواد اللّيل ، ومن ذلك قول أبي داوُد :

                                فلمّا أضاءَتْ لنا غُدْوَةٌ      ولاحَ مِنَ الصُّبْحِ خَيْطٌ أنارا

(ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى اللّيل ) . وقد أخطأ المسلمون في إفطارهم في الوقت الحاضر لأنّ أبناء السُنّة يفطرون وقت غروب الشمس ، وأبناء الشيعة يفطرون بعد ذلك باثنتي عشرة دقيقة ، أي يُفطرون قبل حلول اللّيل ، ولكنّ الله تعالى قال (ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى اللّيل ) ولم يقل إلى غروب الشمس ، ولا يكون اللّيل إلاّ عند حلول الظلام وظهور النجوم ، ولا يجوز الإفطار إلاّ بعد غروب الشمس بخمسٍ وعشرين دقيقة على الأقل أو عند ظهور سبع نجوم في السماء والدليل على ذلك أنهم يُسمُّون صلاة المغرب وصلاة العشاء ، فصلاة المغرب تكون وقت غروب الشمس ، ولكن صلاة العشاء تكون بعد غروب الشمس بساعة ونصف الساعة ، فهل يصحّ أن نسمّى صلاة العشاء بصلاة المغرب أو نصلّيها وقت غروب الشمس ؟ كلاّ لا يصحّ تسميتها بصلاة المغرب ، ولكن يصحّ تسميتها بصلاة اللّيل . وكذلك تسمية اللّيل ، لأنّ اللّيل لا يكون إلاّ وقت حلول الظلام وعند رؤية النجوم ، أمّا بعد غروب الشمس ببضع دقائق فلا يُسمّى ذلك الوقت ليلاً ، بل يسمّى وقت المغرب على الأصحّ .

وقوله (وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ) "الاعتكاف" هو الإقامة في المسجد أيّاماً متوالية للعبادة ولا يخرج منه إلاّ لقضاء حاجة أو غذاء ثمّ يعود إلى المسجد حتّى تتمّ مُدّة اعتكافهِ ، وهي المدّة الّتي نذرها أو قرّرَ أن يُقيمَ بها في المسجد . فالاعتكاف هو طول الإقامة بالعبادة ، والشاهد على ذلك قوله تعالى في بني إسرائيل لَمّا عبدوا العجل [كما في سورة طـه ] {قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى } . وكان النبيّ (ع) يعتكف في المسجد في العشر الأواخر من شهر رمضان ويعتزل النِساء حتّى يعود إلى داره من المسجد . ويُكره الجِماع أوّل اللّيل في شهر رمضان وذلك حين اجتماع الناس في المساجد للصلاة والدعاء والعبادة ، فعلَى المسلم أن يذهب إلى المسجد للعبادة مع المجتمعين ، ولا حرجَ عليه عند رجوعه من المسجد أن يأتي زوجتهُ ، والمعنى : لا تجامعوا نساءكم في ليالي اعتكافكم في المساجد للعبادة ، (تِلْكَ) الأحكام التي ذُكِرَتْ (حُدُودُ اللّهِ ) أي أحكامه المحدّدة (فَلاَ تَقْرَبُوهَا ) بالمخالفة والتغيير (كَذَلِكَ) أي مثل هذا البيان الذي ذكرناهُ (يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ ) أي يبيّن لهم احكام دينهم (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) المحارم ، أي لكي يجتنبوا المحرّمات .

------------------------------------
<<الصفحة السابقة الصفحة الرئيسة الصفحة التالية>>



كتاب الكون والقرآن ..تفسير الظواهر الكونية في القرآن الكريم، ووصف دقيق لأحداث القيامة كتاب المتشابه من القرآن تفسير الآيات الغامضة في القرآن الكريم والتي ظلت غامضة منذ 1400عام كتاب حقائق التأويل في الوحي والتنزيل: التفسير الكامل للأيات القرانية بضمنها الايات المتشابهة والغامضة
كتاب الإنسان بعد الموت: وصف دقيق لحال الأنسان بعد الموت وتكوين الجنان وجهنم والملائكة والشياطين. كتاب ساعة قضيتها مع الأرواح: رحلة في عالم الأرواح مدتها ساعة زمنية كتاب الخلاف بين التوراة والقرآن: يوضح من زور التوراة وفي أي عصر والأخطاء الواضحة فيها ومقارنتها بالقرآن الكريم