كتاب: حقائق التأويل في الوحي والتنزيل

بقلم: محمد علي حسن الحلي (رحمه الله تعالى)

توزيع: دار الكتب العلمية (بيروت)

الوصف: تفسير الايات القرآنية كاملة اضافة الى الايات الغامضة

فهرس الآيات , البحث في القرآن الكريم

تفسير سورة المائدة من الآية( 11) من كتاب حقائق التأويل في الوحي والتنزيل   بقلم محمد علي حسن الحلي (رحمه الله تعالى) : 

11 - (يَا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ ) وهم اليهود من بني النضير ، دخلَ عليهم رسول الله مع جماعة من أصحابهِ ، وكان اليهود قد عاهدوهُ على ترك القتال وعلى أن يعينوهُ في الدِيات ، فقال النبيّ (ع) إنّ أحد أصحابي أصابَ رجلين معهما أمان منّي فلزمني دِيَتهما فاُريد أن تعينوني ، فقالوا نعم ، إجلس حتّى نُطعمك ونعطيك الّذي تسألنا . وهمّوا بالفتك بالنبيّ وأصحابه ، فنزل جبرائيل بالوحي وأخبر النبيّ بذلك فخرج من عندهم وخرج أصحابه معه ، وذلك قوله تعالى (أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ ) بالسوء (فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ ) بإخبار النبيّ عن سوء نواياهم فنجَوتم من شرّهم ، فأطيعوا رسولكم فيما يأمركم بهِ (وَاتَّقُواْ اللّهَ ) في مخالفة أوامرهِ وجاهدوا بين يديهِ وتوكّلوا على الله (وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) فينجُوا ويظفروا .

12 - ثمّ بيّنَ سُبحانهُ أحوال اليهود في الماضي وامتناعهم عن القتال حين أمرهم بذلك وجعل عليهم رؤساء وقادة لكلّ سبط من أسباط إسرائيل واحداً لينقادوا لهُ ولا يمتنعوا عن قتال المشركين ، فقال تعالى (وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ ) يعني أخذ عليهم العهد والميثاق بأن يُقاتلوا المشركين حين يأمرهم اللهُ بذلك ولا يمتنعوا (وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا ) أي رئيساً على عدد أسباط إسرائيل ، فالنقيب هو العريف وشاهد القوم وضمينهم ، وجمعهُ نُقباء (وَقَالَ اللّهُ ) لبني إسرائيل على لسان موسى (إِنِّي مَعَكُمْ ) بالنُصرةِ لكم على أعدائكم (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي ) السابقين والحاضرين موسى وهارون (وَعَزَّرْتُمُوهُمْ) أي ساعدتموهم بالقول والعمل (وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا ) مِمّا تُنفقونهُ في سبيل الله للفقراء والمحتاجين والأيتام والمساكين ، إن فعلتم ذلك كلّهُ (لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ) الماضية (وَلأُدْخِلَنَّكُمْ) يوم القيامة (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ ) الميثاق (مِنكُمْ) أيّها اليهود (فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ ) أي فقد أضاع طريق الحقّ . فإن شئتَ معرفة أسماء هؤلاء النقباء تجدها في مجموعة التوراة في سِفر العدد في الإصحاح الأوّل منهُ والثاني .

13 - ثمّ بيَّنَ سُبحانهُ بأنّهم نقضوا المواثيق وخانوا العهود وعبدوا الأصنام وعصَوا أمر الله ، فقال تعالى (فَبِمَا نَقْضِهِم ) أي فبتكرار نقضهم (مِّيثَاقَهُمْ146 لَعنَّاهُمْ ) أي أبعدناهم من رحمتنا وطردناهم من بيت المقدس وشتّتناهم في الأرض (وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ) لأنّ أكل مال الحرام يُقسّي القلوب (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ) أي يحرّفون الكلام عن معانيهِ فيقولون السّامُ عليكم ، بدل السّلام عليكم ، والسّام هو الثعبان ، وهكذا يحرّفون الكلام مع من يبغضونه (وَنَسُواْ حَظًّا ) أي قسطاً (مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ ) أي مِمّا وُعِظوا بهِ في التوراة ومِمّا وعظَتْهم بهِ أنبياؤهم وذكّرتهم بهِ أسلافهم فنسوها لطول الأمد (وَلاَ تَزَالُ ) يا محمّد (تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ ) أي على جماعة خائنة من اليهود (إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ ) لم يخونوا الميثاق (فَاعْفُ عَنْهُمْ ) زلّتهم (وَاصْفَحْ) عنهم هذه المرّة (إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) إلى الناس .

14 - (وَمِنَ الّذينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى147 أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ ) أيضاً ، وذلك على لسان عيسى والحواريّين من بعدهِ ، والميثاق هو أن يعبدوا الله وحده ولا يُشركوا بهِ شيئاً (فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ ) وعبدوا المسيح واُمّه وتركوا الله خالقهم (فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء ) فصاروا فِرَقاً كثيرة وصارت فِرقة تعادي فِرقة (إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ) وذلك بسبب كفرهم وإشراكهم ، والإغراء هو تحريض الإنسان على عداوة إنسان آخر وتبغيضهِ ، ومن ذلك قول الأعشى :

                                 تُغْرِي بِنَا رَهْطَ مَسْعُودٍ وَإخْوَتِهِ      عِندَ اللّقاءِ فتُرْدِي ثمّ تَعتَزِلُ

فقول الشاعر "تُغري بنا" يعني تحرّض رهط مسعود وأخوتهِ وترغّبهم على قتالنا (وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ ) يوم القيامة (بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ) من تماثيل لمريم وصِلبان للمسيح فيعبدونها ويقدّسونها .

15 - (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ ) خطاب لليهود والنصارى (قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا ) محمّد (يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ ) أحكام (الْكِتَابِ) يعني من أحكام التوراة والإنجيل مِمّا أخفتها أسلافكم ، وإنّما يُبيّنها لكم تأكيداً على صحّتها لئلاّ تخفوها وتنكروها أنتم كما أخفتها أسلافكم (وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ) أي ويترك الباقي فلا يُبيّنها لأنّها كثيرة . (قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ ) هو الوحي الّذي نزل بهِ جبرائيل على محمّد ، والشاهد على ذلك قوله تعالى في سورة النساء {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا } ، (وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ) هو القرآن .

16 - (يَهْدِي بِهِ اللّهُ ) أي يهدي بالقرآن (مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ ) يعني من اتّبع رضا الله وترك هوى نفسهِ ، يهديهِ (سُبُلَ السَّلاَمِ ) في الآخرة ، أي يُرشده إلى طُرُق السّلامة من العذاب والنجاة من النار (وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ) يعني من ظلمات الجهل إلى نور العلم (بِإِذْنِهِ) لملائكتهِ ، أي يهدوهم إلى الإسلام (وَيَهْدِيهِمْ) يوم القيامة (إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) يعني إلى طريق الجنة .

وإليك بعض ما أخفته اليهود والنصارى من أحكام التوراة والإنجيل بسبب تغيير عقائدهم ولأجل غاياتهم الشخصيّة ، فاليهود أخفَوا غُسل الجنابة وتركوه وأباحوا الخمر وأخفَوا تحريمهُ في التوراة ، وأباحوا الربا والرشا وأخفَوا في التوراة تحريمهما . وقد جاء بِها القرآن تأكيداً لِما جاء في التوراة وتذكيراً لليهود على صِحّتها لئلاّ ينسوها ويخفوها كما أخفاها أسلافهم .

فقد جاء في سِفر الأمثال من مجموعة التوراة في الإصحاح الثالث والعشرين في ذمّ الخمر وتحريمهِ قال : [لِمن الويلُ للّذينَ يدخلونَ ليذوقوا الممزوجَ ، لا تنظرْ إلى الخمرِ إذا احمرّتْ وأبدَتْ في الكأسِ حببها ، إنّها تسوغُ مرئيةً ، لكنّها في الآخرِ تلسعُ كالحيّةِ وتبثُّ سمّها كالأرقمِ ، تنظرُ عيناك الغرائبَ وينطقُ قلبكُ بالفواحشِ ، وتكون كمضطجعٍ في قلب البحرِ أو كنائمٍ على رأس الساريةِ ، وتقول ضربوني ولم أتوجّعْ ، رضرضوني ولم أشعُرْ ، متى أستيقظ فأعود إلى التماسها ؟]

هذا بعض ما جاء في التوراة من تحريم الخمر ولكنّهم أخفَوهُ وشربوا الخمر ، أمّا غُسل الجنابة فقد جاء في سِفر لاويّين (أو الأحبار) في الإصحاح الخامس عشر قال [وأيُّ رجلٍ خرجت منهُ نُطفةُ مضاجعةٍ فليرحضا بالماءِ ويكونا نجسينِ إلى المغيبِ ] ، هذا بعض ما جاء في غسل الجنابة ولكنّهم أخفَوه وغيّروا المعنى لئلاّ يغتسلوا من الجنابة ، وأمّا أخذ الرشوة فقد أنّبهم عليها نبيّهم أشعيا ، وذلك في الإصحاح الخامس من سِفر أشعيا ، قال [ويلٌ للقائلين للشرِّ خيراً وللخيرِ شرّاً الجاعلين الظلام نوراً والنور ظلاماً الجاعلين المرَّ حلواً والحلو مرّاً ويلٌ للحكماء في أعينِ أنفسهم والفهماءُ عند ذواتهم ، ويلٌ للأبطالِ على شربِ الخمرِ ولذوي القُدرةِ على مزج المسكّر ، الّذينَ يُبرّئون الشرّيرَ من أجلِ الرشوةِ وأمّا حقّ الصِدّيقين فينزعونهُ منهم .]

أمّا النصارى فقد تركوا غسل الجنابة وأبطلوا الختان وأحلّوا الربا وأباحوا الخمر وقالوا بالثالوث وتركوا عبادة الله وعبدوا تماثيل المسيح واُمّهِ وأخفَوا ما جاء في التوراة من نبذ الأصنام وتحريم تقديسها والسجود لها ، فقد جاء في الألواح في الكلمات العشر في سِفر التثنية في الإصحاح الخامس ، قال الله تعالى [لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً صورةً ما مِمّا في السماءِ من فوق وما في الأرضِ من أسفل وما في الماءِ من تحت الأرض ، لا تسجدوا لها ولا تعبدوها لأنّي أنا الربُّ إلاهكَ إلاهٌ غيورٌ] . فإنّ النصارى يعترفون بالتوراة ويقرؤون الكلمات العشر الّتي جاءت في الألواح ومع ذلك يصنعون التماثيل للمسيح وأمّه ويسجدون لها ، وكذلك يُخفون كلمة التوحيد في التوراة والإنجيل ويقولون بالثالوث ، فقد جاء في مجموعة التوراة في سِفر التثنية في الإصحاح السادس قال : [إسمع يا إسرائيلُ الربُّ إلاهُنا ربٌّ واحدٌ ] ، وجاء في إنجيل متّي في الإصحاح الثالث والعشرين قال المسيح[لا تَدْعُوا لكم أباً على الأرضِ لأنّ أباكم واحدٌ الّذي في السماواتِ ] ، وجاء في إنجيل مرقس في الإصحاح الثاني عشر قال فجاء واحدٌ من الكتبةِ وسأل المسيح قائلاً أيّةُ وصيّةٍ هي أوّل الكلِّ ، فأجاب يسوع [إنّ أوّلَ كلّ الوصايا هيَ : إسمع يا إسرائيلُ الربُّ إلاهُنا ربٌّ واحدٌ ] ، فقد أكّدَ المسيح في الإنجيل ما جاءَ في التوراة من التوحيد ولم يقل بالتثليث ، وإنّكَ لو تصفّحتَ الإنجيل تجد تكرار كلمة (إبن الإنسان) لأنّ المسيح يُكنّي نفسهُ إبن الإنسان ، ولم يقل إبن الله ، ولكن صادف أنّ رجلاً بهِ جنون فصاح المجنون قائلاً : ما لنا ولك يا إبن الله ، فأخذت النصارى هذه الكلمة من فم المجنون وتركوا قول المسيح من أنّه إبن الإنسان ، ولقد جاء في التوراة في سِفر العدد في الإصحاح الثالث والعشرين قال [ ليس اللهُ إنساناً فيكذبَ ولا إبنَ إنسانٍ فيندمَ ] ، فلمّا كنّى المسيح نفسه إبن الإنسان مراراً عديدة في الإنجيل وتكراراً في المقال فكيف يجعلونهُ إبن الله ، وقد ثبتَ في التوراة بأنّ الله ليس إنساناً ولا إبن إنسان ، وثبتَ أنّهُ واحد وليس ثلاثة كما يزعمون ؟

------------------------------------

146 :لأنّ موسى ويوشع وصموئيل وداوُد ونحميا كلّهم أخذوا عليهم العهود والمواثيق في ذلك فنقضوها .

147 :أي يزعمون أنّهم أنصار الله ولكنّهم أصبحوا أعداء الله لأنّهم عبدوا المسيح واُمّه من دون الله .

<<الصفحة السابقة الصفحة الرئيسة الصفحة التالية>>



كتاب الكون والقرآن ..تفسير الظواهر الكونية في القرآن الكريم، ووصف دقيق لأحداث القيامة كتاب المتشابه من القرآن تفسير الآيات الغامضة في القرآن الكريم والتي ظلت غامضة منذ 1400عام كتاب حقائق التأويل في الوحي والتنزيل: التفسير الكامل للأيات القرانية بضمنها الايات المتشابهة والغامضة
كتاب الإنسان بعد الموت: وصف دقيق لحال الأنسان بعد الموت وتكوين الجنان وجهنم والملائكة والشياطين. كتاب ساعة قضيتها مع الأرواح: رحلة في عالم الأرواح مدتها ساعة زمنية كتاب الخلاف بين التوراة والقرآن: يوضح من زور التوراة وفي أي عصر والأخطاء الواضحة فيها ومقارنتها بالقرآن الكريم