كتاب: حقائق التأويل في الوحي والتنزيل

بقلم: محمد علي حسن الحلي (رحمه الله تعالى)

توزيع: دار الكتب العلمية (بيروت)

الوصف: تفسير الايات القرآنية كاملة اضافة الى الايات الغامضة

فهرس الآيات , البحث في القرآن الكريم

تفسير سورة الأنعام من الآية( 66) من كتاب حقائق التأويل في الوحي والتنزيل   بقلم محمد علي حسن الحلي (رحمه الله تعالى) : 

66 - لَمّا أنذرهم بالعذاب في الآية السابقة كذّبوا بهِ وسخروا ، فنزل قوله تعالى (وَكَذَّبَ بِهِ ) أي بالعذاب (قَوْمُكَ) يا محمّد كما كذّبت اُمَمٌ من قبلهم (وَهُوَ الْحَقُّ ) أي وهو مُصيبهم لا محالة (قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ ) أي بحفيظ ، والمعنى : قل لهم إذا حلّ العذاب بكم فلا أقدر حينئذٍ على رفعهِ ولا دفعهِ عنكم فماذا يكون حينئذٍ مصيركم؟

67 - (لِّكُلِّ نَبَإٍ ) أي لكلّ خبرٍ أخبرناكم عنه (مُّسْتَقَرٌّ) يعني وقتٌ يستقرّ العذاب عندكم ويدوم عليكم (وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) ذلك حين وقوعه .

68 - (وَإِذَا رَأَيْتَ الّذينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا ) بالتكذيب لها والاستهزاء بها (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ) ولا تكلّمهم بأمر الدين والدعوة (حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ) من أمر الدنيا (وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ ) أي يُنسيك إتمام حديثك مع من تُكلّمهم من قريش ، ويريد به شيطان الإنس وهو أبو جهل جاء والنبيّ جالس مع جماعة من قريش يُحدّثهم ويدعوهم إلى الإسلام وإلى عبادة الله ، فلمّا رآه أبو جهل أخذَ في تأنيبهِ وإهانتهِ فسكتَ النبيّ عن حديثهِ ، فهذا معنى قوله تعالى (فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى ) "الذِكر" معناه الموعظة ، والمعنى : فلا تقعد معهم بعد أن وعظتهم وذكّرتهم بعقاب الله (مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) الّذينَ يظلمون الناس ويسلبون حقّهم .

69 - لَمّا نزلت الآية السابقة الذِكر قال المسلمون وكيف بنا إذا دخلنا البيت أو طُفنا حول الكعبة والمشركون هناك يتحدثون ويخوضون في آيات القرآن ؟ فنزلت هذه الآية (وَمَا عَلَى الّذينَ يَتَّقُونَ ) أي يتجنّبون استهزاءهم ويبتعدون عنهم ، ما عليهم (مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ ) أي ما على المؤمنين من عقاب المشركين من شيء ، فكلٌّ يؤاخذ بذنبه (وَلَـكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) يعني ولكن تذكيراً لهم لعلّهم يتجنّبون مجالسهم والاقتراب منهم حين استهزائهم بالقرآن .

70 - (وَذَرِ الّذينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ) ويريد بذلك المشركين ، والمعنى : اُتركهم ولا تخاطبْهم مرّةً اُخرى لأنّ الكلام لا يفيد معهم (وَذَكِّرْ بِهِ ) أي بالقرآن ، يعني عِظْ وأنذرْ بهِ غيرهم ، يعني : اُدعُ الناس إلى الإيمان مرّة واحدة فمن أسلم وآمن فلنفسه ومن عاند وجحد رسالتك اُتركه وادعُ غيره وسيلقى عقابه بعد موته (أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ ) من الآثام ، يعني ذكّرهم بالقرآن لئلاّ تُبسل نفسٌ من بين النفوس وتؤخذ إلى جهنّم ، أي تُعزل من بين النفوس ، والشاهد على ذلك قول كعب بن زُهير :

                                   إذا غَلَبَتْهُ الكَأْسُ لا مُتَعَبِّسٌ      حَصُورٌ ولا مِنْ دونِها يَتَبَسَّلُ

يعني ولا ينعزل وحده عنها ، وقال زُهير بن أبي سلمى :

                                      بلادٌ بها نادَمْتُهُمْ وألِفْتُهُمْ      فإنْ تُقْوِيَا مِنْهُمْ فإنّهُما بَسْلُ

يعني فإن فرغت منهم تلك البقاع تبقى غير صالحة للسُكنى ولذلك انعزلوا عنها وارتحلوا منها ، وقال الأعشى :

                                    أجارَتُكُمْ بَسْلٌ علَينا مُحَرَّمٌ      وجارَتُنا حِلٌّ لكمْ وحَلِيلُهَا

وقالت الخنساء :
                             مِنَ القَـومِ مَغشِـيُّ الـرِواقِ كَأَنَّـهُ      إِذا سيـمَ ضَيمـاً خـادِرٌ مُتَبَـسِّـلُ

أي مُنعزل عن الناس ، والخادر الّذي اتّخذ الأجمّةَ خِدراً وانعزل عن الناس ، ولاتزال هذه الكلمة مُستعملة عندنا في العراق لتفريق نوعين من الفواكه أو الحبوب على أن يكون أحدها قليلاً والآخر أكثر ، أو يكون أحدهما جيّداً والآخر رديئاً فيقول لصاحبهِ إبسِل البرتقال عن اللّيمون ، أو يقول إبسِل التفّاح ، أي إعزل الجيّد من الرديء ، فالجيّد المعزول يُقال له "مبسول" أمّا الرديء فيُقال له "بسالة" ، وقد قلتُ في كتابي الإنسان بعد الموت أنّ دخول جهنّم في عالم البرزخ خاصّ للأمّة الّتي كذّبت رسولها مواجهةً وليس لجميع الكافرين ، أمّا الآخرون فدخولهم فيها يكون يوم القيامة ، فإنّ الله تعالى يأمر ملائكة العذاب أن تلتقط هؤلاء المكذّبين من بين النفوس واحداً بعد الآخر وتغلّل أيديهم بسلاسل من حديد وتأخذهم إلى جهنّم . والشاهد على ذلك قوله تعالى في سورة الحاقّة {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ . ثمّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ . ثمّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ } .

فإن قال أحد الملحدين : أين تكون جهنّم ، ولم لا نراها لو كانت موجودة؟ أقول : يراها كلّ إنسان ولكن لا يعرفها ، فجهنّم الأرض هي البراكين ، وجهنّم الفضاء هي الشمس الحاليّة ، وجهنّم هي سقر وهي أكبر من شمسنا الحاليّة باضعاف ، ولذلك قال الله تعالى عنها في سورة المدثر {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ } أي إحدى الشموس الكبيرات الأحجام ، وقال تعالى في نفس السورة {لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ } أي تلوح للناس من بعيد فيرونها كنجمة تضيء في اللّيل .

وقوله (لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ وَلِيٌّ ) يتولّى أمر تلك النفس المكذّبة ويدافع عنها (وَلاَ شَفِيعٌ ) يشفع لها ويُخلّصها من العذاب (وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا ) يعني وإن تعادل آثامها بكلّ شيء ثمين من مال الدنيا وتفدي بهِ لكي تنجو من العذاب فلا يُقبَل منها ، والمعنى : لا يدفع عنها العذاب وليٌّ ولا شفيع ولا مال (أُوْلَـئِكَ الّذينَ أُبْسِلُواْ ) أي عُزِلوا من بين النفوس الكافرة وأُخِذوا إلى جهنّم (بِمَا كَسَبُواْ ) من آثام وتكذيب الرُسُل (لَهُمْ) في جهنّم (شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ ) أي ساخن ، ومن ذلك قول امرئ القيس يصف فتاة :

                          إذا مَا اسْتَحمَّتْ كَانَ فَضْلُ حمَيمِهَا      عَلى مَتنَتيْهَا ، كَالجُمَانِ لدى الجَالي

(وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ) .

71 - دعا بعض المشركين مَن أسلمَ وآمَنَ بالنبيّ ، فقالوا : "لا يغرّنّكم محمّد بدينه ، إرجعوا إلى دينكم ودين آبائكم" ، فنزلت هذه الآية (قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا ) يعني تدعونا إلى عبادة الأصنام والأوثان الّتي لا تنفع ولا تضرّ (وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا ) أي نرجع إلى الوراء ، وهذه كناية عن الجهل والعمى بعد العقل والتبصّر ، والمعنى : أتريدون أن نرجع إلى جهلنا وضلالنا الّذي كنّا عليه معكم (بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ ) إلى الإسلام ونجّانا من الكفر والضلال (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ ) وهو إبن نوح الذي أغوته وأغرته63 شياطين الإنس ، وهم الكافرون من قوم أبيه حيث قالوا له لا تركب مع أبيك في السفينة بل ابقَ معنا فسمع كلامهم وهلك معهم ، فكذلك أنتم تريدون أن تغرونا بقولكم فنترك رسول الله ونرجع إلى عبادة الأصنام فهذا لا يكون ، وقوله (حَيْرَانَ) أي وقعَ في حيرة من أمره لأنّ قوم أبيهِ يمنعونهُ من الركوب في السفينة ، وأصحاب أبيهِ المؤمنين يدعونهُ إليهم ليركب معهم فلا يدري مع أيّهما يذهب (لَهُ أَصْحَابٌ ) وهم المؤمنون الّذينَ في السفينة (يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ) ويقولون له (ائْتِنَا) أي تعال معنا ، ولكنّه لم يركب معهم بل بقيَ مع الكافرين فغرقَ وهلك (قُلْ) يا محمّد لهؤلاء الكافرين (إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ ) الذي لا يحيد عنه صاحبهُ ، والمعنى : إنّ الله تعالى إذا هدَى أحداً إلى الإيمان وزيّنهُ في قلبهِ فلا تقدرون أنتم على إرجاعهِ عن الإسلام (وَ) قل لهم (أُمِرْنَا لِنُسْلِمَ ) أي لنستسلم (لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) فأسلمنا وآمَنّا .

------------------------------------

63 :وإنّما قال تعالى (اسْتَهْوَتْهُ) ولم يقل أغوته لأنّ ابن نوح أحبّ فتاة منهم فقالوا له إبقَ معنا ونعطيك الفتاة ، فبقي معهم .

<<الصفحة السابقة الصفحة الرئيسة الصفحة التالية>>



كتاب الكون والقرآن ..تفسير الظواهر الكونية في القرآن الكريم، ووصف دقيق لأحداث القيامة كتاب المتشابه من القرآن تفسير الآيات الغامضة في القرآن الكريم والتي ظلت غامضة منذ 1400عام كتاب حقائق التأويل في الوحي والتنزيل: التفسير الكامل للأيات القرانية بضمنها الايات المتشابهة والغامضة
كتاب الإنسان بعد الموت: وصف دقيق لحال الأنسان بعد الموت وتكوين الجنان وجهنم والملائكة والشياطين. كتاب ساعة قضيتها مع الأرواح: رحلة في عالم الأرواح مدتها ساعة زمنية كتاب الخلاف بين التوراة والقرآن: يوضح من زور التوراة وفي أي عصر والأخطاء الواضحة فيها ومقارنتها بالقرآن الكريم