كتاب: حقائق التأويل في الوحي والتنزيل

بقلم: محمد علي حسن الحلي (رحمه الله تعالى)

توزيع: دار الكتب العلمية (بيروت)

الوصف: تفسير الايات القرآنية كاملة اضافة الى الايات الغامضة

فهرس الآيات , البحث في القرآن الكريم

تفسير سورة التوبة من الآية( 1) من كتاب حقائق التأويل في الوحي والتنزيل   بقلم محمد علي حسن الحلي (رحمه الله تعالى) : 

1 - تعاهد النبي (ع) مع المشركين من أهل مكة بالأمان بين الطرفين وأن لا يقتل بعضهما بعضاً وأن لا يؤذوا المؤمنين ولا يسلبوهم أموالهم ولا يُساعدوا أحداً على قتالهم . وبعد زمن خان المشركون عهودهم مع النبيّ إلاّ فريقاً منهم ، فركبَ عمرو بن سالم الخزاعي حتّى قَدِمَ المدينة وأتى رسول الله ، وكان ذلك مِمّا سببَّ فتح مكّة ، فوقفَ عليه وهو في المسجد بين ظَهراني القوم وأنشد : 

                               لاهُمَّ إِنِّي نَاشِدٌ محمّدا        حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الأَتْلَدَا 
                         إنّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوك الْمَوْعِدَا       وَنَقَضُوا مِيثَاقَك الْمُوَكّدَا 

فنزلت هذه السورة في المشركين الّذينَ خانوا العهود ونقضوا المواثيق . وإنَّما لم يأتِ في أوّلها البسملة لأنَّ فيها ذكر الرحمان الرحيم ، وإنَّ المشركين لا تشملهم الرحمة ، لذلك لم تبدأ السورة بالبسملة .

(بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ ) أي التبرئة من التزامات العهود (إِلَى الّذينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ) والخطاب للمُسلمين، والمعنى : تبرّؤوا مِمّن كان بينكم وبينهم عهد من المشركين فإنَّ اللهَ ورسولهُ بريئان منهم لأنَّهم نقضوا عهودهم . ثمّ أمهلهم أربعة أشهر ليفكّروا في القرآن ويتدبروا آياتهِ ويستشيروا عقولهم في التوحيد ويسيحوا في الأرض للتفتيش عن آثار المكذبين للرُسُل كيفَ أهلكهم الله ودمّرهم لئلاّ يكونوا مثلهم ، وبعدها إمّا أن يُسلموا وإمّا أن يُقتَلوا إنْ داوموا على كفرهم فقال تعالى :

2 - (فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ) آمنين وبعدها إمّا أن تُسلِموا وإمّا أن تُقتَلوا (وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ ) مهما كَثُرَ عددكم وزادَ سلاحكم (وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ ) أي مُذلّهم .

ثمّ بيّنَ سُبحانهُ أنّهُ يجب إعلام المشركين ببراءةٍ منهم لئلاّ ينسبوا المسلمين إلى الغدر فقال :

3 - (وَأَذَانٌ) أي وإعلامٌ ، ومن ذلك قول امرئ القيس :

                                 فما قاتَلوا عن ربّهم ورَبِيْبِهِمْ      ولا آذَنُوا جاراً فَيَظْعَنَ سالِمَا

يعني لم يُعلِموهُ بأنَّهم لا ينصرونهُ ليرحل عنهم ويسلم من القتل . وقوله (مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ ) يعني جميع الناس من مُشركين ومُسلمين ليعلموا أنَّ العهود قد زالت بين المسلمين والمشركين وكان ذلك اليوم الّذي أمهلهم به هو (يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ ) والأكبر معناهُ الأعظمُ أجراً ، وهو ما كان في شهر ذي الحِجّة والّذي فيه يكون الوقوف بعرفات يوم الجمعة ، والأصغر هو العُمرة في أيّ وقتٍ كان ، والدليل على ذلك قوله تعالى في سورة البقرة {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ } يعني أعظم . وقال {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ } أي أعظم . والإعلام هو (أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ) أي من عهدهم (وَرَسُولُهُ) أيضاً بريء (فَإِن تُبْتُمْ ) أيُّها المشركون وآمنتم (فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ) من البقاء على الشِّرك (وَإِن تَوَلَّيْتُمْ ) عن الإسلام ولم تؤمنوا (فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ ) أي لا تعجزونهُ عن تعذيبكم ولا يمكنكم أن تهربوا من سُلطانهِ (وَبَشِّرِ الّذينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) في الآخرة .

4 - ثمّ استثنَى سُبحانهُ الّذينَ لم يخونوا العهد مع النبيّ والمسلمين فقال تعالى (إِلاَّ الّذينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا ) من شروط العهد ، يعني لم يخونوا العهدَ معكم (وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا ) يعني ولم يُساعدوا عليكم أحداً في القتال (فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ ) ولا تتبرّؤوا من عهدهم (إِلَى مُدَّتِهِمْ ) الّتي وقع الاتّفاق عليها (إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ) لنقض العهود .

5 - (فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ ) يعني إذا انتهت الأشهر الأربعة الّتي أمهلناهم فيها (فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ) من مكانٍ أو زمان (وَخُذُوهُمْ) أسرى (وَاحْصُرُوهُمْ) يعني وحاصروهم (وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ) يعني في كلِّ طريقٍ يمرّون فيه وعلى كلِّ مُرتفعٍ تتسلّطون عليهم وتراقبونهم فيه ، والمعنى : ما أمكنكم من قتلٍ أو أسرٍ أو حِصار أو سجن أو مُراقبة فقوموا بها عليهم واستعملوها معهم كي يتركوا دين الشِّرك ويُسلِموا (فَإِن تَابُواْ ) عن الشِرك وعبادة الأوثان وآمَنوا باللهِ ورسولهِ (وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ ) كما تقيمونها (وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ ) المفروضة (فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ ) يعني فاتركوهم ولا تقاتلوهم (إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ ) للتائبين (رَّحِيمٌ) بالطائعين .

6 - (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ) يعني حتّى يسمع القرآن ، والمعنى : فإنْ طلبَ أحدٌ من المشركين الّذينَ أمرتُكَ بقتالهم الأمان من القتل بعد الأشهر الأربعة ليسمع دعوتك ويستفسر عنها ويسمع آيات القرآن فآمِنهُ وبيّن لهُ وأمهِلهُ حتّى يسمعَ كلامَ الله لعلّهُ يُسلم ويؤمن (ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ) يعني إنْ دخل دين الإسلام نال خيرَ الدارَين ، وإنْ لم يدخل في دين الإسلام فلا تقتلهُ فتكون قد غدرتَ بهِ ولكن أوصله إلى ديار قومهِ الّتي يأمن فيها على نفسهِ (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ ) الحقيقة لأنَّهم مُقلِّدون لآبائهم .

7 - (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ ) وهم يخونون العهد (إِلاَّ الّذينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) فإنَّهم لم يخونوا العهد معكم (فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ ) على العهد (فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ ) أيُّها المسلمون (إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ) الّذينَ لا يخونون .

8 - (كَيْفَ) تواظبون على العهد مع من خان (وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ ) أي يتسلّطوا عليكم (لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ ) أي عهداً ، وهو أن يقول "آليتُ على نفسي أن أفعل كذا" ، والشاهدُ على ذلك قولُ حسّان:

                                   وَإكْرامُنا أَضْيافَنا وَوَفاؤُنا      بِمَا كانَ مِنْ إلٍّ عَلَيْنا وَمَوْثِقِ

وقال الآخر:
                                          وَجَدْنَاهُمْ كَاذِبًا إلُّهُمْ      وَذُو الْإِلّ وَالْعَهْدِ لَا يَكْذِبُ

وقال الأعشى يمدح سلامة ذا فائش :

                                 أبْيَضُ لا يَرْهَبُ الْهُزالَ ولا      يَقْطَعُ رِحْماً ولا يَخُونُ إلّا

والآلُ القرابة ، (وَلاَ ذِمَّةً ) الذِمَّة هي الوفاء بالدَّين ، والشاهد على ذلك قول طَرَفة :

                                    أَبَرَّ وأَوْفَى ذِمًّةً يَعْقِدُونَها      وخَيْراً إذا ساوَى الذُّرَى بالْحَوارِكِ

والمعنى : إنْ يستولِ عليكم المشركون لا يمنعْهم من قتلكم وتعذيبكم عهدٌ ولا وفاءٌ بدَيْنٍ (يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ ) بلين الكلام وإظهار المحبّة لكم (وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ ) إلاّ العداوة والغدر ونقض العهد (وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ ) لا أخلاقَ لهم .

------------------------------------
<<السورة السابقة الصفحة الرئيسة الصفحة التالية>>



كتاب الكون والقرآن ..تفسير الظواهر الكونية في القرآن الكريم، ووصف دقيق لأحداث القيامة كتاب المتشابه من القرآن تفسير الآيات الغامضة في القرآن الكريم والتي ظلت غامضة منذ 1400عام كتاب حقائق التأويل في الوحي والتنزيل: التفسير الكامل للأيات القرانية بضمنها الايات المتشابهة والغامضة
كتاب الإنسان بعد الموت: وصف دقيق لحال الأنسان بعد الموت وتكوين الجنان وجهنم والملائكة والشياطين. كتاب ساعة قضيتها مع الأرواح: رحلة في عالم الأرواح مدتها ساعة زمنية كتاب الخلاف بين التوراة والقرآن: يوضح من زور التوراة وفي أي عصر والأخطاء الواضحة فيها ومقارنتها بالقرآن الكريم