كتاب: حقائق التأويل في الوحي والتنزيل بقلم: محمد علي حسن الحلي (رحمه الله تعالى) توزيع: دار الكتب العلمية (بيروت) الوصف: تفسير الايات القرآنية كاملة اضافة الى الايات الغامضة |
|
||
143 - ثمّ خاطبَ أهل مدينة يثرب فقال تعالى (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ) الآية معطوفة على ما سبق من قوله تعالى {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً } ، وتقديرها : كما جعلنا البيت مثابةً للناس وأمناً ، كذلك جعلناكم يا أهل المدينة أمةً وسطاً ، يعني جعلناكم عقلاء أذكياء ، فالوسط معناه الذكيّ الفاهم ، والدّليل على ذلك قوله تعالى في سورة القلم {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُون َ} يعني قال أذكاهم وأعلمهم . ومن ذلك قول زُهير :
هُمُ وَسَطٌ يَرْضَى الأَنامُ بِحُكْمِهِمْ إذا نَزَلَتْ إحْدَى اللَّيالِي بِمُعْظَمِ
فالآية خاصّة بمدح الأنصار كما مدحهم في سورة الحشر فقال تعالى {وَالّذينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } .
ثمّ بيّنَ سُبحانهُ لأيّ سبب جعلهم أمةً وسطاً ، فقال (لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ) أي لتكونوا شهداء على الكافرين من أهل مكّة ، فكلمة "ناس" يقصد بها أهل مكّة (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) إن تغيّرتم ، يعني إن تغيّر بعضكم في المستقبل ونافقَ كعبد الله بن اُبيّ وأصحابه ، فيشهد عليكم الرسول يوم القيامة .
وقوله تعالى (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ) أي جعلناك تترك القبلة التي كنت عليها وتتّجه إلى الكعبة لنعلمَ من يتّبع الرسول في ذلك مِمّن ينقلب على عقبيه ولا يتّبع (وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً ) أي وإن كانت تلك التحويلة من بيت المقدس إلى الكعبة تشقُّ عليكم وتعظم لأنّ من تعوّد شيئاً يعظم عليه تغييره (إِلاَّ عَلَى الّذينَ هَدَى اللّهُ ) أي ولكنّ الّذينَ هداهم الله لا يشقّ ذلك عليهم لأنّهم يمتثلون أمر الله ويسمعون كلام النبيّ ويُطيعون ما أمِروا به (وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ) يعني ليضيع أجر تصديقكم وإطاعتكم أمر ربّكم (إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ) .
144 - في بدء الأمر كره النبيّ أن يصلّي نحو الكعبة لأنّ الأصنام كانت تحيط بِها ، وأراد أن تكون صلاته خالصة لله ، ولئلاّ يتوهّم أحد من قريش أنه يسجد للأصنام ، فلذلك أخذ النبيّ يتّجه بصلاتهِ نحو بيت المقدس ، وكان ذلك باختياره ولم يكن بأمرٍ من الله . وبقي على ذلك سنوات ، فلمّا عابت اليهود المسلمين في ذلك وقالوا لو لم يكن ديننا أحقّ من دينهم ما صلّوا نحو قبلتنا ، فحينئذٍ سأل النبيّ من الله أن ينزّل إليه أمراً في ذلك هل يبقَى على قِبلة المقدس أم يتّجه نحو الكعبة ، فلمّا صار اللّيل خرج النبيّ خارج المدينة وهو يقلّبُ طرفهُ نحو السماء مُنتظراً أن تنزل عليه آية في ذلك . ولَمّا لم ينزل عليه شيء في تلك اللّيلة رجع إلى داره ، وفي الغد نزلت هذهِ الآية (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء ) لانتظار الوحي في أمر القِبلة (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ) أي فلنصرفنّكَ إلى قِبلةٍ ترضَى بِها (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) أي حوّل وجهك نحو الكعبة (وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ ) أيّها المسلمون من الأمكنة (فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ ) أي نحوهُ ، ومن ذلك قول كعب بن زُهير :
إذا ما أتَتْهُ الريحُ مِنْ شَطْرِ جانِبٍ إلى جانبٍ حازَ التُّرابَ مَهَارِقُهْ
(وَإِنَّ الّذينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ ) يعني علماء اليهود (لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ) أي يعلمون أنّ القرآن حقّ وهو منزّل من ربّهم ، لأنّ أمر تحويل القبلة مذكور عندهم وقد أخبرتهم بذلك أنبياؤهم بأنّ النبيّ الّذي يأتي آخر الزمان يُصلّي نحو القِبلتين ، ولكنّهم يخفون ذلك حسداً منهم (وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ) أي عمّا يعمل اليهود مع النبيّ من المكرِ والحسد .
145 - فلَمّا أدارَ النبيّ بوجههِ إلى الكعبة واتّخذها قِبلة ، قالت اليهود : "لقد ترك محمّد بيت المقدس الذي بناه داوُد وسُليمان واتّخذ الكعبة قِبلةً !" فقال النبيّ : "إنْ كان داوُد وسُليمان وقومُهما بنَوا بيت المقدس فإنّ الكعبة بناها إبراهيم وإسماعيل ، وإبراهيم أبو الجميع ، فهلاّ يتبعون قِبلةَ أبيهم وهي أقدم من بيت المقدس؟" فنزلت هذه الآية (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الّذينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ ) يعني المعاندين من اليهود والنصارى (بِكُلِّ آيَةٍ ) أي بكلّ بيّنةٍ (مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ ) يا محمّد لأنّ من تعوّد شيئاً يصعب عليه تغييره و تبديله (وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ ) أي وكذلك أنتَ لا يهوى قلبك قِبلتهم بل تهوى قِبلة آبائك وأجدادك وهي الكعبة ، وإنّما صلّيت نحو قبلتهم اضطراراً لأنّك وجدت الأصنام تحيط بالكعبة ، ولَمّا كسّرتَ الأصنام وطهّرتَ الكعبة منها ، صار قلبك يهواها ولا يهوى الصلاة نحو بيت المقدس (وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ) يعني فلا اليهود تهوى قِبلة النصارى ولا النصارى تهوَى قِبلة اليهود ، فاليهود يُصلّون نحو بيت المقدس ، والنصارى يُصلّون نحو المشرق وبعضهم لا يتّجه إلى قِبلة ، والصابئة يُصلّون نحو الجدي [نجمٌ في السماء ] ، (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم ) يا محمّد ، يعني لئن اتّبعت آراءهم وعقائدهم الفاسدة (مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ ) بالحقائق والوحي الذي أنزلهُ الله عليك (إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ) لنفسك ولقومك ، فإيّاك أن تتّبع أهواء اليهود والنصارَى .
146 - (الّذينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ ) يعني بذلك علماء اليهود (يَعْرِفُونَهُ) أي يعرفون الكتاب الّذي جاءَ بهِ محمّد هو حقٌّ (كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ ) قال عبد الله بن سلام : أنا أعلم به مني بابني ، قال عمر: ولِمَ ؟ قال : لأنّي لست أشكّ في محمّد أنّه نبيّ ولا في القرآن ، أمّا ولدي فلعلّ والدتهُ خانت ، فقبّل عمر رأسه .
(وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ ) أي من أهل الكتاب (لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ ) حسَداً منهم وعِناداً (وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) أنّه نبيٌّ . وإنّما خصّ فريقاً منهم بكتمان الحقّ يريد بذلك علماءهم ولأنّ بعضهم أسلموا .
كتاب الكون والقرآن ..تفسير الظواهر الكونية في القرآن الكريم، ووصف دقيق لأحداث القيامة | كتاب المتشابه من القرآن تفسير الآيات الغامضة في القرآن الكريم والتي ظلت غامضة منذ 1400عام | كتاب حقائق التأويل في الوحي والتنزيل: التفسير الكامل للأيات القرانية بضمنها الايات المتشابهة والغامضة |
كتاب الإنسان بعد الموت: وصف دقيق لحال الأنسان بعد الموت وتكوين الجنان وجهنم والملائكة والشياطين. | كتاب ساعة قضيتها مع الأرواح: رحلة في عالم الأرواح مدتها ساعة زمنية | كتاب الخلاف بين التوراة والقرآن: يوضح من زور التوراة وفي أي عصر والأخطاء الواضحة فيها ومقارنتها بالقرآن الكريم |