كتاب: حقائق التأويل في الوحي والتنزيل

بقلم: محمد علي حسن الحلي (رحمه الله تعالى)

توزيع: دار الكتب العلمية (بيروت)

الوصف: تفسير الايات القرآنية كاملة اضافة الى الايات الغامضة

فهرس الآيات , البحث في القرآن الكريم

تفسير سورة البقرة من الآية( 178) من كتاب حقائق التأويل في الوحي والتنزيل   بقلم محمد علي حسن الحلي (رحمه الله تعالى) : 

178 - (يَا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ) يعني المماثَلة في القتلى ، أي يُفعَل بالقاتل مثل ما فعلَ بالمقتول ، وذلك إن كان القتلُ عمداً ، إمّا إذا كان خطأً فلا يُقتَل القاتل بل يؤخذ منه ديته ، ومعنى "كُتِبَ عليكم" أي فرضنا عليكم كما كتبنا على الّذينَ من قبلكم في كتبهم ، ثمّ بيّنَ سُبحانهُ كيفيّة القِصاص فقال (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى ) أي يُقتَل الحرُّ إذا قتل رجلاً حرّاً مثله ، ويقتل العبد إذا قتل عبداً مثله ، وتقتل المرأة إذا قتلت امرأة مثلها ، ولا يقتل الحرّ إذا قتل عبداً بل يؤخذ منه ديتهُ ويضرَب ويُسجَن ، وكذلك إن قتل امرأةً ، ولكن إذا قتل عبدين أو امرأتين يقتل بهما . والعبدُ يُقتل إذا قتل رجلاً حرّاً سواءً ذكراً كان أو اُنثى ، والمرأة تقتل إن قتلت رجلاً حرّاً كان أو عبداً (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ ) أي للقاتل (مِنْ أَخِيهِ ) أي من حقّ أخيه المقتول (شَيْءٌ) من الدم ، يعني إذا عفا أخو المقتول عن القاتل ورضيَ بالدِية دون القتل فلا حرجَ من ذلك ، فإن لم يكن للمقتول أخٌ فأبوه أو ابنه أو أقرب أقربائه إن لم يكن للمقتول أب ولا إبن ولا أخ . وقوله (فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ) يعني فعلَى القاتل أن يتّبع قول أخي المقتول بأداء الدِيَة ويشكر معروفهُ بذلك (وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ) يعني وعليه أيضاً أن يؤدّي الدِية بإحسان دون مماطلة ولا ممانعة (ذَلِكَ) الحُكم برفع القتل عن القاتل إذا وافق أخو المقتول بالدِية (تَخْفِيفٌ) لكم (مِّن رَّبِّكُمْ ) في الحكم (وَرَحْمَةٌ) بكم (فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ ) أي بعد أداء الدِية وقتلَ شخصاً آخر (فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) أي يُضرَب بالسياط حتّى يموت . أمّا حُكم من قتل سهواً فقد بيّنهُ الله تعالى في سورة النساء فقال تعالى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ } وسيأتي شرحها في سورة النساء .

179 - (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ) يعني في وجوب القصاص حياة ، لأنّ من همّ بالقتل فذكر القصاص ارتدع فكان ذلك سبباً للحياة (يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ ) أي يا ذوي القلوب الواعية . "اللّبّة" في الصدر ما بين الثديين ، وجمعها لُبّات وألباب ، والشاهد على ذلك قول ذي الرمّة:

                         تُرِيكَ بياضَ لَبَّتِها ووَجْهاً      كقَرْنِ الشمس أَفْتَقَ ثم زَالا

فقول الشاعر " تُرِيكَ بياضَ لَبّتِها" أي تريك صدرها وما بين نهديها . وقال الآخر :

                    أتَنسَونَني يومَ الشريعةِ والقَنا      بِصِفِّينَ في لبّاتِكم تتكسّرُ

يعني تتكسّر القنا في صدوركم من كثرة الطعن فيها . ولَمّا كانت القلوب في الصدور صاروا يكنّون عنها بالألباب ، ومن ذلك قول عنترة :

                        يا عبلُ حبّكِ سالِبٌ ألبابَنا      وعقولَنا فتعطّفي لا تَهجُرِي

فقول الشاعر " سالِبٌ ألبابَنا وعقولَنا" يعني قلوبنا وعقولنا . وقال الأعشى :

                 أرَى سَفَهـاً بالمـرءِ تَعْلِيـقَ لُبّـهِ      بِغانِية ٍخـودٍ متـَى تَـْدنُ تَبْعُـدِ

فقول الشاعر " تعليـقَ لبّـهِ" يعني تعليق قلبهِ . وقد ذكر الله سبحانهُ الصدور كناية عن القلوب في آيات كثيرة من القرآن فقال تعالى في سورة آل عمران {قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } يعني عليمٌ بالقلوب الّتي في الصدور ، وقال تعالى في سورة المائدة {وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } ، وقال تعالى في سورة يونس {قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ } أي شفاءٌ للقلوب الّتي في الصدور . وقوله (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) أي لعلّكم تتجنّبون القتل بفعل القصاص .

180 - ثمّ أمرَ سبحانه بأنّ الغنيّ إذا حضرته الوفاة فليوصِ لوالديهِ ولأقربائهِ الفقراء بأن يعطوهم من المال المنقول زيادة على حصّتهم فقال (كُتِبَ عَلَيْكُمْ ) أي فُرِض عليكم (إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ) يعني إذا دنا وقت موته (إِن تَرَكَ خَيْرًا ) أي تركَ مالاً كثيراً (الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ ) أي فعليه أن يوصي لوالديهِ وأقاربه الفقراء سواء كانوا وارثيه أم غير وارثيه ، لأنّ هذه الوصية جُعالة غير الإرث وخاصة للفقراء منهم ، وذلك بأن يعطيهم الوصيّ من المال الموروث يعني من النقود أو الأطعمة كالحنطة والتمر والزبيب وغير ذلك على مقدار ما أوصى به الميّت (بِالْمَعْرُوفِ) أي بالشيء المناسب لهم وذلك بأن يعطي للمحتاج منهم أكثر من غيره (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ) أي حقاً واجباً على من آثر التقوى .

181 - (فَمَن بَدَّلَهُ ) أي فمن بدّل كلام الموصي ، يعني بدّل الوصية (بَعْدَمَا سَمِعَهُ ) من الموصي (فَإِنَّمَا إِثْمُهُ ) أي إثم التبديل (عَلَى الّذينَ يُبَدِّلُونَهُ ) من الوصيّ والشهود ، يعني على الّذينَ يبدّلون وصية الميّت ، إلا إذا أوصى الميّت بشيء مُحرّم أو فيه إشراك أو فيه تبذير فعلى الوصي تبديلهُ إلى شيء فيه رضاً لله وأجرٌ للميّت . وقد سمعتُ أنّ بعض الناس في أوربا أوصَى جميع واردات أملاكه تصرف على كلبه . وهذا تبذير إن لم يكن للميّت أقرباء يرثونه ، وإن كان له أقرباء فوصيّته باطلة إلاّ أن يُصرَف شيء قليل على الكلب والباقي لأقربائه ، (إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ ) لأقوالهم (عَلِيمٌ) بأفعالهم .

182 - (فَمَنْ خَافَ ) أي فمن خشيَ (مِن مُّوصٍ ) أي من الموصي ، وذلك عند وصيّتهِ قبل مماتهِ (جَنَفًا) أي ميلاً عن الحقّ فيما يوصي به لأقربائه ، ومن ذلك قول الأخطل :

                         إني قَضَيْتُ قضاءً غيرَ ذي جَنَفٍ      لَمَّا سَمِعْتُ ولَمّا جاءَني الخَبَرُ

وقال الآخر :
                             إِنِّي امْرُؤٌ مَنَعَتْ أَرُومَةُ عَامِرٍ      ضَيْمِي وقد جَنفَتْ عَلَيّ خُصُومُ

وقال الأعشى يصف ناقتهُ :
                          وزَوْراً تَرى في مِرْفَقَيْه تجانُفاً      نَبِيلاً كبيتِ الصَّيْدَلانِيِّ دامِكا

وقال عديّ بن زيد :
                              واُمُّكَ يا نُعْمانُ في أخَواتِها      يَأتِينَ ما يَأتِينَهُ جنفَا

(أَوْ إِثْمًا ) الإثم أن يكون الميل عن الحقّ على وجه العمد ، و"الجنَف" أن يكون الميل على وجه الخطأ من حيث لا يدري (فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ ) أي فأصلح ذلك الشخص الحاضر عند المريض الّذي حضرته الوفاة وقت وصيّته فأصلح بين المريض وأقاربهِ ، بأن يقول له إنّ فلاناً من أقربائك وهو فقير فلا تنسَه ، وفلان يتيم وهو من أقربائك فاجعل له جُعالة ، وزيد محتاج فأعطِ زيداً أكثر من عمرو ، فهذا الرجل المصلِح (فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ ) بل يؤجَر على ذلك (إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ ) يغفر للميّت إذا أوصى لوالديه وأقاربه الفقراء والأيتام والأرامل (رَّحِيمٌ) بالفقراء إذْ جعل لهم جُعالة وأوصَى لهم بالزكاة .

                                                                     تعريف

للمُستحضر أن يوصي بثلث من ماله ليصرف بعد وفاته ، أو يهب منه إلى أقربائه أو غيرهم من الفقراء قبل موته والباقي من الثلث يُصرَف بعد وفاتهِ على إطعام الفقراء والأيتام أو كسوتهم أو غير ذلك مِمّا أوصى به الميّت وليس للمُستحضر أن يهب لأحد أو يوصي بالإنفاق من ماله بعد موته أكثر من الثلث إن كان له أولاد ، ولا يجوز للوصي أن يتصرّف بأموال الميت برأيه ، ويجب أن يقام على الوصي ناظر لئلاّ يخون الوصية فيأكل من مال الأيتام ، ويجب أن يكون الناظر من أقرباء الميّت لا من أقرباء الوصي ، وإذا لم يوجد أحد من أقرباء الميّت أو من الورثة فمن غيرهم ولا يجوز أن يكون الناظر أبا الوصيّ أو أخاه أو ابنه لئلاّ يتّفق مع الوصيّ على أكل مال الأيتام . وإذا زاد من الثلث عند الوصيّ بعد العمل بالوصيّة يجب أن يعاد للورَثة حتّى يبلغوا رشدهم ، أمّا البالغ وصاحب الحقّ من الورَثة له أن يتصرّف في حقّهِ كيف يشاء وليس للوصيّ حقٌّ عليه إلاّ إذا أرادَ أن يُنفق حقّه في المحرّمات .

------------------------------------
<<الصفحة السابقة الصفحة الرئيسة الصفحة التالية>>



كتاب الكون والقرآن ..تفسير الظواهر الكونية في القرآن الكريم، ووصف دقيق لأحداث القيامة كتاب المتشابه من القرآن تفسير الآيات الغامضة في القرآن الكريم والتي ظلت غامضة منذ 1400عام كتاب حقائق التأويل في الوحي والتنزيل: التفسير الكامل للأيات القرانية بضمنها الايات المتشابهة والغامضة
كتاب الإنسان بعد الموت: وصف دقيق لحال الأنسان بعد الموت وتكوين الجنان وجهنم والملائكة والشياطين. كتاب ساعة قضيتها مع الأرواح: رحلة في عالم الأرواح مدتها ساعة زمنية كتاب الخلاف بين التوراة والقرآن: يوضح من زور التوراة وفي أي عصر والأخطاء الواضحة فيها ومقارنتها بالقرآن الكريم