كتاب: حقائق التأويل في الوحي والتنزيل

بقلم: محمد علي حسن الحلي (رحمه الله تعالى)

توزيع: دار الكتب العلمية (بيروت)

الوصف: تفسير الايات القرآنية كاملة اضافة الى الايات الغامضة

فهرس الآيات , البحث في القرآن الكريم

تفسير سورة البقرة من الآية( 212) من كتاب حقائق التأويل في الوحي والتنزيل   بقلم محمد علي حسن الحلي (رحمه الله تعالى) : 

212 - ثمّ بيّنَ سُبحانهُ بأنّ امتناعهم عن الإيمان إنّما هو لإيثارهم الحياة الدُنيا فقال تعالى (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُنيا ) يعني زيّنَ الشيطان لهم حُبّ الدُنيا وألقى الكفر في قلوبهم (وَيَسْخَرُونَ مِنَ الّذينَ آمَنُواْ ) لأنّهم آمَنوا بالبعث ولأنّهم فقراء (وَالّذينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) يعني فوق الكافرين بالمكان والمنزلة ، لأنّ الجنّة في السماء والنار من تحت وهي البراكين يُعذّبون فيها ماداموا في الأرض إلى يوم القيامة (وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء ) في المستقبل (بِغَيْرِ حِسَابٍ ) أي بدون محاسبة على صرفها ، وذلك في الدُنيا ، فلا تسخروا بالمؤمنين لكونهم فقراء فإنّ الله سيرزقهم ويعطيهم من فضله .

213 - (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ) فاختلفوا ، أي كانوا على مِلّة واحدة ليس فيهم من يشرك بالله ، وذلك في زمن آدم ، فاختلفوا من بعدهِ إلى مذاهب شتّى وألسُن مُتعدّدة وأشركوا (فَبَعَثَ اللّهُ النبيّينَ مُبَشِّرِينَ ) بالجنّة لمن أطاعهُ (وَمُنذِرِينَ) بالنار لمن أشرك بهِ وعصاه (وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ ) أي الكتُب السماويّة (بِالْحَقِّ) أي بدِين الحقّ وتبيان الحقّ (لِيَحْكُمَ) كلّ نبيٍّ (بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ ) من الأديان والمذاهب الباطلة ويُرشدهم إلى دِين الحقّ (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ ) أي في الكتاب (إِلاَّ الّذينَ أُوتُوهُ ) وهم علماء الضلال من اليهود والنصارى وغيرهم الّذينَ طلبوا الدُنيا والرئاسة (مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ ) أي وكان اختلاف هؤلاء العلماء في الكتاب بعد الّذي جاءهم من البيّنات على صِدقه ، وسبب ذلك الاختلاف كان (بَغْيًا بَيْنَهُمْ ) أي حسَداً فيما بينهم وظلماً وطلباً للرئاسة (فَهَدَى اللّهُ الّذينَ آمَنُواْ ) إلى طريق الإسلام (لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ ) أي لِما كانوا مُختلفين فيه من الحقّ ، والمعنى : أنّ الله تعالى أوضح لهم الطريق حتّى عرفوا الحقّ من الباطل (بِإِذْنِهِ) لأنّ الله تعالى أذِنَ لملائكته فأرشدتْهم إلى ذلك بالإلهام والإيحاء (وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ) أي من كان أهلاً للهداية (إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) يعني إلى طريق الحقّ الّذي لا اعوجاج فيه .

214 - كان بعض من أسلم في زمن النبيّ (ع) لا يقومون بالواجب ولا ينشرون الدعوة ولا يجاهدون في سبيل الله بل اكتفَوا بمجرّد القول إذْ قالوا آمنّا ، فإذا سألهم بعض أصحابهم عن سبب امتناعهم عن الجهاد قالوا نخاف القتل والأذى ، فنزلت فيهم هذه الآية (أَمْ حَسِبْتُمْ ) أيّها المسلمون ، وفي الكلام حذفٌ تقديرهُ : أظننتم أنّكم تثابون بمجرّد قولكم آمنّا دون أن تعملوا أم حسبتم (أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ ) بدون عمل (وَلَمَّا يَأْتِكُم ) من الأذى والْمِحَن تضجرون وتنفرون ، فليس هذا عمل المؤمن ، ألا تكونون (مَّثَلُ الّذينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم ) من المؤمنين في الاُمَم السالفة (مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء ) "البأس" هو الشدّة وجمعه بأساء ، و"الضرّ " هو المرض وجمعه ضرّاء وقد سبق تفسير هذه الكلمات في آية 177 ، والمعنى : أصابتهم الشدائد بسبب الجهاد ، والفقر بسبب تركهم ديارهم وأموالهم في سبيل الله لأنّهم اتّبعوا رُسُلَهم (وَزُلْزِلُواْ ) أي أزعِجوا وأوذوا فصبروا ونصروا (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالّذينَ آمَنُواْ مَعَهُ ) أي يقول بعضهم لبعض (مَتَى نَصْرُ اللّهِ ) يعني يقول المؤمنون لرسولهم متى نصر الله ، فيقول الرسول في جوابهم (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ ) يعني يقول لهم اصبروا وسيأتيكم النصر عن قريب .

215 - نزلت هذه الآية في عمرو بن الجموح وكان شيخاً كبيراً ذا مال كثير فقال يا رسول الله بماذا أتصدّق وعلى من أتصدّق ؟ فنزلت (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ ) أي من مالٍ (فَلِلْوَالِدَيْنِ) وهم الأب والاُم والجدّ والجدّة (وَالأَقْرَبِينَ) أي الفقراء من أقربائك (وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ ) يعني الفقراء عامّةً (وَابْنِ السَّبِيلِ ) أي المسافر المنقطع بهِ ، وهذه زكاة تطوّع غير الواجبة (وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ ) فيجازيكم عليه .

216 - (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ) أي شاقّ عليكم تكرهونه كراهةَ طِباع (وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ) ومعناه وقد تكرهون شيئاً في الحال وهو خيرٌ لكم في المستقبل ، كما تكرهون القتال وهو خيرٌ لكم ، لأنّ في الجهاد لكم إحدى الحُسنيَين إمّا الظفَر والغنيمة وإمّا الشهادة والجنّة (وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ) أي وقد تحبّون ما هو شرّ لكم وهو القعود عن الجهاد وهو شرّ لِما فيهِ من الذلّ والفقر في الدُنيا وحرمان الغنيمة والأجر في العُقبى (وَاللّهُ يَعْلَمُ ) ما فيه مصالحكم ومنافعكم (وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ) عواقب الاُمور ، فبادِروا إلى ما يأمركم به الله وإن يشقّ عليكم .

217 - بعث رسول الله سريّة من المسلمين وأمّرَ عليهم عبد الله بن جحش الأسدي وهو إبن عمّة النبيّ وذلك قبل قتال بدر بشهرين ، فانطلقوا حتّى هبطوا نخلة فوجدوا بها عمرو بن الحضرمي في عير تجارة لقريش ، وذلك في أوّل يوم من رجب ، وكانوا يرَونه من جماد ، فاختصم المسلمون فقال قائل منهم هذه غرّةٌ من عدوّ وغُنمٌ رُزِقتموهُ ولا ندري أمِن الشهر الحرام هذا اليوم أم لا ، وقال قائل منهم لا نعلم هذا اليوم إلاّ من الشهر الحرام ولا نرى أن تستحلّوهُ لطمعٍ أشفيتم عليه ، فغلب الأمر الّذينَ يُريدون عرَضَ الحياة الدُنيا فشدّوا على ابن الحضرميّ فقتلوه وغنموا عيرهُ ، فبلغ ذلك كفّار قريش فركبَ وفدٌ منهم حتّى قدموا على النبيّ فقالوا أيحلُّ القتال في الشهر الحرام ؟

فأنزل جبرائيل هذه الآية (يَسْأَلُونَكَ) يا محمّد (عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ ) يريد به شهر رجب (قِتَالٍ فِيهِ ) أي هل يباح القتال فيه (قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ) أي القتال فيه إثمٌ عظيم وذنبٌ كبير (وَ) لكن (صَدٌّ) منكم أيّها المشركون (عَن سَبِيلِ اللّهِ ) أكبر عند الله من القتل في الشهر الحرام ، لأنّ المشركين يصدّون الناس عن دين الإسلام ولا يتركونهم ليؤمنوا (وَكُفْرٌ) منكم (بِهِ) أي بدين الإسلام (وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) أي وكفرٌ منكم بالمسجد الحرام ، لأنّهم وضعوا الأصنام فوق الكعبة وكانوا يعبدونها (وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ ) يعني أهل المسجد وهم النبيّ والمسلمون (مِنْهُ) أي من المسجد ، يعني إخراج المسلمين من مكّة حين هاجروا إلى المدينة (أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ ) والمعنى : أفعالكم هذه وكفركم بالقرآن وبالمسجد الحرام أعظم عند الله من قتل رجل مشرك في الشهر الحرام (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ) أي وإنّ إفتانكم الناس بالكفر وصدّهم عن دين الإسلام أعظمُ وِزراً عند الله من قتل رجل مُشرك .

ثمّ أخبرَ سُبحانهُ عن عناد هؤلاء الكفّار وتعنّتهم فقال (وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ ) يعني أهل مكة والخطاب للمسلمين (حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ ) أي إنْ قدروا على ذلك ، وقد ارتدّ فريقٌ من المسلمين بعد وفاة النبيّ (ع) فقاتلهم أبو بكر فرجع قِسم منهم إلى دين الإسلام ثانية (وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ ) يعني إن مات على كفرِه ولم يرجع إلى دين الإسلام (فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُنيا وَالآخِرَةِ ) أي ذهبت أعمالهم التي عملوها وقت إسلامهم أدراج الرياح ، أي خسروا نتائج أعمالهم ، أمّا في الدُنيا فإنّهم أبدلوا حُسن الذِكر والشرف الّذي نالهم في الإسلام بسوء الذِكر والعار الذي نالهم عند ارتدادهم عن الإسلام ، أمّا في الآخرة فقد خسروا الجنّة وأبدلوا مرضاة الله بغضبهِ ، وأبدلوا حسن الذكر بالعار (وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) أي دائمون في النار .

------------------------------------
<<الصفحة السابقة الصفحة الرئيسة الصفحة التالية>>



كتاب الكون والقرآن ..تفسير الظواهر الكونية في القرآن الكريم، ووصف دقيق لأحداث القيامة كتاب المتشابه من القرآن تفسير الآيات الغامضة في القرآن الكريم والتي ظلت غامضة منذ 1400عام كتاب حقائق التأويل في الوحي والتنزيل: التفسير الكامل للأيات القرانية بضمنها الايات المتشابهة والغامضة
كتاب الإنسان بعد الموت: وصف دقيق لحال الأنسان بعد الموت وتكوين الجنان وجهنم والملائكة والشياطين. كتاب ساعة قضيتها مع الأرواح: رحلة في عالم الأرواح مدتها ساعة زمنية كتاب الخلاف بين التوراة والقرآن: يوضح من زور التوراة وفي أي عصر والأخطاء الواضحة فيها ومقارنتها بالقرآن الكريم