كتاب: حقائق التأويل في الوحي والتنزيل

بقلم: محمد علي حسن الحلي (رحمه الله تعالى)

توزيع: دار الكتب العلمية (بيروت)

الوصف: تفسير الايات القرآنية كاملة اضافة الى الايات الغامضة

فهرس الآيات , البحث في القرآن الكريم

تفسير سورة البقرة من الآية( 229) من كتاب حقائق التأويل في الوحي والتنزيل   بقلم محمد علي حسن الحلي (رحمه الله تعالى) : 

229 - كانوا في زمن الجاهليّة يُطلّقون نساءهم ويرجّعون مِراراً عديدة إضراراً بالمرأة وإهانةً لها ، فنهاهم الله عن تلك العادات فقال تعالى (الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ ) يعني الطلاق الّذي تباح فيهِ الرجعة مرّتان ولا يكون أكثر ، وذلك قبل انتهاء العِدّة فعليه أن يعقد من جديد بمهرٍ قليل بما يقع الرضا بين الطرفين ويكتب كتاب الزواج من جديد وتوقّع فيه شهود وذلك لئلاّ يقع جحود بعد ذلك من بعض الوَرَثَة إذا مات أحد الزوجين فيقول إنّ زوجة أبي مُطلّقة وليس لها حقّ في الميراث ، وما أشبه ذلك من جحود .

(فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ) والمعنى : إمّا أن يُبقيها عنده الزوج ويعاشرها بمعروف بلا جدال ولا مشاجرة ولا إهانة ، وإمّا أن يُطلّقها ويُسرّحها إلى أهلها بإحسان بأن يعطيها حقّها ونفقة العِدّة عن ثلاثة أشهر وينتهي بذلك القيل والقال (وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ ) أيّها الأزواج (أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ ) من المهر المعجّل أو المؤجّل (شَيْئًا) من ذلك إذا طلّقتموهنّ (إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ ) يعني إلاّ أن يخاف الزوج والزوجة أن لا يقيما أحكام الله ، وأحكام الله على الزوج أن يُطلّق زوجته إذا يئسَ من نفسه وأيقن أنّهُ غير قادر على الجِماع ، وأن يُعطيها مهرها ولا يأخذ منه شيئاً ، وأن يعطيها نفقة العِدّة . وعلى الزوجة أن تكون عفيفة ولا تزني بل تصبر حتّى تعود قوّة الجِماع عند زوجها ، أو يطلّقها هو باختياره . هذه حدود الله الّتي يجب على الزوج والزوجة أن يقيماها .

أمّا خوفها منها فهي : أوّلاً تخاف الزوجة أن تتغلّب عليها الشهوة الحيوانية فتزني إذا طال عليها الأمد ولم تعد قوّة الجِماع إلى زوجها ، ثانياً تخاف الزوجة أن لا يُطلّقها إلاّ إذا افتدت له بمهرها . ويخاف الزوج أن يُطلّق زوجته ثمّ تعود له قوّة الجِماع بعد زمن وليس له مال ليتزوّج غيرها ، ثانياً يخاف أن تطالبه بمهرها المؤجّل إذا طلّقها وهو فقير الحال لا يتمكّن من أدائه .

فهذا معنى قوله تعالى (إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ ) ، ثم ّقال تعالى (فَإِنْ خِفْتُمْ ) أيّها القضاة (أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ ) وذلك بأنّ الزوجة لا تصبر على ترك الجِماع وخفتم أن تزني إذا لم يُطلّقْها زوجها لأنّها فتاة وليست عجوزاً ، وعلمتم أنّ الزوج فقير الحال ولا يطلّق زوجته إلاّ إذا تركت له عن حقّها من المهر (فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ) أي لا حرج عليهما فيما افتدت بهِ الزوجة من مهرها ، ولا حرج على الزوج أن يأخذ ما وهبته من مهرها إذا أرادت الطلاق منه لهذا السبب .

فالزوجة تنتظر سنة واحدة فإن لم تحصل نتيجة من زوجها فلها حقّ أن تطالب بالطلاق . وتشمل هذه الآية الشيخ المسنّ إن كانت زوجته فتاة ولا تهواه وتخاف أن يوسوس لها الشيطان فتزني خفية عن زوجها ، فتقول لزوجها طلّقني ولك مهري ، فإذا وقع الرضا بين الطرفين على الطلاق فلا حرج عليهما فيما افتدت بهِ . وتشمل الآية أيضاً من كانت فيه عاهة من مرض مُزمن أو عمى أو كان مشوّه الخلقة وكانت زوجته فتاة جميلة ولا تهواه (تِلْكَ) الأحكام الّتي بيّناها لكم (حُدُودُ اللّهِ ) حدّها لكم (فَلاَ تَعْتَدُوهَا ) بالمخالفة (وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) لأنفسهم ولأزواجهم .

230 - (فَإِن طَلَّقَهَا ) زوجها التطليقة الثالثة (فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ ) بل حَرُمَتْ عليه إلى الأبد (حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ) ومعناه كي تتزوّج غيره وتنتهي المشكلة فلا مشاجرة ولا جدال بعد الفراق ، فكلمة "حتّى" تكون بمعنى "كي" والشاهد على ذلك قوله تعالى في السورة نفسها {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ } ومعناه كي يردّوكم ، وقال تعالى في سورة التوبة {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ } ومعناه كي يُبيّنَ لهم ما يتّقون . ثمّ بيّنَ سُبحانهُ بأنّ حكم الزوجة مع الزوج الثاني يكون كحكمها مع الأوّل في الطلاق فقال (فَإِن طَلَّقَهَا ) زوجها الثاني التطليقة الأولى (فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا ) يعني لا حرج عليهما أن يتراجعا إذا وقع الرضا بين الطرفين ، ولكن بشرط أن يُقيما حدود الله فلا مشاجرة ولا جدال كما كانت مع زوجها الأوّل ، وذلك قوله تعالى (إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ ) يعني إن أصرّا أن يقيما حدود الله (وَتِلْكَ) الأحكام (حُدُودُ اللّهِ يُبَيِّنُهَا ) في المستقبل (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) ويعقلون . فلو كان المراد من قوله تعالى (فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا ) هو إرجاعها إلى زوجها الأوّل كما ذهب إليه المفسّرون للزم عقد من جديد ومهر من جديد وعرس من جديد . إذاً إباحة التراجع أراد بهِ الله تعالى تراجعها مع زوجها الثاني إن كانت التطليقة الأولى أو الثانية ، ولكن إذا وقعت الثالثة تحرم عليه إلى الأبد ولا عودة لها ولا تراجع ولا عقد من جديد . وقد جاء نظير هذا في التوراة أيضاً وذلك في الإصحاح الرابع والعشرين من سِفر التثنية قال:

[ إذا أخذ رجُلٌ امرأة وتزوّج بها فإن لم تجد نِعمةً في عينيهِ لأنّه وجد فيها عيبَ شيءٍ وكتبَ لها كتاب طلاق ودفعهُ إلى يدها وأطلقها من بيته ، ومتى خرجت من بيتهِ وذهبت وصارت لرجُلٍ أخر فإن أبغضها الرجل الأخير الّذي اتّخذها له زوجة ، لا يقدر زوجها الأوّل الّذي طلّقها أن يعود يأخذها لتصير له زوجةً بعد أن تنجّست لأنّ ذلك رِجسٌ لدى الربّ . ] ولعلّك تقول ما لنا والتوراة ونحن مسلمون وعندنا القرآن ؟ أقول في جوابك : أليست الشرائع السماويّة واحدة ؟ ألم يقل الله تعالى في سورة النساء {يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الّذينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } ؟

231 - (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء ) التطليقة الأولى (فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ) من العِدّة ، يعني وقاربت العِدّة أن تنتهي (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ) إن أردتم إرجاعهنّ (أَوْ سَرِّحُوهُنَّ ) إلى أهلهنّ (بِمَعْرُوفٍ) إن أصررتم على مُفارقتهنّ (وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لَّتَعْتَدُواْ ) عليهنّ ، يعني لا ترجعْها لغايةٍ وهي الإضرار بها فتأخذ مالَها ثمّ تطلّقها مرّة ثانية ، أو تريد أن تعتدي عليها بالضرب والسبّ والإهانة ، أو لغير ذلك من الأذى ثمّ تطلّقها (وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ) لأنّهُ عرّضها لعذاب الله وسخطهِ (وَلاَ تَتَّخِذُوَاْ آيَاتِ اللّهِ هُزُوًا ) يعني لا تتّخذوا هذه التعاليم الّتي أنزلها الله عليكم في القرآن هزواً غير مُبالين بها (وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ ) إذ كنتم مشركين فهداكم إلى الإسلام وأنعمَ عليكم هذه النِعم (وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ ) يعني واذكروا أيضاً نِعمة الله إذ أنزل عليكم كتاباً من الكتُب السماويّة وفيه هذه الأحكام والمواعظ (يَعِظُكُم بِهِ ) أي بالكتاب ، وهو القرآن (وَاتَّقُواْ اللّهَ ) في أوامره ولا تخالفوها (وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) فلا يفوته شيء من أعمالكم .

------------------------------------
<<الصفحة السابقة الصفحة الرئيسة الصفحة التالية>>



كتاب الكون والقرآن ..تفسير الظواهر الكونية في القرآن الكريم، ووصف دقيق لأحداث القيامة كتاب المتشابه من القرآن تفسير الآيات الغامضة في القرآن الكريم والتي ظلت غامضة منذ 1400عام كتاب حقائق التأويل في الوحي والتنزيل: التفسير الكامل للأيات القرانية بضمنها الايات المتشابهة والغامضة
كتاب الإنسان بعد الموت: وصف دقيق لحال الأنسان بعد الموت وتكوين الجنان وجهنم والملائكة والشياطين. كتاب ساعة قضيتها مع الأرواح: رحلة في عالم الأرواح مدتها ساعة زمنية كتاب الخلاف بين التوراة والقرآن: يوضح من زور التوراة وفي أي عصر والأخطاء الواضحة فيها ومقارنتها بالقرآن الكريم