كتاب: حقائق التأويل في الوحي والتنزيل بقلم: محمد علي حسن الحلي (رحمه الله تعالى) توزيع: دار الكتب العلمية (بيروت) الوصف: تفسير الايات القرآنية كاملة اضافة الى الايات الغامضة |
|
||
256 - دعا النبيّ (ع) بعض قريش إلى الإسلام فقالوا إنّ أبا لهب وأبا جهل يمنعوننا من الإيمان بك ونخاف أن يؤذونا ويأخذوا أموالنا إن اتّبعناك . وذلك معنى قوله تعالى في سورة القصص {وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا } ، فنزلت هذه الآية ردّاً على قولهم (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ) أي لا حقّ ولا سُلطةَ لأحدٍ أن يُجبركم على الإقامةِ في دينكم (قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ) يعني بعدما تبيّن لكم الرُشدُ في دين الإسلام والغواية في دِينكم دِين الكفر والإشراك . فالرُشد نقيض الغيّ ، ومن ذلك قول الشاعر :
فمَنْ يَلْقَ خَيراً يَحمَدِ الناسُ أمْـرَهُ ومَنْ يَغْوِ لا يَعْدَمْ علَى الغَيِّ لائِمَا
(فَمَنْ يَكْفُرْ ) منكم (بِالطَّاغُوتِ) أي يكفر بالرجُل الطاغي المتكبّر ، وجمعه طواغيت وطواغي ، ومن ذلك قول حسّان بن ثابت الأنصاري يُجيب هُبيرة بن أبي وهب المخزومي :
أنتم أحابِيشُ جُمِّعْتُمْ بلا نسَبٍ أَئِمَّةُ الكُفْرِ غرّتْكُمْ طَوَاغِيهَا
يريد بذلك أبا جهل ، يعني يكفر به ولا يمتثل أمره (وَيُؤْمِن بِاللّهِ ) وحدهُ فلا يجعل لهُ شريكاً في العبادة (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ ) أي فقد طلبَ التمسّك بالعروة الوثيقة الّتي لا تنفصم ، أي لا تنقطع . جمع عُروة عُرى ، ومن ذلك قول حسّان بن ثابت :
يَشُدُّ العُرى مِنها عَلى ظَهرِ جَونَةٍ عَسيرِ القِيادِ ما تَكادُ تَصَرَّفُ
هذا مثَل لمن ينجو من هَلَكة ، يعني كالغريق في البحر ورأى سفينة مُقبلة عليه وفيها عُرى مُدلّاة من السفينة فتمسّك بإحداهُنّ وكانت قويّة متينة لا تنفصم فنجَى بها من الغرق . فكذلك من تمسّك بدين الإسلام ينجو من جهنّم ويصير إلى الجنّة ، وذلك قوله تعالى (لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ ) لأقوالكم (عَلِيمٌ) بنواياكم أيّها الكافرون .
257 - (اللّهُ وَلِيُّ الّذينَ آمَنُواْ ) يعني هو يتولّى رعايتهم (يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ ) يعني يخرجهم من ظلمات الجهل إلى نور العِلم ومن ظلمات الضلال إلى نور الحقّ ، وذلك بهدايتهم إلى دين الإسلام (وَالّذينَ كَفَرُواْ ) بالقرآن (أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ ) يعني يتولّى أمرهم رؤساؤهم الطاغون على الله المتكبّرون على رسوله (يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ) يعني يخرجونهم من نور العلم والهداية الّتي جاءَ بها محمّد إلى ظلمات الجهل والضلال بدعواهم إلى دِينهم (أُوْلَـئِكَ) الرؤساء والمرؤوسين (أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) أي مخلّدون إلى الأبد .
258 - (أَلَمْ تَرَ إِلَى ) تقديره ألم تنظر إلى قِصّة النمرود فتفكّر فيها وتتعجّب من حماقتهِ إذ ادّعى الربوبيّة ، فكلمة " تَرَ" مُشتقّة من الرأي وهو العلم والفكر ، وهو نمرود بن كوش بن حام بن نوح أوّل من تجبّر وادّعى الربوبيّة (راجع سِفر التكوين من مجموعة التوراة الإصحاح العاشر) ، وهو صاحب الصرح ببابل وموقعهُ قرب مدينة الحلّة (الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ ) أي جادلهُ في ربّه (أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ ) يعني حين آتاهُ الله الملْك في الأرض ، فحمله الملْك على الطغيان والتكبّر حتّى ادّعى الربوبيّة (إِذْ) قال لإبراهيم مَن ربّك ؟ (قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ ) النمرود (أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ ) أي فقال النمرود أنا اُحيي بالتخلية من السجن مَن وجبَ عليه القتل واُميت بالقتل مَن شئتُ مِمّن هو حيّ (قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ ) إن كنتَ صادقاً فيما تدّعيه (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ) أي فتحيّر النمرود في جوابهِ (وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) إلى طريق الحقّ ولا يهديهم إلى المجادلة بل الشيطان يدعوهم إلى الباطل ويُلقّنهم كلمات الكُفر والضلال .
259 - لَمّا ذكرَ سُبحانهُ في الآية السابقة مجادَلة النمرود مع إبراهيم الخليل عقّبها بمجادَلة عِزريا مع النبيّ إرميا فقال تعالى (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ ) أي جاء من قرية اُخرى كان يسكنها فمرّ بطريقهِ على قرية خاوية ، وهو عزريا بن هوشعيا ، راجِع سِفر إرميا الإصحاح الثالث والأربعين [وهذا غير عزرا بن سرايا الذي كتب التوراة بعد تمزيقها ] ، والقرية هي بيت المقدس (وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا ) أي متهدّمة ، ومن ذلك قول الأعشى :
يَا مَنْ يَرى (رَيْمَانَ) أمْـ *** سَى خاوِياً خَرِباً كِعابُهْ
و"ريمان" قصرٌ مشهور استولت عليه الفُرس فخرّبتهُ . لأنّ نبوخذنصر هدّم أورشليم ، فجاء عزريا مع جمع من اليهود من نواحي بيت المقدس ليذهبوا إلى مصر خوفاً من الكلدانيّين فمرّوا ببيت المقدس وهي مُتهدّمة ، فسألوا النبيّ إرميا قائلين : " أنذهب إلى مصر أم نقيم في بيت المقدس؟" فقال لهم : "لا تذهبوا إلى مصر بل ابقوا هنا والله تعالى يجمعكم بعد التشتيت ويعمّر هذه القرية بعد خرابِها" (قَالَ ) عزريا مُستنكراً ذلك (أَنَّىَ يُحْيِـي هَـَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ) أي كيف تعمر هذه القرية بعد خرابها ، وكيف يجتمع بنو إسرائيل بعد القتل والتشتيت فهذا لا يمكن ، فإنّنا لا نبقى هنا بل نذهب إلى مصر .
فلمّا ساروا تاهَ عزريا في منتصف الطريق فلجأ إلى كهف كان في طريقه فدخلهُ هو وحماره ونامَ ليلتهُ في الكهف فانحدرت صخرة كبيرة من الجبل وسدّت باب الكهف فمات عزريا في مكانه ومات حماره أيضاً فتبدّدت أوصالهما وتناثرَ لحمهما داخل الكهف ، وبعد مائة سنة خلق الله تعالى جسم عزريا من تلك الرمم البالية وكذلك خلق جسم حماره في ذلك الكهف 128 ولكن تمّ خلق جسم عزريا قبل حماره فبعث الله فيه الروح فقام حيّاً ، وتفطّرت الصخرة وسقطت عن باب الكهف ، فبعث الله تعالى ملَكاً على صورةِ إنسان يسأله فقال له : "كم لبثت في هذا الكهف؟ " قال عزريا : "يوماً أو بعض يوم" ، لأنّه ظنّ أنّه كان نائماً فاستيقظ ، فقال الملَك : "بل لبثتَ مائةَ عام" ، فقال عزريا : "ما الدليل على ذلك؟ " قال : " اُنظُرْ إلى حمارك في دور التكوين بارزاً عن الأرض مخلوقاً من الطين وانظُرْ إلى العظام كيف نُنشزها عن الطين ، أي كيف نرفعها من التراب الرطِب ، ونجعلها حماراً ثمّ نكسوها لحماً من ذلك الطين بالتدريج ثمّ نتمّم خلقهُ فيكون حماراً كاملاً. "
فصار عزريا ينظر إلى حماره وهو ممدود في الطين في دور التكوين فلمّا تمّ خلقه نهض من الأرض وقام ، فحينئذٍ قال عِزريا : أعلمُ أنّ الله على كلّ شيءٍ قدير.
التفسير :
(فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ) في ذلك الكهف (ثُمَّ بَعَثَهُ ) ، أي بعث النفس إلى الجسم بعد إعادتهِ إلى الحياة ، فبعث الله ملَكاً يسأله (قَالَ) الملَك لعزريا (كَمْ لَبِثْتَ ) في هذا الكهف (قَالَ) عِزِريا (لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ ) الملَك (بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ ) لم يَنتنّ (وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ) أي لم يَتغيّر مع كثرة السنين (وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ ) في دور التكوين كيف يقوم من الطين الناشف (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ ) ليستدلّوا على قدرة الله (وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ ) التي لحمارك المتكوِّنة من تراب رَطِب (كَيْفَ نُنشِزُهَا ) أي كيف نرفعها ونجعلها على هيئة حمار (ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا ) بالتدريج من ذلك التراب الرطب (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ ) أي تبيّن لعزريا وشاهد بعينهِ إحياءَ حماره (قَالَ أَعْلَمُ ) أي أتيقّن (أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) . فلمّا رجع إلى بيت المقدس وجدها عامرة بالبناء وآهلة بالسكّان . فإن شئت زيادة إيضاح على خلق الأجسام من التراب فاقرأ كتابي الرد على الملحدين تحت عنوان رأي العين .
كتاب الكون والقرآن ..تفسير الظواهر الكونية في القرآن الكريم، ووصف دقيق لأحداث القيامة | كتاب المتشابه من القرآن تفسير الآيات الغامضة في القرآن الكريم والتي ظلت غامضة منذ 1400عام | كتاب حقائق التأويل في الوحي والتنزيل: التفسير الكامل للأيات القرانية بضمنها الايات المتشابهة والغامضة |
كتاب الإنسان بعد الموت: وصف دقيق لحال الأنسان بعد الموت وتكوين الجنان وجهنم والملائكة والشياطين. | كتاب ساعة قضيتها مع الأرواح: رحلة في عالم الأرواح مدتها ساعة زمنية | كتاب الخلاف بين التوراة والقرآن: يوضح من زور التوراة وفي أي عصر والأخطاء الواضحة فيها ومقارنتها بالقرآن الكريم |