كتاب: حقائق التأويل في الوحي والتنزيل بقلم: محمد علي حسن الحلي (رحمه الله تعالى) توزيع: دار الكتب العلمية (بيروت) الوصف: تفسير الايات القرآنية كاملة اضافة الى الايات الغامضة |
|
||
52 - ولَمّا طعنَ المشركون في فقراء المسلمين وطلبوا من النبيّ أن يطردهم ليُجالسوهُ ، نزل قوله تعالى (وَلاَ تَطْرُدِ الّذينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ) يعني يذكرون الله في الصباحِ والمساءِ ، والمعنى : يدعونهُ ويذكرونهُ على الدوام ، لأنّ هذه الجُملة مُستعمَلة عند العرب وهي تعبيرٌ عن الدوام (يُرِيدُونَ) بذلك الدعاء (وَجْهَهُ) أي جهتهُ ، يعني يريدون الجنّة الّتي هي في السماء في جهة الله تحت عرشهِ فيكونوا بجواره ، فكلمة "وجه" يُراد بها الجهة وهيَ مُستعملة عند العرب ، والشاهد على ذلك قول اُميّة بن أبي الصّلت :
إذا اكْتَسَبَ المالَ الفَتَى مِنْ وُجُوهِهِ وأَحْسَنَ تَدْبِيْراً لَهُ حِيْنَ يَجْمَعُ
وقال عنترة :
فما تَرَكْتُ لهمْ وَجْهاً لِمُنْهَزِمٍ ولا طريقاً يُنجِّيهِمْ منَ العَطَبِ
(مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ ) إن كان باطنهم غير مُرضٍ ، لأنّ مشركي قريش قالوا للنبيّ : "ما تبعك هؤلاء إلاّ لفقرهم واحتياجهم إلى مواساتك ولكنّهم غير مؤمنين بك إيماناً صادقاً " ، فلا تسمع لقول المشركين (فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ) لهم .
53 - (وَكَذَلِكَ) أي كما فتنّا مَن قبلهم كذلك قريش (فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ ) أي فتنّا الأغنياء منهم بالفقراء ، و"الفتنة" هي البليّة والمشكلة والاختبار ، ومن ذلك قول عنترة :
يا عبلَ كمْ فِتْنَةٍ بُلِيتُ بِها وخُضتُها بالمهنّدِ الذَّكَرِ
(لِّيَقُولواْ) الأغنياء حين تنكشف لهم عن الحقيقة وذلك بعد مماتهم أو في حياتهم بعد فوات الوقت (أَهَـؤُلاء) الفقراء (مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم ) بالإسلام (مِّن بَيْنِنَا ) فسبقونا إليهِ ؟ فيجيبهم الملَك الموكّل بتعذيبهم فيقول (أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ) فهداهم إلى طريق الإسلام فأسلَموا .
54 - ثمّ أمرَ الله رسوله أن يبدأهم بالسلام كلّما رآهم إكراماً لهم فقال تعالى (وَإِذَا جَاءكَ الّذينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا ) أي بالقرآن (فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ ) في اللّوح المحفوظ (عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) لكم ، يعني تعهّد الله سبحانهُ بأن يرحمهم في الآخرة ولا يُعذّبهم ولو صدرَ منهم ذنب فقال تعالى (أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ ) أي من بعد السوء الّذي عملهُ (وَأَصْلَحَ) أعماله (فَأَنَّهُ) أي الله تعالى (غَفُورٌ) للتائبين (رَّحِيمٌ) بالنادمين .
55 - (وَكَذَلِكَ) أي كما ضربنا لهم الأمثال كذلك (نفَصِّلُ) لك (الآيَاتِ) بعد الإيجاز لتعلم أخبار الماضين (وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ) أي وليتبيّنَ لك طريق المجرِمين الّذي هم فيهِ سائرون
56 - (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ ) الملائكة (الّذينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ ) وتجعلونهم شُفعاء عند الله (قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ ) فيما تدّعون (قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا ) إن اتّبعتُ أهواءكم (وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ ) لأنّ عبادة المخلوقين إشراك بالله .
57 - (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي ) بما جاءني من الوحي وما أعطاني من كتاب (وَكَذَّبْتُم بِهِ ) أي بالقرآن (مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ ) من العذاب (إِنِ الْحُكْمُ ) في ذلك (إِلاَّ لِلّهِ ) يعني ما الحُكمُ في إنزال العذاب عليكم إلاّ لله وليس لي (يَقُصُّ الْحَقَّ ) علينا بكتابهِ ووحيهِ ويفصلُ بيننا بحُكمهِ (وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ) يوم القيامة .
58 - (قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ ) من العذاب (لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ) بأن اُنزِل العذاب عليكم وأستريح من شرِّكم ولكن ليس ذلك بيدي (وَاللّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ ) ولكن يُمهلهم لمصلحةٍ لا تعلمها .
59 - كانت قريش تحيك المؤامرات ضدّ النبيّ (ع) وتريد الفتك بهِ ، وكان اللهُ تعالى يُخبرهُ بذلك فيأخذ الحذر منهم ، فقال بعضهم لبعض : "مَن أخبر محمّداً بما أضمرناهُ لهُ فهل محمّد يعلم الغيب أم أنّ أحداً من قريش يُخبرهُ بذلك فيأخذ الحذر؟ " فنزلت هذه الآية (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ ) أي عند الله أنباء الغيب وكشفها ، فكلمة "فتح" معناها كشف عن مُستقبل ، وجمعها "مفاتِح" ، والشاهد على ذلك قوله تعالى في سورة البقرة {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الّذينَ كَفَرُواْ } أي كان اليهود يُنبئون المشركين من العرب ويكشفون لهم عن نبيٍّ يخرج من أرضهم وبلادهم . وقوله (لاَ يَعْلَمُهَا ) أحدٌ من الناس (إِلاَّ هُوَ ) يعلمها فيخبر بها رسوله ويكشف لهُ عن أسرارهم ليأخذ الحذر (وَيَعْلَمُ) أيضاً (مَا فِي الْبَرِّ ) من مخلوقات برّية (وَالْبَحْرِ) من مخلوقات بحريّة (وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ ) من الأشجار (إِلاَّ يَعْلَمُهَا ) فهو يُحصي أعمالكم والملائكة تكتبها (وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) يعني مهما عملتم من صغيرة أو كبيرة تُكتَب في صحائف أعمالكم ويتبيّن لكم ذلك في الآخرة . ونظيرها في سورة سبأ قوله تعالى {عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } .
60 - (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللّيل ) أي يقبض نفوسكم وقت النوم ثمّ يُعيدها إلى أجسادها وقت اليقظة (وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ) يعني ما كسبتم من سيّئات بالجوارح ، وأهمّ جارحة في الإنسان هي اللّسان ، أي يعلمُ ما جرحتم من عواطف بريئة ، وبعبارة اُخرى : ويعلمُ ما تكلّمتم على المؤمنين من غيبةٍ ونميمة ، والخطاب للمشركين (ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ ) أي يبعثكم من نومكم في النهار (لِيُقْضَى) لكم (أَجَلٌ مُّسَمًّى ) أي وقت مُعيّن ، وهي أعماركم فيها إلى وقتِ آجالكم (ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ) بعد موتكم ، يعني إلى عالم النفوس يكون مرجعكم (ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) من أعمال باطلة وعادات سيّئة . والدليل على أنّهُ خطاب للمشركين قوله تعالى (ثُمَّ يُنَبِّئُكُم ) فالتَنبِيء [أو الإنباء] للكافرين والمشركين ، والحساب والجزاء للموحّدين المذنِبين . وملخّص الآية يقول الله تعالى لا تظنّوا أيّها المشركون أنّ الله غافل عن أعمالكم أو لا يقدر على إماتتكم فإنّ أرواحكم في قبضتهِ وقت نومكم فلو شاء لأماتكم ولكن لا يفعل ذلك حتّى تنتهي آجالكم فيعاقبكم بعد موتكم على ما كسبتم من ظُلمٍ وكفرٍ ونفاق .
------------------------------------كتاب الكون والقرآن ..تفسير الظواهر الكونية في القرآن الكريم، ووصف دقيق لأحداث القيامة | كتاب المتشابه من القرآن تفسير الآيات الغامضة في القرآن الكريم والتي ظلت غامضة منذ 1400عام | كتاب حقائق التأويل في الوحي والتنزيل: التفسير الكامل للأيات القرانية بضمنها الايات المتشابهة والغامضة |
كتاب الإنسان بعد الموت: وصف دقيق لحال الأنسان بعد الموت وتكوين الجنان وجهنم والملائكة والشياطين. | كتاب ساعة قضيتها مع الأرواح: رحلة في عالم الأرواح مدتها ساعة زمنية | كتاب الخلاف بين التوراة والقرآن: يوضح من زور التوراة وفي أي عصر والأخطاء الواضحة فيها ومقارنتها بالقرآن الكريم |