كتاب: حقائق التأويل في الوحي والتنزيل بقلم: محمد علي حسن الحلي (رحمه الله تعالى) توزيع: دار الكتب العلمية (بيروت) الوصف: تفسير الايات القرآنية كاملة اضافة الى الايات الغامضة |
|
||
61 - (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ ) قهرِ (عِبَادِهِ) يعني كلّ من يقهر المساكين والضُعفاء فالله يقهرهُ (وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً ) من الملائكة تحفظ عليكم أعمالكم وتكتبُ أقوالكم (حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ) أي أسباب الموت (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ) أي قَبَضَتْهُ وأخذَتهُ رُسُلنا ، وهم الملائكة الّذينَ أرسلهم ليكونوا عليهِ حفظةً ، وإنّما قال تعالى (تَوَفَّتْهُ) ولم يقل توفّت روحه ، لأنّ النفس الروحانيّة هي الإنسان الحقيقي وما الجسم إلاّ قالب تكوّنت فيهِ النفس ونَشَأت (وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ) أي لا يُضيّعون من أعماله شيئاً بل يحتفظون بها ، ولا يضيّعون من حقّه شيئاً فإن كان مُحسناً رافقوهُ في الآخرة وعاملوهُ بالإحسان ، وإن كان مُسيئاً تركوه وعاملوه بالهجران وإن كان كافراً ضربوه وعذّبوه .
62 - (ثُمَّ رُدُّواْ ) الملائكة ، أي رجعوا بعد أن أكملوا أعمالهم مع المتوفّى ، ردّوا (إِلَى اللّهِ ) يعني إلى جواره إلى السماوات الأثيريّة (مَوْلاَهُمُ) أي سيّدهم (الْحَقِّ) أي الّذي يحكمُ بالحقّ فلا يظلم أحداً (أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ ) في جميع ذلك وليس للملائكة شأن فيه (وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ) أي أسرع المجازين على الأعمال والأفعال . فالإنسان عند انتقاله من الدنيا إلى الآخرة بسبب الموت يلقى جزاءهُ فإن كان مُحسناً جُوزيَ بالإحسان وإن كان مُسيئاً استولى عليهِ الشيطان فيُعذّبُ ويُهان .
63 - (قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ) إذا تِهتُم فيهما أو أصابتكم شِدّة في إحداهما . الظُلمة كناية عن الشِّدّة ، تقول العرب لليوم الّذي تلقى فيهِ شِدّة "يومٌ مُظلم" حتّى أنّهم يقولون "يومٌ ذو كواكب" أي قد اشتدّت ظُلمتهُ حتّى صار كاللّيل ، وأنشد شاعرهم :
بَنِي أَسَدٍ هَلْ تَعْلَمُون بَلاءَنا إذا كانَ يَوْماً ذا كَواكِبَ أشْنَعا
(تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً ) أي مُتضرّعين جهراً (وَخُفْيَةً) يعني جهراً وسِرّاً ، قائلين (لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَـذِهِ ) الشِّدّة (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ) لنعمائك علينا .
64 - (قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ) أصابكم غيرها (ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ ) بهِ ولا توحّدونهُ في العبادة . وقد جرت هذه العادات اليوم في المسلمين وانطبقت فيهم هذه الآية فترى أكثرهم يعبدون قبور المشايخ والأئمّة والأنبياء ويُقدّسونها وينذرون لها ويتبرّكون بتربة تلك القبور ويُقبّلون جُدران الأضرحة ، ولكن إذا أصابتهم شِدّة تضرّعوا إلى الله فيكشف ما بهم من ضُرٍّ فإذا زال الخوف عنهم عادوا إلى إشراكهم .
65 - (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ ) أيّها المشركون ، وذلك كالصواعق والشهُب والنيازك والمذنبّات والأعاصير والحرّ والبرد فيُهلككم بإحداها (أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ) وذلك كالخسف والزلزال والبُركان والغرَق بمياه البحر والميكروبات الّتي على وجه الأرض فيهلككم بواحدةٍ منها (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً ) يعني أو يجعل الأمر مُلتبساً عليكم فتصبحون شيَعاً ، يعني فِرقاً وأحزاباً مُتضادّة فتقع العداوة بينكم (وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ ) بالقتال الّذي ينشب فيما بينكم نتيجة العداوة (انظُرْ) يا محمّد (كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ) أي نُبيّنها ونكرّرها على شكل أمثال ومواعظ وإنذارات (لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ) أي لكي يعلموا الحقيقة وتزول عنهم الشبهة والشكّ .
66 - لَمّا أنذرهم بالعذاب في الآية السابقة كذّبوا بهِ وسخروا ، فنزل قوله تعالى (وَكَذَّبَ بِهِ ) أي بالعذاب (قَوْمُكَ) يا محمّد كما كذّبت اُمَمٌ من قبلهم (وَهُوَ الْحَقُّ ) أي وهو مُصيبهم لا محالة (قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ ) أي بحفيظ ، والمعنى : قل لهم إذا حلّ العذاب بكم فلا أقدر حينئذٍ على رفعهِ ولا دفعهِ عنكم فماذا يكون حينئذٍ مصيركم؟
67 - (لِّكُلِّ نَبَإٍ ) أي لكلّ خبرٍ أخبرناكم عنه (مُّسْتَقَرٌّ) يعني وقتٌ يستقرّ العذاب عندكم ويدوم عليكم (وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) ذلك حين وقوعه .
68 - (وَإِذَا رَأَيْتَ الّذينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا ) بالتكذيب لها والاستهزاء بها (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ) ولا تكلّمهم بأمر الدين والدعوة (حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ) من أمر الدنيا (وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ ) أي يُنسيك إتمام حديثك مع من تُكلّمهم من قريش ، ويريد به شيطان الإنس وهو أبو جهل جاء والنبيّ جالس مع جماعة من قريش يُحدّثهم ويدعوهم إلى الإسلام وإلى عبادة الله ، فلمّا رآه أبو جهل أخذَ في تأنيبهِ وإهانتهِ فسكتَ النبيّ عن حديثهِ ، فهذا معنى قوله تعالى (فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى ) "الذِكر" معناه الموعظة ، والمعنى : فلا تقعد معهم بعد أن وعظتهم وذكّرتهم بعقاب الله (مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) الّذينَ يظلمون الناس ويسلبون حقّهم .
69 - لَمّا نزلت الآية السابقة الذِكر قال المسلمون وكيف بنا إذا دخلنا البيت أو طُفنا حول الكعبة والمشركون هناك يتحدثون ويخوضون في آيات القرآن ؟ فنزلت هذه الآية (وَمَا عَلَى الّذينَ يَتَّقُونَ ) أي يتجنّبون استهزاءهم ويبتعدون عنهم ، ما عليهم (مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ ) أي ما على المؤمنين من عقاب المشركين من شيء ، فكلٌّ يؤاخذ بذنبه (وَلَـكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) يعني ولكن تذكيراً لهم لعلّهم يتجنّبون مجالسهم والاقتراب منهم حين استهزائهم بالقرآن .
70 - (وَذَرِ الّذينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ) ويريد بذلك المشركين ، والمعنى : اُتركهم ولا تخاطبْهم مرّةً اُخرى لأنّ الكلام لا يفيد معهم (وَذَكِّرْ بِهِ ) أي بالقرآن ، يعني عِظْ وأنذرْ بهِ غيرهم ، يعني : اُدعُ الناس إلى الإيمان مرّة واحدة فمن أسلم وآمن فلنفسه ومن عاند وجحد رسالتك اُتركه وادعُ غيره وسيلقى عقابه بعد موته (أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ ) من الآثام ، يعني ذكّرهم بالقرآن لئلاّ تُبسل نفسٌ من بين النفوس وتؤخذ إلى جهنّم ، أي تُعزل من بين النفوس ، والشاهد على ذلك قول كعب بن زُهير :
إذا غَلَبَتْهُ الكَأْسُ لا مُتَعَبِّسٌ حَصُورٌ ولا مِنْ دونِها يَتَبَسَّلُ
يعني ولا ينعزل وحده عنها ، وقال زُهير بن أبي سلمى :
بلادٌ بها نادَمْتُهُمْ وألِفْتُهُمْ فإنْ تُقْوِيَا مِنْهُمْ فإنّهُما بَسْلُ
يعني فإن فرغت منهم تلك البقاع تبقى غير صالحة للسُكنى ولذلك انعزلوا عنها وارتحلوا منها ، وقال الأعشى :
أجارَتُكُمْ بَسْلٌ علَينا مُحَرَّمٌ وجارَتُنا حِلٌّ لكمْ وحَلِيلُهَا
وقالت الخنساء :
مِنَ القَـومِ مَغشِـيُّ الـرِواقِ كَأَنَّـهُ إِذا سيـمَ ضَيمـاً خـادِرٌ مُتَبَـسِّـلُ
أي مُنعزل عن الناس ، والخادر الّذي اتّخذ الأجمّةَ خِدراً وانعزل عن الناس ، ولاتزال هذه الكلمة مُستعملة عندنا في العراق لتفريق نوعين من الفواكه أو الحبوب على أن يكون أحدها قليلاً والآخر أكثر ، أو يكون أحدهما جيّداً والآخر رديئاً فيقول لصاحبهِ إبسِل البرتقال عن اللّيمون ، أو يقول إبسِل التفّاح ، أي إعزل الجيّد من الرديء ، فالجيّد المعزول يُقال له "مبسول" أمّا الرديء فيُقال له "بسالة" ، وقد قلتُ في كتابي الإنسان بعد الموت أنّ دخول جهنّم في عالم البرزخ خاصّ للأمّة الّتي كذّبت رسولها مواجهةً وليس لجميع الكافرين ، أمّا الآخرون فدخولهم فيها يكون يوم القيامة ، فإنّ الله تعالى يأمر ملائكة العذاب أن تلتقط هؤلاء المكذّبين من بين النفوس واحداً بعد الآخر وتغلّل أيديهم بسلاسل من حديد وتأخذهم إلى جهنّم . والشاهد على ذلك قوله تعالى في سورة الحاقّة {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ . ثمّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ . ثمّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ } .
فإن قال أحد الملحدين : أين تكون جهنّم ، ولم لا نراها لو كانت موجودة؟ أقول : يراها كلّ إنسان ولكن لا يعرفها ، فجهنّم الأرض هي البراكين ، وجهنّم الفضاء هي الشمس الحاليّة ، وجهنّم هي سقر وهي أكبر من شمسنا الحاليّة باضعاف ، ولذلك قال الله تعالى عنها في سورة المدثر {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ } أي إحدى الشموس الكبيرات الأحجام ، وقال تعالى في نفس السورة {لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ } أي تلوح للناس من بعيد فيرونها كنجمة تضيء في اللّيل .
وقوله (لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ وَلِيٌّ ) يتولّى أمر تلك النفس المكذّبة ويدافع عنها (وَلاَ شَفِيعٌ ) يشفع لها ويُخلّصها من العذاب (وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا ) يعني وإن تعادل آثامها بكلّ شيء ثمين من مال الدنيا وتفدي بهِ لكي تنجو من العذاب فلا يُقبَل منها ، والمعنى : لا يدفع عنها العذاب وليٌّ ولا شفيع ولا مال (أُوْلَـئِكَ الّذينَ أُبْسِلُواْ ) أي عُزِلوا من بين النفوس الكافرة وأُخِذوا إلى جهنّم (بِمَا كَسَبُواْ ) من آثام وتكذيب الرُسُل (لَهُمْ) في جهنّم (شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ ) أي ساخن ، ومن ذلك قول امرئ القيس يصف فتاة :
إذا مَا اسْتَحمَّتْ كَانَ فَضْلُ حمَيمِهَا عَلى مَتنَتيْهَا ، كَالجُمَانِ لدى الجَالي
(وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ) .
كتاب الكون والقرآن ..تفسير الظواهر الكونية في القرآن الكريم، ووصف دقيق لأحداث القيامة | كتاب المتشابه من القرآن تفسير الآيات الغامضة في القرآن الكريم والتي ظلت غامضة منذ 1400عام | كتاب حقائق التأويل في الوحي والتنزيل: التفسير الكامل للأيات القرانية بضمنها الايات المتشابهة والغامضة |
كتاب الإنسان بعد الموت: وصف دقيق لحال الأنسان بعد الموت وتكوين الجنان وجهنم والملائكة والشياطين. | كتاب ساعة قضيتها مع الأرواح: رحلة في عالم الأرواح مدتها ساعة زمنية | كتاب الخلاف بين التوراة والقرآن: يوضح من زور التوراة وفي أي عصر والأخطاء الواضحة فيها ومقارنتها بالقرآن الكريم |