كتاب: حقائق التأويل في الوحي والتنزيل

بقلم: محمد علي حسن الحلي (رحمه الله تعالى)

توزيع: دار الكتب العلمية (بيروت)

الوصف: تفسير الايات القرآنية كاملة اضافة الى الايات الغامضة

فهرس الآيات , البحث في القرآن الكريم

تفسير سورة الأنبياء من الآية( 95) من كتاب حقائق التأويل في الوحي والتنزيل   بقلم محمد علي حسن الحلي (رحمه الله تعالى) : 

95 - (وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ) يعني حرّمنا على من سَلِمَ من قريةٍ أهلكناها بعذاب الاستئصال أن يرجعوا إليها بل نُسقط عليهم حجارة من السماء فنهلكهم كما أهلكنا قوم لوط بالحجارة ، وهم الّذينَ لم يكونوا حاضرين في تلك القُرى حين أخذهم الزلزال ، أو نُبعدهم عن قُراهم بأن نُسلّط عليهم أعداءهم فيأخذوهم أسرى كما سلّطنا ملِك بابل على بني إسرائيل فأخذَ من بَقِيَ منهم بعد القتل أسرى إلى بابل في العراق .

والمعنى : حرّمنا على أهل تلك القرى الرجوع إليها بعد أن أخرجناهم منها ، وحرامٌ عليهم بناؤها بعد خرابها واجتماعهم فيها بعد تفرّقهم منها . ومن جملة القرى فلسطين واليهود ، وذلك حين هدّمها نبوخذنصّر وقتل من فيها من ا ليهود وأخذ الباقين أسرى إلى العراق إلى أرض بابل ، وبعضهم هربوا إلى مصر ، فبقوا مُشرّدين مُتفرّقين في البلاد أكثر من سبعين سنة ، ثمّ رجعَ أولادهم ومن بقيَ منهم وأخذوا في بناء بيت المقدس وبناء أسوار المدينة وما تهدّم منها .

96 - (حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ ) بلاد (يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ ) على يد إسكندر المقدوني فحينئذٍ تمّ اجتماعهم في فلسطين وذلك بعد أن سباهم نبوخذنصّر إلى بابل ، وتمّ بناء ما تهدّم منها وصارت لهم سُلطة دينيّة ومدنيّة بسبب الإسكندر وتسليمهم لهُ ، وذلك في سنة 332 ق م ، راجع كتاب اليهوديّة العالميّة للدكتور رياض بارودي ص 29 ، (وَهُم) أي اليهود (مِّن كُلِّ حَدَبٍ ) من الأرض (يَنسِلُونَ) ويرجعون إلى فلسطين في ذلك الحين ، يعني في ذلك التاريخ تمّ اجتماعهم وصارت لهم سُلطة . فكلمة "ينسلون" معناها ينسحبون أفراداً وجماعات ،
ومن ذلك قول عنترة :

                              للهِ دَرُّ بَنِي عَبْسٍ لَقَدْ نَسَلُوا      مِنَ الأكارِمِ ما قَدْ تَنْسِلُ العَرَبُ

و"الحدَب" كلّ ما ارتفعَ من الأرض ، ومن ذلك قول لبيد يصف حمار وحش مع اُنثاهُ :

                             يَعْلُو بها حُدْبُ الإكامِ مُسَحَّجٌ      قَد رَابَهُ عِصْيَانُهَا وَوِحَامُهَا

وقال جرير يصف سفينة وربّانها :

                         يُلقِي صَرارِيُّهُ والموجُ ذو حَدَبٍ      يُلْقُونَ بِزَّتَهُمْ إلا التّبَابِينَا

مفردها تبّان وهو اللّباس القصير .

97 - (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ ) الّذي وعدناهم بهِ من العذاب باقتراب آجالهم (فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الّذينَ كَفَرُوا ) ينظرون إلى ملَك الموت يقولون (يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا ) الّذي نراهُ اليوم في عالم النفوس (بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ ) إذ كذّبنا الرُسُل وأشركنا بعبادة ربّنا . فيقال لهم :

98 - ­(إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ) من تماثيل (حَصَبُ جَهَنَّمَ ) أي تكون تلك التماثيل حصَى لجهنّم (أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ) أيّها الكافرون المكذّبون .

99 - (لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ ) التماثيل (آلِهَةً) كما تزعمون (مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ ) أنتم وتماثيلكم .

100 - (لَهُمْ فِيهَا ) أي في جهنّم (زَفِيرٌ) وهو صوت غليانها واشتعالها (وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ ) وذلك لشدّة أصوات الغليان وتدفّق الغازات .

101 - ولَمّا نزلت هذه الآية أتَى عبد الله بن الزبعري إلى النبيّ (ع) فقال يا محمّد ألستَ تقول أنّ عيسى نبيّ ورجلٌ صالح وأنّ مريم امرأة صالحة؟ قال بلى ، قال فإنّ هؤلاء يُعبَدون من دون الله فهل هم في النار ؟ فقال لهُ : ما أجهلك بلغةِ قومك ، فإنّ الله تعالى قال (مَا تَعْبُدُونَ ) ولم يقل مَن تعبدون ، ثمّ نزلت هذه الآية (إِنَّ الّذينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا ) الكلمة (الْحُسْنَى) بأن وعدناهم بنعيم الجنّة (أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ) أي عن النار مبعدون .

102 - (لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا ) أي أصواتها ، ومن ذلك قول عبيد بن الأبرص يصف ثعلباً وحَداةً :

                             فَاشْتالَ وَارْتاعَ مِن حَسيسِها      وَفِعلَهُ يَفعَلُ الْمَذؤوبُ

وقال الآخر يصف بازاً :
                             تَرَى الطَّيْرَ العِتَاقَ يَظَلْنَ مِنْهُ      جُنُوْحاً إِنْ سَمِعْنَ له حَسِيْسَا

(وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ ) من نعيم الجنّة (خَالِدُونَ) أي دائمون .

103 - (لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ ) أي الخوف الأعظم ، وهو اليوم الّذي تتمزّق فيه المجموعة الشمسيّة بأسرها فتفزع النفوس من ذلك الحادث ومن الصوت الّذي يحدث من انفجار الشمس ، وإنّما لا تفزع الأنبياء والصالحون من ذلك لأنّهم يدخلون الجنّة قبل وقوعه فهم في مأمنٍ منهُ (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ) بالبُشرى فتقول لهم (هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ) بهِ فأبشِروا بالأمن والفوز بالجنان .

104 - (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ) "السماء" هي الطبقات الغازيّة ، و"السجلّ " هو الدلو الكبير المصنوع من الجلود المستعمَل لسقي المزرعة والبستان وجمعهُ سِجال ، والشاهد على ذلك قول امرئ القيس :

                               عَيْناكَ دَمْعُهُمَا سِجَالُ      كَأَنَّ شَأنَيْهِمَا أَوْشَالُ

فالسجال جمع سجلّ ، وقالت الخنساء :

                  أهاجَ لكِ الدموعَ على ابنِ عمروٍ      مَصائِبُ قد رُزِئْتِ بِها فجُودِي
                            بِسَجْلٍ منكِ مُنحَدِرٍ عليهِ      فما ينفكُّ مثلَ عَدَا الفَريدِ

وقال أعشى ميمون :
                         له رِدَافٌ وجَوْزٌ مُفْأَمٌ عَمِلٌ      مُنَطَّقٌ بِسِجالِ الماءِ مُتَّصِلُ

وقال النابغة الذبياني يمدح النعمان :

                     ومَنْ يَغْرِفْ مِنَ النُّعْمَانِ سَجْلاً      فَلَيْسَ كَمَنْ يُتَيَّهُ في الضَّلالِ

فقول الشاعر " ومَنْ يَغْرِفْ مِنَ النُّعْمَانِ سَجْلاً " يعني ومن يملأ دلوهُ من عطايا النعمان ، و"الطيّ " معناه الانحطاط في القوَى والتدهور في الاُمور والتفسّخ في الكتل ، والشاهد على ذلك قول لبيد يصفُ رجلاً قتيلاً :

                   طَوَتْهُ الْمَنَايَا فَوْقَ جَرْدَاءَ شَطْبَةٍ      تَدِفُّ دَفيفَ الرَّائحِ الْمُتَمَطِّرِ

وقال الآخر :
                             طَوَتْكَ خُطُوبُكَ بَعْدَ نَشْرٍ      كَذاكَ الدَّهْرُ نَشْراً وطَيّا

وقال جرير يصفُ ناقة هزيلة :

               طَوَاها السُّرَى طيَّ الجُفونِ وَأُدرِجتْ      منَ الضُّمْرِ حتى ما تُقِرّ لها ضَفْرَا

و"الكتُب" جمع كتاب ، وهو كلّ شيء فيهِ كتابة ، وكانت كتب العرب من عِظام الحيوانات كعظام اللّوح وغيرها ممّا يمكن الكتابة عليهِ ، أو من جريد النخل أو من الحجر الأبيض أو الحصَى أو من جلود الأنعام ، فهذه كانت كتُبهم حيث لم يكن في ذلك الزمان قرطاس ميسور للجميع ، وكان السجلّ عندهم كالمحفظة عندنا ، وهيَ الّتي نحفظ فيها الكتب ، فكانوا يضعون كتبهم في السجلّ ، أي في الدلو ولكن على غير ترتيب ، بل كانت مخلوطة الحجر فوق الجريد والجريد فوق العِظام والعظام فوق الجلود ، وهكذا تجد كتبهم مخلوطة بعضها مع البعض ، فمحفظتهم في ذلك الزمان تشبه سلّة المهمَلات الّتي عندنا اليوم .

ومعنى الآية يكون كما يلي : يوم نُمزّق الطبقات الغازيّة ونخلطُ بعضها مع البعض كما يخلطُ سِجلّكم الكتب . والدليل على ذلك قوله تعالى (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ) أي كما بدأنا تكوين الطبقات الغازيّة من الدخان كذلك نعيدها يوم القيامة دخاناً (وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ) ، وإنّما قال تعالى (كُنَّا فَاعِلِينَ ) على الماضي معناه إنّا فعلنا ذلك فيمن مضى قبلكم لَمّا قامت قيامتهم وشققنا تلك السماوات الغازيّة الّتي كانت فوقهم ، وكذلك نفعل لَمّا تقوم قيامة أرضكم .

------------------------------------
<<الصفحة السابقة الصفحة الرئيسة الصفحة التالية>>



كتاب الكون والقرآن ..تفسير الظواهر الكونية في القرآن الكريم، ووصف دقيق لأحداث القيامة كتاب المتشابه من القرآن تفسير الآيات الغامضة في القرآن الكريم والتي ظلت غامضة منذ 1400عام كتاب حقائق التأويل في الوحي والتنزيل: التفسير الكامل للأيات القرانية بضمنها الايات المتشابهة والغامضة
كتاب الإنسان بعد الموت: وصف دقيق لحال الأنسان بعد الموت وتكوين الجنان وجهنم والملائكة والشياطين. كتاب ساعة قضيتها مع الأرواح: رحلة في عالم الأرواح مدتها ساعة زمنية كتاب الخلاف بين التوراة والقرآن: يوضح من زور التوراة وفي أي عصر والأخطاء الواضحة فيها ومقارنتها بالقرآن الكريم