الإنسان بعد الموت

 

 

تأليف

محمّد علي حسن الحلّي

 

 

طبعة ثالثة منقّحة

 


 

 

 

 

 

 Description: Description: Description: Description: Description: http://quran-ayat.com/insan/image002.jpg

صورة المؤلّف

محمّد علي حسن الحلّي

توفّي سنة 1991م

 

 

 

 

 

 

 

 


 

الفهرس

 

الإنسان بعد الموت

صورة المؤلّف

الفهرس

المقدّمة

ما هو الإنسان

ما هي النفوس

الروح

صفات النفوس

حواس النفس

بيان

ملاحظة

الكلام والنطق

تكوين النفوس في الأجسام

الجنين لا يسمع ولا يبصر

تجارب

صورة الفرخ والبيضة

المادّة والأثير

القوة والتأثير

واجبات الجسم والنفس

النوم

حادثة إغماء

سؤال 1

سؤال 2

موت أم إغماء

الإغماء

إغماء في المستشفى

الرؤيا

ما هو الموت

ما هو سبب الموت

ملك الموت

ساعة الموت

الأجسام بعد الموت

النفوس بعد الموت

والآخرة خيرٌ وأبقى

صفات النفوس بعد الموت

 [إيحاء النفوس إلينا]

المخلوقات الروحانية

صفاتُها

الملائكة

الجن

شبح فرنسا الأحمر

الشبح يدخل والأبواب مغلقة

الشياطين

إبليس

سؤال 3 

سؤال 4

سؤال 5

سؤال 6

سؤال 7

سؤال 8

سؤال 9

………………………………………………..

تحضير الأرواح

قصة عجيبة

العذاب والنعيم في البرزخ

تعليمات

ماذكره الله تعالى للمؤمنين في عالم البرزخ 

أصحاب الصغائر

أصحاب الكبائر

الحساب والجزاء

 المحاكمة للنفس لا للجسم

المحشر

الحشر للنفوس

لا رجعة للأجسام

إعتراض

حادثة تاريخية

جهنّم

تعريف

سؤال 10

سؤال 11

سؤال 12

سؤال 13

سؤال 14

سؤال 15

سؤال 16

سؤال 17

سؤال 18

سؤال 19

الموقف والحساب

  [الصيحة]

الجنان

وصف الجنان

الأشجار في الجنّة

 رسم تخيلي لنخلة أثيرية

سؤال 20

الأشجار الخبيثة

  صورة غصنٍ لشجرة أثيرية

بيان

  [الجنة عرضها كعرض السماوات والأرض]

  [صعود المسيح إلى السماء]

  [الإسراء والمعراج]

حادثة إغماء

إرشادات

أنواع العبادة

ذكر الله

الاستعانة بالله

السؤال من الله

النذر لله

العطاء والإنفاق في سبيل الله

التسمية

التعظيم لله

اليمين بالله

سؤال 21

سؤال 22

سؤال 23

سؤال 24

سؤال 25

سؤال 26

سؤال 27

سؤال 28

سؤال 29

سؤال 30

سؤال 31

سؤال 32

سؤال 33

سؤال 34

سؤال 35

 

 

 

 

المقدّمة

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

   الحمد لله الذي خلق الإنسان ، وعلّمه البيان ، وهيّأ له النبات وسخّر له الحيوان ، وجعل حياته مدى الدهور والأزمان ، والسلام على محمّد سيّد ولد عدنان ، الذي أنزل عليه القرآن ، فكان لنا خير دليل وأحسن تبيان .

   أمّا بعد فإنّي سألت الله الخير والرحمة ، فأعطاني العلم والحكمة ، فحمداً له على ما أكرم ، وشكراً له على ما أنعم .

محمّد علي حسن  

 

ما هو الإنسان

   إعلم أنّ الإنسان الحقيقي هو النفس الأثيرية أي الروح الروحانية ، وليس الإنسان الجسم المادّي الذي يتمزّق بعد الموت ويكون تراباً . وما الجسم المادّي إلاّ قالب تتكوّن فيه النفس فإذا كمل إنشاؤها وبلغت رشدها فلا حاجة بعد ذلك للجسم لأنّ النفس هي الإنسان الحقيقي ، وهي التي تتكلّم وتسمع وتبصر وتشعر باللّذات والآلام وهي التي تعقل وتفهم و لا حاجة لَها بالجسم بعد انفصالِها عنه . أمّا الجسم فإنّه لا يبصر ولا يسمع ولا ينطق إذا انفصلت عنه النفس فما هو إلاّ لحم وعظام ، فالجسم الذي انفصلت عنه النفس يكون كالخشبة الممدودة لا يعقل ولا يفهم ولا يشعر باللّذات والآلام ؛ إذاً الإنسان الحقيقي هو النفس ، والشاهد على ذلك قول الشاعر :

يا خادِمَ الجِسمِ كمْ تشقى بخِدْمَتهِ           لِتطلُبَ الرَّبحَ فيما فيهِ خُسْرانُ

عليكَ بِالنفس واستكملْ فضائلَها     فأنتَ بالنفسِ لا بالجسمِ إنسانُ

   وقال الله تعالى في سورة الملائكة { وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاء وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ } يقول الله تعالى لنبيّه محمّد : "إنّ هؤلاء الكافرين لا يسمعون ما تقول لهم لشدّة عنادهم كما أنّ الأموات التي في القبور لا تسمع من يخاطبها" ، فهذه الآية تؤيّد بأنّ الميّت الذي انفصلت عنه النفس لا يسمع من يخاطبه لأنّه لا حياة فيه . وقال تعالى في سورة النمل { إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ }، فهذه الآيات تصرّح بأنّ الأجسام الميّتة لا تسمع ولا تعقل فما هي إلاّ أجسام ميّتة لا حياة لَها وأنّها تتلاشى بعد سنين وتكون تراباً . فمن قال أنّ النفس ترجع للجسم في القبر ويحيى الميّت ويحاسب ، أقول في جوابه : ما هذه إلاّكلمات وهميّة لا حقيقة لَها .

   وأمّا ما جاء في الحساب و الجزاء والعقاب في عالم البرزخ فهو للنفس خاصة دون الجسم لأنّ الجسم لا يشعر بأيّ شيء من ذلك ، أمّا النفوس فهي باقية لا تفنى ، قال الله تعالى في سورة البقرة { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ } ، والمعنى : لا تظنّوا أنّ هؤلاء الذين قتلوا قي سبيل الله انتهت حياتهم لأنّكم ترون أجسامهم ملقاة على الأرض ودماءهم تسيل بل هم أحياء ولكن لا تشعرون بهم لأنّكم ترون الأجسام ولا ترون النفوس ؛ والإنسان الحقيقي هو النفس لا الجسم .

   وقال تعالى في سورة آل عمران { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } ، فقوله تعالى { عِندَ رَبِّهِمْ } يعني في الطبقات الأثيرية أي في الجنان يرزقون من ثمارها ويشربون من أنهارها ، فلو أنّ الله تعالى قصد بذلك أجسامهم لقال : أحياء في القبر يرزقون .

   وقال تعالى في سورة يس { قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ . بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ } ، فلمّا كان هذا الرجل مقتولاً فكيف يقال له ادخل الجنّة ، ولكنّ القول لنفسه لا لجسمه لأنّ النفس باقية لا تفنى ، ولمّا دخلت نفسه الجنّة الأثيرية حينئذٍ قالت { يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ } .

    وقال تعالى في سورة نوح حاكياً عن قومه { مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا } ، فإذا كانت أجسامهم غرقى في الماء فأين تكون النار منهم ؟ ولكن المعنى : أغرقت أجسامهم في الماء وأدخلت نفوسهم في النار ، واعلم أنّ دخول الجنّة في عالم البرزخ هو خاص لبعض النفوس ، وكذلك دخول النار .

   وقال عزّ من قائل في سورة الحج { وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } ، فقوله تعالى { لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ } يعني يرزق نفوسهم لأنّ النفوس باقية لا تفنى .

  

ما هي النفوس

   إنّ النفس هي التي نسمّيها (روح)

ولكن الفرق كبير بين الروح والنفس ، فالروح هي مجموعة من ذرّات أثيرية لا شكل لَها ولا هيكل بل هي كالهواء .

الأثير: وسط على غاية من اللطافة منتشر في الكون يشغل كلّ فراغ ويتخلّل مسام جميع الأجسام حتى مسام الزجاج . ذكره صاحب كتاب (مبادئ الحكمة والكيمياء) .

أمّا النفس فلَها هيكل كهيكل الجسم ؛ فهي نسخة طبق الأصل منه لأنّها تتكوّن داخل الجسم فتأخذ شكله : فإنْ كان الجسم طويلاً فالنفس تكون طويلة أيضاً ، وإنْ كان الجسم قصيراً كذلك النفس تكون قصيرة ، وهكذا تكون أعضاؤها وحواسّها تشبه حواسّ الجسم : فإنْ كان فم الجسم واسعاً فإنّ النفس يكون فاها واسعاً أيضاً ، وإنْ كانت عين الجسم صغيرة فإنّ النفس تكون عينها صغيرة أيضاً ؛ فإذا انفصلت النفس عن الجسم عند الموت فإنّها تبقى على هيكلِها لا تكبر ولا تصغر ، فالطفل يبقى طفلاً لا يكبر مدى الزمان والشاب يبقى شاباً لا يهرم مدى الزمان .

   فالروح يطلق عليها لفظة (روح) قبل دخولها الجسم  لأنّها مجموعة من ذرّات أثيرية ، ولكن إذا دخلت في الجسم وتألّفت تلك الذرّات الأثيرية داخل الجسم فكوّنت هيكلاً أثيرياً يسمع ويبصر ويتكلّم ويعقل فلا يصحّ حينئذٍ أن تسمّى (روحاً) بل يكون اسمها (نفساً) . كما لا يصحّ أن تسمّى روح الجنين الذي في بطن أمّه (نفساً) لأنّه لا يسمع ولا يبصر ولا يفهم ، ولكن بعد ولادنه بأربعين يوماً يصحّ أن نسمّي روحه نفساً .

   إذاً نطلق كلمة روح على الذرّات الأثيرية حين دخولِها جسم الجنين وكذلك ما دام الجنين في بطن أمّه ، والشاهد على ذلك قول عنترة :

يا عَبلَ حُبُّكِ في عِظامي مَع دَمي     لَمّا جَرَت روحي بِجِسمي قَد جَرى

فهنا سمّاها روحاً ، وذلك حين دخولها جسمه .

      فالروح إذا نشأت في الجسم وكان لَها هيكل أثيري و أخذت تسمع وتبصر وتعقل فلا يصحّ حينئذٍ أن تسمّى (روحاً) بل يكون اسمها (نفساً) ، والشاهد على ذلك قول عنترة :

وقد هانَ عندي بذلُ نفسٍ عزيزةٍ      ولو فارقَتْني ما بَكَتْها جَوارِحي

وقال أيضاً :

لو سابَقَتْني المنايا وهيَ طالبة ٌ     قبضَ النفوسِ أتاني قبلَها السَّبقُ

وقال :

أَقَمْنا بالذوابلِ سُوقَ حربٍ      وَصَيَّرْنا النفوسَ لَها مَتاعا

وقال أيضاً :

ليَ النفوسُ وللطّيرِاللحومُ وللـوحْشِ العِظَامُ وَلِلخَيَّالَة ِالسَّلَبُ

وقال لبيد :

باتتْ تَشَكَّى إليَّ النفسُ مجِهشةً     وقد حَمَلْتُكِ سَبعاً بعدَ سَبْعينا

 وقال الله تعالى في سورة الشمس { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا . قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } ، فقوله تعالى { وَمَا سَوَّاهَا } معناه: والجسمِ الذي كوّن النفس وأنشأها ، وذلك لأنّ النفس تتكوّن من ذرّات أثيرية تدخل مسامات الجسم فتبني فيه هيكلاً جديداً أثيرياً يشبه الجسم تمام الشبه ، فهذا الهيكل الأثيري هو النفس المعروفة عند الناس بالروح .

وقال تعالى في سورة الزمر { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا الخ } فهنا سمّاها سبحانه (نفساً) وذلك عند خروجها من الجسم ، وسمّاها نفساً أيضاً وهي داخل الجسم وذلك قوله تعالى في سورة يوسف حاكياً عن زليخا قالت  { وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ الخ} ، وقال تعالى لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } .

   والخلاصة أنّ النفس هي الروح لأنّها مجموعة من ذرّات أثيرية وكذلك الروح هي ذرّات أثيرية إلاّ أنّ الروح ليس لَها هيكل ولا تسمع ولا تبصر ولا تعقل ، ولكنّ النفس تبصر وتسمع وتتكلّم وتعقل ، وبعبارة أخرى أقول إنَ النفس هي الإنسان الحقيقي .

 

سؤال 1: فما معنى قوله تعالى في سورة أسرى { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ

قَلِيلاً } ؟

جواب : لمّا نزل قوله تعالى{ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ . عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ } وهي آية في سورة الشعراء ، قالت قريش : من هو الروح الأمين وما صفاته ولم لا نراه ؟ فنزلت هذه الآية { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ  الخ} ، والمعنى يسألونك عن جبرائيل { قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } أي قل هو من مخلوقات ربّي الروحانية ، وهذه المخلوقات لا تراها المخلوقات المادّية  { وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } لأنّ لدينا أنواعاً من المخلوقات الروحانية ، وأنتم لا ترونهم ولا تعلمون بِهم . فالروح هنا يريد به جبرائيل ؛ والدليل على ذلك قوله تعالى في سورة مريم { فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا } والمعنى : فأرسلنا إليها جبرائيل فتمثّل لَها بشكل بشر . وقال تعالى في سورة البقرة { وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ } فروح القدس يريد به جبرائيل .

وقال تعالى في سورة غافر { يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } ، وقال تعالى في سورة القدر { لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ . تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ .}

وإذا شئت زيادة إيضاح فطالع كتاب (الروح في الإسلام) لمؤلّفه إبراهيم الكوّاز .

 

الروح

كل كلمة (روح) تأتي في القرآن يراد بِها جبرائيل ، ومن ذلك قوله تعالى في سورة مريم { فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا } ، وقال تعالى في سورة البقرة { وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ } فروح القدس هو جبرائيل . وقال تعالى في سورة غافر { يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ } . وقال تعالى في سورة النحل { يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ } ، والمعنى : ينزّل الملائكة بتبعية جبرائيل على من يشاء أن يكون رسولاً لينذر الناس عن عبادة الأصنام والأوثان .

   فالآيات كثيرة ونكتفي بِما ذكرناه منها دلالة على أنّ كلمة (روح) في القرآن يُراد بِها جبرائيل لا غير .

 

صفات النفوس

   إعلم أنّ النفس هي ذرّات أثيرية تتألّف داخل الجسم ، أي يجتمع بعضها إلى بعض ويكون بينها تجاذب فتبني هيكلاً كهيكل الجسم ، فالعين المادّية تبني داخلها عيناً أثيرية ، والأذن المادّية تبني داخلها أذناً أثيرية ، واليد المادّية تبني داخلها يداً أثيرية ، وهكذا كلّ عضو من الأعضاء المادّية يبني داخله عضواً أثيرياً فيصبح هيكلاً أثيرياً داخل الهيكل المادّي أي داخل الجسم ويكون منه نسخة طبق الأصل إلاّ أنّ الأول مادّي والثاني أثيري ، ثمّ يأخذ الهيكل الأثيري في النموّ كلّما كبر الجسم ونَمى حتّى يقف الجسم عن النموّ والازدياد وذلك عند بلوغه مبلغ الرجال ، أو بِموته قبل بلوغه فيموت طفلاً أو صبياً فحينئذٍ تقف النفس عن النموّ ، وذلك لانفصالِها عن الجسم ، فتكون على قدر الجسم الذي انفصلت منه:  فإن كان الجسم صبياً فإنّها تكون صبيّةً أيضاً وإن كان شاباً فالنفس تكون شابة أيضاً ، وإنْ كان الجسم مهزولاً فالنفس تكون مهزولة أيضاً ، وإنْ كان الجسم سميناً فالنفس تكون سمينة أيضاً . والخلاصة أنّ النفس تكون نسخة طبق الأصل فهي تشبه الجسم الذي نشأت فيه تماماً ، وبذلك قال المالكي ، وإليك ما جاء في كتاب (جامع المتون) قال :

ولا تَخضْ في الروحِ إذْ ما وَرَدا     نصٌّ مِنَ الشارعِ لكنْ وُجدا

لِمالكٍ هيَ صورةٌ كالجسدِ          فحسبُكَ النصُّ بِهذا السنَدِ

وفي رواية عن بعض الأئمة : "إذا توفّى الله رجلاً صالحاً ، جعله في هيئة تشبه هيئته التي في الدنيا : وهم يأكلون ويشربون ، وإن جاءهم أحد عرفوه بصورته التي كان عليها في الدنيا ."   

وقد روي عن جعفر الصادق (ع) أنه سئل عن أرواح المؤمنين فقال : "هم في الجنة على صور أبدانهم لو رأيتَه لقلتَ فلان."

إلاّ أنّ النفسَ لا تَهرم ولا تأخذ في النقصان ولا تفنى ولا يعتريها أيّ نقص ، مثلاً إذا كان الجسم سميناً مدّة شبابه ثمّ مرض وهزل فإنّ نفسه لا تكون مهزولة بل تبقى على ما كانت عليه في زمن الشباب ، وكذلك إذا هرم الجسم وصار شيخاً فإنّ نفسه لا تهرم بل تبقى على ما كانت عليه في زمن الشباب ، وكذلك لو نقص أحد أعضاء الجسم فإنّ نفسه لا ينقص من أعضائها شيء لأنّها هيكل أثيري والأثير لا يفنى ولا يعتريه نقص ، فقد روي عن النبيّ أنّه قال : قال " يحشر الناس يوم القيامة عراة حفاة غلفاً ." أقول يحشرون بغلفهم لأنّهم نفوس أثيرية والأثيري لا ينتقص منه شيء . 

   فمثلاً إذا عمي الإنسان في زمن شبابه أو بعد ذلك فإنّ نفسه لا تعمى بل تبقى مبصرة فإذا انفصلت عن الجسم عند الموت فإنّها تكون مبصرة فترى الأشياء وتشاهدها كما كانت تنظر وهي داخل الجسم في زمن شبابه بل يكون بصرها أقوى مِمّا كانت عليه وهي داخل الجسم . قال الله تعالى في سورة الحج { فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } ، فبصر النفس لا يعمى بل يكون أقوى إذا انفصلت عن الجسم . قال الله تعالى في سورة ق { لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } أي حادّ البصر.

   وكذلك  لو انكسرت يد الجسم أو رجله أو عضو آخر من أعضائه فإنّ النفس لا يعتريها خلل بل تكون سالمة من كلّ نقص ، إلاّ إذا كان الجسم ناقصاً وهو في بطن أمّه فيولد وينشأ وهو ناقصٌ عضواً من أعضائه حتّى يموت فإنّ النفس في هذه الحالة تكون ناقصة أيضاً لأنّها تتكوّن داخل الجسم فتأخذ شكله ، مثلاً إذا وُلد طفل وهو أعرج وبقي أعرج حتّى الممات فإنّ نفسه تكون عرجاء أيضاً ، وكذلك لو وُلد طفل وله يد واحدة وعاش سنين ثمّ مات فإنّ نفسه يكون لَها يد واحدة أيضاً لأنّها تكوّنت في ذلك الجسم، فالجسم ما هو إلاّ قالب لتكوين النفس وإنشائها .

ومثال ذلك ما يُصنع من الإسمنت كالهياكل والمزهريّات والأعمدة و غير ذلك: فإذا أردنا أن نصنع تمثالاً من الإسمنت أو مزهرية أو شيئاً آخر فينبغي أن نصنع أوّلاً قالباًمن الخشب على الشكل المطلوب ثم نأتي بالإسمنت ونخلطه مع الرمل والحصى ونبلّه بالماء ثمّ نصبّه داخل القالب الذي هو من الخشب ونتركه على الأقلّ مدّة اثنتي عشرة ساعة لكي تتماسك ذرّات الإسمنت بالحصى ويصبح هيكلاً صلباً لا يتفتّت بعد ذلك ، ثمّ إنّنا ننزع القالب عن الهيكل ونرمي به ونأخذ الهيكل المصنوع من الإسمنت حيث هو مطلوبنا ، ولو فرضنا أنّنا نزعنا القالب عن الهيكل قبل انتهاء المدّة المطلوبة لوجدنا ذرّات الإسمنت غير متماسكة ولأصبح الهيكل متهدّماً بأدنى احتكاك ،فهكذا حكم النفس داخل الجسم : فلنجعل الجسم مقام القالب المصنوع من الخشب ، ولنجعل ذرّات الأثير مقام الإسمنت ،فكما أنّ الإسمنت لا تتماسك ذرّاته إلاّ بعد المدّة المطلوبة ، كذلك ذرّات الروح لا تتماسك داخل الجسم إلاّ بعد ولادة الجنين بأربعين يوماً ، فتصبح تلك الذرّات الأثيرية بعد الأربعين يوماً نفساً باصرة سامعة واعية باقية .

   أمّا إذا مات الجنين في بطن أمّه أو بعد ولادته ببضعة أيّام فإنّ تلك الذرّات الأثيرية التي للروح تتلاشى وتذهب أدراج الرياح لأنّها لم تتماسك تماماً في هذه المدّة القصيرة كما أنّ ذرّات الإسمنت لم تتماسك إذا لم تنتهِ عليها المدّة المطلوبة وهي داخل قالب الخشب ، فلذلك لا يصحّ أن نسمّي روح الجنين الذي في بطن أمّه (نفساً) لأنّها تتلاشى إذا مات الجنين ولأنّها لا تسمع ولا تبصر ولا تعي ، فالنفس بخلاف ذلك .

   فالغاية من هذا الجسم المادّي هي النفس لأنّها الإنسان الحقيقي ، كما أنّ الغاية من صناعة قالب الخشب هي هيكل الإسمنت ، فإذا كمل الهيكل الأثيري ونشأ فلا حاجة بعد ذلك إلى الجسم بل يكون مصيره التفسّخ بعد الموت ، وفي ذلك قال الحسين (ع) :

فَإنْ تَكُنِ الأبدانُ لِلموتِ أُنشِئتْ     فَقتلُ امرئٍ بِالسيفِ في اللهِ أفضَلُ

والشاهد على أنّ النفس هي الإنسان الحقيقي قوله تعالى في سورةالأنعام { قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا } ، فلو كان الجسم هو الإنسان الحقيقي لقال تعالى : "ومن عمي فعليه" ، فيجيء ذكره على صيغة التذكير لا على التأنيث ، وذلك لأنّ النفس هي الإنسان الحقيقي .

  

حواسّ النفس

  قلنا فيما سبق أنّ النفس لَها حواسّ وأعضاء كما للجسم إلاّ أنّها أثيرية ، وأقول أيضاً أنّ حواسّ النفس لَها أسماء خاصة غير الأسماء التي لحواسّ الجسم ؛ مثلاً إنّ فم الجسم يسمّى فم ولكنّ فم النفس يسمّى (فاه) ، وإنّ عين الجسم تسمّى عين ولكنّ عين النفس تسمّى (بصر) ، وإنّ أذن الجسم تسمّى (أذن) ولكنّ أذن النفس تسمّى (سمع) ، وإنّ قلب الجسم يسمّى قلب ولكنّ قلب النفس يسمّى (فؤاد) .

   قال الله تعالى في سورة السجدة في قصّة آدم { ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ } فقوله تعالى{ ثُمَّ سَوَّاهُ } أي سوّى جسمه وأكمل خلقه ، ثمّ قال { وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ } وبعد ذلك قال { وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ } فانظر أنّه سبحانه لم يقل : وجعل لكم الآذان والعيون والقلوب ، لأنّه خلقه كامل الأعضاء بقوله { ثُمَّ سَوَّاهُ } ، والمعنى : جعل لنفسه آذاناً وعيوناً وقلباً كما جعل لجسمه ، وكذلك لَمّا خلق أجسامكم وأنشأ فيها النفوس جعل لَها أذاناً وعيوناً وقلوباً كما جعل للأجسام .

وقال تعالى في سورة المؤمنون { وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ } ، فقوله تعالى { أَنشَأَ لَكُمُ } يعني أنشأ لنفوسكم ، لأنّ المخاطب بذلك النفوس فهي الإنسان الحقيقي ، والسمع أذن النفس ، والبصر عين النفس ، والفؤاد قلب النفس .

  وقال تعالى في سورة الملك { قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ } ، فقوله تعالى { أَنشَأَكُمْ } يعني أنشأ نفوسكم وجعل لَها السمع والأبصار والأفئدة ، والدليل على ذلك قوله {أَنشَأَكُمْ } ولم يقل خلقكم ، فالخلقة يريد بِها خلقة الأجسام ، أمّا الإنشاء فيريد به تأليف النفوس من ذرّات أثيرية .

   وقال عزّ من قائل في سورة النحل { وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } ، فقوله تعالى { وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } ينبغي أن يكونوا كاملي الخلقة فلهم عيون وآذان وقلوب لأنّ الطفل لا يخرج من بطن أمّه إلاّ وهو كامل الخلقة فكيف يقول بعد خروجه { وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ } إذاً يريد بذلك حواسّ النفس ، والمعنى يكون هكذا : وبعد خروجكم من بطون أمّهاتكم جعل لنفوسكم سمعاً وأبصاراً وأفئدةً لعلّكم تشكرون . وقال تعالى في سورة الأحقاف { وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ ...الخ }

   ومِمّا جاء في أعضاء الجسم قوله تعالى في سورة الحج { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ...الخ } ، فانظر هنا سمّاها سبحانه قلوباً وآذاناً وهناك سمّاها أفئدةً وأسماعاً ، لأنّه هناك يريد بِها الحواسّ الأثيرية التي للنفوس وهنا يريد بِها الحواسّ المادّية التي للأجسام ، والمعنى أنّهم كالأموات لَهم قلوب ولكن لا تعقل ولهم آذان ولكن لا تسمع . وقال تعالى في سورة الأعراف { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ

الْغَافِلُونَ } . وقال تعالى في سورة نوح عن لسان نوح { وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ ...الخ } ، فذكرها هنا بلفظة (آذان) ولم يسمّها (أسماع) لأنه يريد بِها آذانهم المادّية حيث وضعوا أصابعهم فيها . وقال تعالى في سورة المائدة { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ...الخ } ،فهنا سمّاها سبحانه عيناً وأذناً ولم يسمّها بصراً وسمعاً لأنّه يريد بِها الأعضاء المادّية التي للجسم لأنّ الحواسّ الأثيرية لا يعتريها خلل فيكون في حكمها قصاص . وقال تعالى في سورة الأحزاب { أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ الخ } فهنا قال تعالى { تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ } ولم يقل : تدور أبصارهم ، لأنّه يريد بِها أعينهم المادّية التي للأجسام . وقال تعالى في سورة فصّلت { وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ ...الخ} . وقال تعالى في سورة البقرة { يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ } فهنا أيضاً سمّاها آذاناً ولم يسمّها أسماعاً لأنّه يريد بذلك أعضاء الجسم .

 

بيان : سأل الإمام علياً (ع) رجلٌ اسمه دعلب قائلاً : "هل رأيت ربّك ؟" فأجاب الإمام : "إنّ الله لا تراه العيون بمشاهدة الأبصار ...الخ" ، فهنا دليل على أنّ الأبصار غير العيون ، فالعيون لا ترى إلاّ بمشاهدة الأبصار ، فتكون المشاهدة للبصر لا للعين .

 ملاحظة :  إنّ أسماء حواس النفس وحواس الجسم هي مشتركة في الإنسان الحي ، فيمكن أن تقول زيد يراني بعينه ويمكن أن تقول زيد يراني ببصره .

وكذلك يمكنك القول (زيد ذو قلب طيّب) أو القول (زيد ذو فؤاد طيّب) وذلك لأنّ الإنسان الحي له عين وله بصر ، وله أذن وله سمع ، كما له قلب وله فؤاد .

فهذه الأسماء مشتركة في الإنسان الحي ، ولكن من نوع واحد في النفوس ، فلا يمكننا القول بأنّ النفس تسمع بأذنها ولكن يمكننا القول بأن النفس تسمع بسمعها .

 

الكلام والنطق

    الكلام هو ما يلفظ به الإنسان فيفهم به الشخص المخاطَب سواءً كان بصوت مرتفع أو منخفض ، أو بالإشارة كما قال الشاعر :

حواجبُنا تَقضي الحوائجَ بينَنا     نحنُ سكوتٌ والهوى يتكلّمُ

يعني : إنْ كان للهوى صوت فليس لكلامنا صوت بل نتكلّم بالإشارة فيفهم بعضنا بعضاً . وقال الله تعالى في سورة يس {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } ، والغاية من الكلام تفهيم الشخص المخاطب بما أراد المتكلِّم . أمّا النطق فهو الكلام الذي يكون له صوت فيفهم به الشخص المخاطَب ، فإذا لم يكن له صوت فلا يسمّى نطقاً ،فيصحّ أن نقول إنّ الإنسان يتكلّم و يصحّ أيضاً أن نقول إنّ الإنسان ينطق ، ولكن لا يصحّ أن نقول أنّ النفوس تنطق لأنّ كلامَها ليس له صوت نسمعه ، ولكن يصحّ أن نقول إنّ النفوس تتكلّم .

    قال الله تعالى في سورة النجم { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى ، ومعناه أنّ النبيّ (ع) مهما تكلّم بكلامٍ فصيح وأسمعكم بنطقٍ بليغ لم يكن ذلك من نفسه بل هو من الله تعالى أرسله إليه وعلّمه إيّاه ، وذلك قوله تعالى [في الآية التالية من نفس السورة]: { إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى . عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى } . وقال تعالى في سورة المرسَلات {هَذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ . وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } يعني ليس لهم استطاعة على النطق لأنّهم نفوس أثيرية , ولا يؤذن لهم بالكلام في العذر فيعتذرون . وقال تعالى في سورة النمل { وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنطِقُونَ } .

 

تكوين النفوس في الأجسام

   قلنا فيما سبق أنّ النفس تتكوّن داخل الجسم المادّي وتنمو كلّما نمى الجسم وتكبر حتّى تصبح نفساً سامعة باصرة واعية عاقلة لا يعتريها خلل ولا نقص ، وذلك لأنّ الأجسام تتكوّن من مادّة حيّة نامية وسائل حيوي .

   فالمادّة الحيّة تكون جاذبة للأثير مهما دامت على قوّة نموّها ، فإذا وقفت عن النموّ فحينئذٍ تعجز عن جذب الأثير إليها ،ويكون ذلك عند انتهاء شباب الإنسان ، فحينئذٍ تأخذ النفس حدّها ولا تنمو بعد ذلك ، ولذلك تكون نفوس الشيوخ والعجائز شابّة لا تهرم ، فالنفوس إذاً لا شيخ بينها ولا عجوز .

   وأمّا السائل الحيوي فإنّه يكون موصلاً بين الأثير والأجسام أي هو همزة وصل بين النفوس والأجسام ، فإذا انتهى السائل الحيوي من الجسم أو تأكسد فالنفس تنفصل حينئذٍ عن الجسم ولا يبقى لَها اتّصال ، فعند ذلك يكون الموت .

   فالمادّة التي تتكوّن منها الأجسام كائنة من شيئين : مادّة حية وسائل حيوي ؛ فالمادّة الحية هي التي يتكوّن منها جسم الجنين في بطن أمّه بعد اتّصال حيمن الرجل ببويضة المرأة لأنّها مجموعة من حجيرات دقيقة .

   أمّا السائل الحيوي فيكون سبباً في اتّصال النفس بالجسم ، ولو لم تكن النطفة مادّة حية لَما أخذت في النموّ والازدياد ،وفي ذلك قال الشاعر :

إحفظْ منيّكَ ما استطعتَ فإنّه     ماءُ الحياة يُصَبُّ في الأرحامِ

[مثل بطارية السيارة]

   ولِنعطِكَ مثلاً في ذلك : إنّ الباتري الذي يستعمل في السيّارات لإضاءة المصابيح يتركّب من ثلاثة أشياء :

أوّلاً – صندوق أسود من الزفت والفحم وفيه ألواح من الرصاص ،

ثانياً – حامض كبريتيك مخفّف ،

ثالثاً–  تيّار كهربائي .

   فلنجعل جسم الإنسان بمثابة الصندوق ولنجعل السائل الحيوي مقام حامض الكبريتيك ولنجعل النفس مقام التيار الكهربائي ؛ فحامض الكبريتيك هو سبب اتصال  التيار الكهربائي في الباتري ولولا الحامض لَما اتّصل التيار بالباتري ، ولو أننا أخلَينا الباتري من الحامض لأصبح لا يقبل التيّار ، لأنّ الحامض هم همزة وصل بين التيّار والباتري .

 فكذلك يكون حكم السائل الحيوي بين النفس والجسم ؛ فالنفس يكون اتّصالُها بالجسم ما دام السائل الحيوي موجوداً فيه ،فإذا تأكسد السائل الحيوي فإنّ النفس تنفصل عن الجسم ولا يبقى لَها اتّصال ، وذلك هو الموت . فالموت ما هو إلاّ انفصال النفس عن الجسم بسبب تأكسد السائل الحيوي الذي في الجسم أو بأيّ عارض آخر كالقتل أو الحرق أو الغرق وما أشبه ذلك .

   فجسم الجنين إذا تكوّن في بطن أمّه فإنّه يأخذ في جذب ذرّات الأثير إليه ويبني داخله هيكلاً أثيرياً يكون نسخة طبقالأصل ويبقى مستمرّاً على جذب الأثير عند ولادته حتّى ينتهي زمن شبابه فحينئذٍ يعجز عن جذب الأثير إليه فتأخذ النفس حدّها ولا تكبر بعد ذلك .

   أمّا السائل الحيوي الذي في الجسم فلا تنتهي قواه عند انتهاء زمن الشباب بل يبقى واصلاً بين النفس والجسم حتّى الموت . فتكوين النفس داخل الجسم يكون عن جذب الجسم لذرّات الأثير ، وكذلك كلّ مادّة حية تكون جاذبة للأثير وتبني داخلها هيكلاً أثيرياً يشبه الهيكل المادّي تمام الشبه سواءً كان حيواناً أو إنساناً أو نباتاً .

   قال الله تعالى في سورة المؤمنون { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ . ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ . ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } فقوله تعالى{ ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ } يعني غير الذي خلقه أوّلاً وهو الذي مرّ وصفه من أنّه خلقه من طين ثمّ من نطفة إلى غير ذلك ، فالخلق الأوّل الذي مرّ وصفه مادّي ، والخلق الآخر أثيري ، ويريد بذلك النفس ، والدليل على ذلك قوله تعالى{ ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ } ولم يقل : ثمّ خلقناه ؛ لأنّ الخلقة تكون للمادّيات والإنشاء يكون للأثيريات أي للنفوس ، ولفظة إنشاء معناها التأليف و التجمّع والتجاذب .

  

الجنين لا يسمع ولا يبصر

   قلنا فيما سبق أنّ النفس لَها أعضاء وحواسّ كما للجسم فهي من هذه الوجهة بخلاف الروح إذ أنّ الروح ليس لَها حواسّ ولا أعضاء بل هي كالهواء وأقول إنّنا نرى الأشياء ونعرف الألوان بأبصارنا لا بأعيننا أي نرى بعين النفس الأثيرية لا بعين الجسم المادّية ، وإنّ العين المادّية عمياء لا ترى شيئاً وما الرؤيا إلاّ للعين الأثيرية ، فالعين المادّية ما هي إلاّ قالب لتكوين العين الأثيرية . وكذلك السمع فإنّنا لا نسمع بآذاننا بل السمع يكون للأذن الأثيرية . والكلام أيضاً يكون مصدره من فم النفس فإذا تحرّك فاه النفس بالكلام حرّك معه فم الجسم فيخرج الصوت منه ، فالفم المادّي إذاً ما هو إلاّ آلة مكبّرة للصوت [1]

   وكذلك القلب المادّي فإنّه لا يعي ولا يفهم وإنّما الفهم والإدراك يكون للفؤاد أي لقلب النفس .

وبعبارة أخرى أقول أنّ النفس هي التي تسمع وتبصر وتتكلّم وتعي وتعقل ، أمّا الجسم فإنّه لا يسمع ولا يبصر ولا يعقل ،فالجسم ما هو إلاّ قالب تكوّنت فيه النفس ، فمثال ذلك كمثل بيضة تكوّن فيها فرخ ، فالجسم مثله كمثل قشر البيضة ،والنفس مثلها كالفرخ الذي تمّت خلقته داخل القشر ثمّ خرج منه ، [أنظر الصورة على الصفحة التالية ]

وإليك تجارب تعرف بِها صحّة ذلك :

   أوّلاً – أدنُ من رجلٍ نائم وتكلّم عنده بما شئت فإنّه لا يسمع من ذلك شيئاً ، ثمّ افتح إحدى عينيه بإصبعك وقل له "مَن أنا؟" فإنّه لا يراك ولا يجيبك بشيء، بشرط أن لا ينتبه من نومه ، ولو أنّك أخذت شيئاً من متاعه فإنّه لا يراك .

   ثانياً – لو أتيت رجلاً أعمى وسألته : "هل ترى في منامك شيئاً ؟" لأجابك : "إنّي أكون بصيراً في المنام وأعمى في اليقظة" لأنّ الأعمى يرى في منامه كما يرى البصير في اليقظة ، فهو يرى الأشياء والألوان كما هي ، وما تلك الرؤيا إلاّ لعين النفس لأنّ عينه المادّية عمياء لا ترى شيئاً . ثمّ إنّك لو سألت رجلاً أبكم لأجابك بأنّي أتكلّم في المنام وأبكم في اليقظة .

 

Description: Description: Description: Description: Description: image004

[صورة فرخ كسر بيضته وخرج منها ، فهل يعود إليها ؟]

 

   ثالثاً – أدنُ من طفلٍ رضيع واجلس عنده بشرط أن لا يتجاوز عمره عشرة أيّام ، ثمّ اصرخ عند رأسه فإنّك ترى الطفل لا يتململ ولا يبكي لأنّه أصمّ لا يسمع من صوتك شيئاً ، ثمّ اعمل معه تجربة ثانية وهي أن تمرّر يدك على عينه فإنّك تراه لا يغمض عينيه ولا يرتدّ إليه طرفه وذلك لأنّه أعمى لا يرى شيئاً ، ثمّ تأمّل عينيه وانظر إلى حدقتيه ترى نظره لا يتّجه نحو شيء من الأشياء بل يكون كالأعمى ، ثمّ تأمّله حين يرضع ثدي أمّه فإنّه لا برى الحلمة لكي يلتقمها رأساً بل يأخذ في تحريك رأسه يميناً وشمالاً حتّى تنزل الحلمة في فمه فحينئذٍ يلتقمها . أمّا وعيه فهو شيء معلوم بأنّ الطفل لا يعي ولا يفهم إلاّ بعد ولادته بثلاثة أشهر ، وذلك لأنّ الطفل حين ولادته لم يكن له سمع ولا بصر ولا فؤاد بل تتكوّن له بالتدريج وذلك عند تجاذب تلك الذرّات الأثيرية التي تكوّنت منها النفس ، فإذا تجاذبت تلك الذرّات الأثيرية بعد زمن يسير فإنّك تراه يسمع ويبصر ويعي ، وذلك لأنّ نفسه تكوّنت لَها حواسّ أثيرية في هذه المدّة .

   ولتعمل تجربة أخرى تعرف بِها صحّة ذلك ، أدنُ من الطفل الذي عملت معه التربة الأولى واجلس عنده "بشرط أن يكون قد مضى من عمره أربعون يوماً" ثمّ اصرخ عنده صرخة خفيفة ، ويكفي لذلك أن تعطس عند رأسه فإنّك تراه ينتبه ويصرخ باكياً لِما أزعجه من صوتك فكأنّما ضربته بالعصا لأنّه صار يسمع ، ثمّ أمررْ يدك على عينيه تراه يغمض عينيه ويرتدّ إليه طرفه لأنّه صار يبصر ، ثمّ تأمّل حدقتيه ترى نظره يتّجه نحو الأشياء وبالأخصّ نحو الضياء ، ثمّ تأمّله حين ترضعه أمّه تراه يلتقم حلمة ثديِها دفعة ولا يحرّك رأسه كما كان يفعل أوّلاً ، فمن ذلك تعرف أنّ الطفل في هذه المدّة القصيرة تكوّن له سمع وبصر وفؤاد بعدما كان لا يسمع ولا يبصر ولا يعي .

   قال تعالى في سورة النحل { وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } فقوله تعالى { وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَوَالأَفْئِدَةَ } يعني بعد خروجكم من بطون أمّهاتكم جعل لنفوسكم أسماعاً وأبصاراً وأفئدةً لعلّكم تشكرون . فالأسماع هي آذان النفوس ، والأبصار هي عيون النفوس ، والأفئدة هي قلوب النفوس  .وقال تعالى في سورة المؤمنون { وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ } ، وقال عزّ من قائل في سورة السجدة { ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ } .

   وقال تعالى في سورة الملك { قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ } فقوله تعالى  {هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ } يعني أنشأ نفوسكم ، لأنّه تعالى قال { أَنشَأَكُمْ } ولم يقل خلقكم . و قال تعالى في سورة الكهف{كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا } ، فبيّن سبحانه أنّ الكلام يكون خروجه من الفاه لا من الفم ، فالفاه هو عضو النفس ، والفم هو عضو الجسم . و قال تعالى في سورة آل عمران { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ } .

  

المادّة والأثير

   سؤال 2 : فما هي المادّة وما هو الأثير ؟

   جواب : المادّة كلّ شيء نراه بأعيننا أو نلمسه بأيدينا ، وذلك كالجماد والنبات والحيوان والإنسان وغير ذلك مِمّا تراه العيون أو تلمسه الأيدي ، والمادة لا تدوم على حالتها فهي صائرة إلى الخراب والزوال، ولولا المخلوقات المادية لَما تكوّنت المخلوقات الأثيرية لأنّ الماديات هي قوالب لتكوين الأثيريات . قال الله تعالى في سورة الطور {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ } فكلمة "شيء" يريد بِها المادة ، وذلك كقوله تعالى في سورة القصص { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } يعني كلّ مادة تتمزّق وتتلاشى ، وقوله أيضاً في سورة الذاريات { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } يعني من كلّ نوع من المخلوقات المادية خلقنا زوجين ، أي ذكراً وأنثى ، فقوله تعالى { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ } يعني هل تكوّنت نفوس هؤلاء الملحدين بغير أجسام مادية فيقولون أنّ الأثير موجود في الفضاء من الأزل وأنّ نفوسنا تكوّنت من الأثير لا مكوّن لّها ؛ نعم تكوّنت من الأثير ولكن من خلق الأجسام التي تكوّنت فيها نفوسهم ؟ أليس الله خلقها وكوّن نفوسهم فيها ؟ { أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} لتلك الأجسام ؟ كلاّ فإنّ الله هو الذي خلقها وخلق السماوات والأرض ومن فيهنّ .

   فالأثير يشبه الهواء ولكنّه غير الهواء لأنّ الهواء مادي والأثير نوع آخر ، وذرّات الأثير أدقّ من ذرّات الهواء : مثلاً إنّ الرمل يتخلّل الحصى لأنّه أدقّ منه ، والماء يتخلّل الرمل لأنّ ذرّات الماء أدقّ من ذرّات الرمل . فالأثير يتخلّل الهواء لأنّ ذرّاته أدقّ من ذرّات الهواء . والأثير يملأ الفضاء . وذرّات الأثير إذا دخلت في شيء مادي وبقيت فيه زمناً فإنها تتماسك ولا تنفكّ بعد ذلك ، والأثيريات لا تفنى ولا تتمزّق ولا تتهدّم ولا يطرأ عليها أيّ عارض ، فإن كنّا قد نشأنا في عالم مادي فانٍ فسننتقل عن قريب إلى عالمٍ أثيريٍّ باقٍ لا فناء له ، ويكون ذلك عند موتنا أي عند انفصال نفوسنا عن الأجسام ؛ فكما لنا في الدنيا متاع وأثاث من المادّيات كذلك في عالم الأثير لنا متاع وأثاث من الأثير ، ولكنّ الفرق بين الاثنين هو أنّ الذي في الدنيا فانٍ لا بقاء له لأنّه مادّي ، ولكنّ الذي ننتقل إليه باقٍ لا يفنى لأنّه أثيري . وكما لنا دور وقصور في الدنيا من المادّة ، كذلك في عالم الأثير لنا دور وقصور ، ولكنّ الفرق بينهما أنّ دورنا تتهدّم لأنّها من المادّة ولكنّ التي في عالم الأثير باقية إلى الأبد لا تتهدّم لأنّها أثيرية . وكما لنا في الدنيا نبات وأشجار مادية ، كذلك في الآخرة لنا نبات وأشجار وأثمار أثيرية .

   والخلاصة أنّ كلّ شيء مادّي فهو يتمزّق ويزول ولكن كلّ أثيري باقٍ لا يفنى ولا يزول . قال الله تعالى في سورة النحل {ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وما عِنْدَ اللهِ باقٍ } ، وقال تعالى في سورة الأعلى { بَلْ تُؤثِرُونَ الحياةَ الدُّنْيا و الآخِرَةُ خَيْرٌ و أبْقَى } ، وقال تعالى في سورة شورى { فَما أوتِيتُمْ مِنْ شَيءٍ فَمَتاعُ الحَياةِ الدُّنْيا ، و ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ و أبْقَى لِلّذِينَ آمَنُوا و على ربِّهِمْ يَتَوَكّلُون . }

  

القوة والتأثير

إنّ المادّة لها القوة والتأثير على النفوس ، وليس للنفوس أي قوة على المادّة ، حتّى أنّ النفس لا تتمكّن أن تحمل ريشة طير من مكانٍ إلى آخر . فمثلاً إذا طار طير وكانت هناك نفس في طريقه ، فإنّ الطائر بصدمته يقطع النفس التي تقف في طريقه إلى نصفين ، ولكن النفس لن تموت من صدمة الطائر بل تتألّم كثيراً ولكنّها تعود سليمةً كما كانت .

وكذلك الحشرات مثل البعوض والذباب فإنّها تدخل من البطن وتخرج من الظهر والعكس بالعكس . بالإضافة إلى ذلك فالمطر يسقط على النفس فتدخل قطرات المطر على رأسها وتخرج من دبرها . وعندما يرمي رجلٌ حجراً بينما توجد نفس واقفة فإنّ الحجر سوف يصيبها ويسبّب لها ألماً كثيراً .

وهكذا فالمادة تؤثّر على النفس وتتألّم النفس كثيراً من الحجر الذي يصيبها والطير الذي يخرقها أو المطر الذي يسقط على رأسها .

وكذلك فإنّ الريح لها تأثير على النفوس ، فإذا هبّت الريح وكانت هناك نفس في طريقها فإنّ الريح تحمل تلك النفس من مكانها إلى مكان آخر بعيد .

قال الله تعالى في سورة الحج : { ومَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأنَّما خَرَّ مِنَ السّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ في مَكانٍ سَحِيق }

ولهذا السبب فإنّ أكثر النفوس لا تترك أماكنها نهاراً ، ولكنها تخرج ليلاً لكي تتجنّب اي طائرٍ يمكن أن يصدمها أو أي حجرٍ يمكن أن يصيبها أو شيءٍ مادّي آخر يمكن أن يؤذيها ويسبّب لها ألماً شديداً .

 

واجبات الجسم والنفس

   إعلم أنّ الأعمال التي يقوم بِها الجسم غير الأعمال التي تقوم بِها النفس وأنّ واجبات النفس لا يتمكّن عليها الجسم ،أمّا الأعمال التي يقوم بِها جسم الإنسان هي ما يأتي :

أوّلاً : النموّ ما دام شاباً ، فالجسم يأخذ في النموّ والازدياد حتّى ينتهي زمن شبابه فيقف حينئذٍ عن النموّ ، وذلك لأنّ الجسم مكوّن من حجيرات حيّة .

ثانياً : الدورة الدمويّة ، فالدم مستمرّ على الدوران في الأوردة والشرايين حتّى الموت .

ثالثاً : الجهاز التنفّسي ، فالرئة مستمرّة على أخذ الأوكسجين وإخراج ثاني أوكسيد الكاربون حتّى الموت .

رابعاً : الجهاز الهضمي ، فالمعدة مستمرّة على هضم الطعام حتّى الموت .

خامساً : النوم ، فالنوم من خواصّ الجسم ليس على النفس منه شيء لأنّ النفس لا تنام .

   فهذه الأعمال التي يقوم بِها الجسم خاصةً وليس للنفس عليها شيء من ذلك ، فإذا خرجت النفس من الجسم عند النوم فالجسم يبقى مستمراً على أعماله التي سبق ذكرها لا حاجة له بالنفس .

   أمّا النفس فمن واجباتِها السمع والبصر والكلام والتفكير والشعور بالآلام واللّذات وغير ذلك ؛ وهذه الصفات تنقسم إلى قسمين :

[القسم الأوّل] فمنها ما تكون مشتركة بين النفس والجسم ، لأنّ أعضاء الجسم هي آلات موصلة لأعضاء النفس وحواسّها، فالكلام مثلاً يكون مصدره من النفس ولكن لا يكون له صوت إلاّ إذا خرج من فم الجسم ، كما أنّ النائم يتكلّم في الرؤيا ويصرخ ولكن لا يكون له صوت حتّى أنّ من كان جالساً عنده لا يسمع صوته . وكذلك حمل الأثقال : فالنفس هي التي تحمل ، ولكن لولا أعضاء الجسم لَما أمكنها حمل شيءٍ من ذلك ؛ لأنّ النفوس لا يمكنها حمل المادّيات ولو كانت ريشة طائر .

وأمّا القسم الثاني فهو مختصّ بالنفس وذلك الذي سبق ذكره وهو كالسمع والبصر وغير ذلك ؛ لأنّ جسم النائم لا يسمع ولا يبصر ولكن النفس تسمع وإن كان الجسم نائماً ، ولذلك يرى الأعمى في منامه كما يرى البصير في اليقظة لأنّ البصر والسمع مختصّ بالنفس ، فمثال النفس مع الجسم كمثل السائق مع السيّارة ؛ فلنجعل الجسم مقام السيّارة ولنجعل النفس مقام السائق ، فكما يجوز للسائق أن يترك السيّارة واقفة وهي تشتغل ثمّ يعود إليها بعد ساعة ، فالسيّارة لا حاجة لَها إلى السائق في هذه المدة لأنّها واقفة في مكانِها ولكن آلاتها مستمرّة في الحركة ، فكذلك النفس يجوز لَها أن تترك الجسم نائماً وهو مستمرّ على واجباته ثمّ تعود إليه بعد ساعة ، فالجسم في هذه الساعة لا حاجة له إلى النفس ، وكما أنّ السائق هو الذي يقود السيّارة ويوجّهها أين ما أراد فكذلك النفس هي التي تسوق الجسم وتوجّهه أينما أرادت ، فالنفس آمر والجسم مأمور لَها مطيع لأمرها ، فالجسم إذاً ما هو إلاّ آلة تستعملها النفس بِما أرادت وتوجّهه إلى ما شاءت .

  

النوم

   قلنا فيما سبق أنّ النفوس لا تنام وإنّما النوم يكون للأجسام المادّية وذلك لِما يصيبها من التعب فإذا نامت فإنّها تستريح ، قال الله تعالى في سورة النبأ { وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا } أي راحة . ويكون سبب النوم بواسطة النخاع الشوكي والمخيخ . والنوم يكون على قسمين : اتّصالي وانفصالي .

   فالنوم الاتّصالي هو أن تبقى النفس متّصلة بالجسم وقت النوم لا تخرج منه تماماً ، وعلامته أن يحرّك النائم يديه أو رجليه وقت نومه في بعض الأحيان وإذا ناديته انتبه من نومه حالاً ، فهؤلاء يكون السائل الحيوي كثير الوجود في أجسامهم .

   وأمّا الثاني وهو النوم الانفصالي فإنّ النفس تنفصل عن الجسم تماماً عند النوم ويبقى الجسم بلا نفس ، فتذهب النفس للسياحة إلى حيث شاءت وتترك الحسم نائماً فتذهب إلى مسافة بعيدة فترى بطريقها ما تراه وتسمع ما تسمعه وتأكل وتشرب وتكلّم من صادفته من النفوس إن شاءت ثمّ ترجع إلى الجسم فحينئذٍ ينتبه الإنسان من نومه ، وهؤلاء يكون السائل الحيوي قليل الوجود في أجسامهم لأنّ السائل الحيوي هو السبب في اتصال النفوس بالأجسام .

   قال الله تعالى في سورة الزمر { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فلفظة (موت) معناها الانفصال ، والشاهد على ذلك قول الأعشى :

وَعُلّقَتْـهُ فَـتَـاةٌ مَـا يُحَـاوِلُهَـا          مِنْ أهلِها مَيّتٌ يَهْـذِي بِهَـا وَهـِلُ

فقول الشاعر " مِنْ أهلِها مَيّتٌ " ، يعني من أهلها منفصل ، والدليل على ذلك قوله " مَـا يُحَـاوِلُهَـا" ، والمعنى لا يمكنه أن يحاول تلك الفتاة لأنه منفصل من أهلها فلا يمكنه أن يعود إليهم ويحاول تلك الفتاة .

وإليك تفسير الآية فقوله تعالى { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا } يعني تكون النفوس في قبضته حين انفصالها من الأجسام سواءً كانت ميّتة أم نائمة بنوم انفصالي ، { وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا } تقديره : ويتوفّى النفوس التي لم تمت في منامها ، والمعنى : ويتوفّى النفوس التي لم تنفصل من أجسامها وقت منامها . والمعنى : كلّ النفوس تكون في قبضته سواءً كانت ميّتة أم نائمة بنوم انفصالي أو نوم اتصالي ، { فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ } أي فيمسك عنده ، (يعني في عالم الأثير) ، التي حكم عليها بالموت { وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى } إلى أجسامِها لتعيش في الدنيا إلى وقتٍ معيّن ، ويريد بالأخرى التي لم يحكم عليها بالموت ، أي التي لم يأتِ أجلها { إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } يعني إلى اليوم المقدّر فيه أن ينتهي أجلها .

   وقال تعالى في سورة الأنعام { وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } ، فقوله تعالى { يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ } يعني يتوفّى نفوسكم من أجسامكم بالليل أي وقت النوم ، والمعنى تكون نفوسكم في قبضته في الليل لأنّها تنفصل عن الجسام وقت النوم .

   ويكون سبب خروج النفس من الجسم عند النوم لشيئين :

أوّلاً : لأنّ النائم تتراخى أعضاؤه فتطلق حينئذٍ قيود النفس من الجسم .

ثانياً : تغتنم النفس فرصة سكون الجسم عن الحركات فتأمن ثقله ومشاقّه عليها فترغب حينئذٍ في السياحة في عالم الأثير ،فإذا خرجت أخذت تسيح ، فإذا رأت شيئاً تخافه أو سمعت صوتاً أزعجها رجعت إلى الجسم مسرعةً لأنّ الجسم يقيها من المؤثّرات الخارجية ، ولأنّ النفس تكون أكثر حساسيةً مما لو كانت داخل الجسم ، وذلك لأنّ الصوت الضعيف يكون عندها قوياً والقويّ يكون عندها مزعجاً . 

   وإليك حادثة أذكرها بمقام شاهد فأقول :

   كنت يوماً نائماً وقت الظهر وكان لي طفل يلعب في الدار فجاء إلى باب الغرفة التي كنت نائماً فيها وصار يضرب على الباب ضربات خفيفة متوالية ، فرأيت في المنام كأنّ لجارنا عرساً وعندهم العبيد وهم يضربون الطبول والمزامير ، فانتبهت من نومي على أثر تلك الضوضاء فلم أجد شيئاً من ذلك سوى ذلك الطفل وهو يضرب على الباب بضربات لطيفة بحيث من كان في الغرفة الثانية لا يسمعها . وكثيراً ما تصادف مثل هذه الحادثة ، وما يكون ذلك إلاّ لقوّة حواسّ النفس .

  

حادثة إغماء

   وإليك حادث آخر أذكره عن كتاب "الأرواح" للشيخ طنطاوي جوهري في صفحة 16 قال :

   "روى الدكتور جيبيه في كتابه (تحليل الأشياء) ما يأتي تعريبه :

   حدّثني شابّ له من العمر ثلاثون سنة نقّاش ماهر في صناعته قال : دخلت منذ أيام منزلي نحو الساعة العاشرة ليلاً وقد اعتراني نوع غريب من الإعياء فأوقدت المصباح ووضعته على مائدة بالقرب من سريري ثمّ أشعلت سيكارة وتمدّدت على مقعدي قصد الاستراحة . وما كدت أسند رأسي إلى ظهر الكرسي حتّى شعرت بالأشياء المجاورة أخذت تدور من نفسهاواعترتني دوخة شديدة انتقلت على أثرها فجأة ومن دون انتباه إلى وسط الغرفة فعجبت لِهذا الانتقال الغريب .

   ولا تسل عن اندهاشي لمّا نظرت إلى ما حولي فرأيت جسمي متمدّداً على المقعد برخاوة ويساري مرفوعة على رأسي والسيكارة بين أصابعها . ففي أوّل وهلة ظننت نفسي نائماً وأنّ ما أراه حلماً وإذ لاحظت بعد هنيهة أنّي لم أرَ قطّ حلماً واضحاً كهذا خلتُ نفسي ميّتاً ، وإذ ذاك خطر على ذهني ما كنت سمعته عن وجود الأرواح وقلت في ذاتي أنّ أصبحت روحاً وتذكّرتُ كلّ ما قيل لي في هذا الموضوع وأسفت بمرارة على نهاية حياتي قبل إكمال بعض أعمالي .

   ثمّ دنوت من جسمي الذي كنت أخاله جثّة فرأيت فيه من حركة التنفّس ما نبّه خاطري ونظرت إلى صدره فعاينت القلب من داخله يطرق بنظام طرقات ضعيفة فتأكّدت حينئذٍ أن قد اعتراني إغماء غريب في بابه وقلت في نفسي إن من يُغشى عليهم لا يتذكّرون ما يصيبهم وقت الإغماء وخفت أن أفقد ذكر ما أراه بعد إفاقتي من الغشيان . وإذ أمنت قليلاً أمر الموت صرفت ذهني إلى ما حولي وتغاضيت عن جسدي الراقد على المقعد فنظرت إلى المصباح وإذ رأيته مشتعلاً بالقرب من سريري خفت على الستائر أن تلتهب بفعل الحرارة فقصدت أن أطفئ المصباح فأمسكت زرّ الفتيلة وعبثاً حاولت برمه مع أنّي كنت أشعر جيّداً بدقائق الزرّ بين أصابعي ولكنّي لم أقوَ على تحريكه بتاتاً . ثمّ صرفت نظري إلى نفسي فرأيت ذاتي كأنّي متّشح بلباس أبيض[2] ويدي تخترق جسمي بسهولة وإذ وقفت تجاه المرآة فبدلاً من أن أرى صورتي مرتسمة عليها شعرت بنظري يمتدّ إلى ما وراءها فرأيت الجدار ومؤخّر الصور والأمتعة الموجودة في غرفة جاري مع أنّه لا وجود للنور فيها ؛ إنّما كنت أستضيء بشعاع نور ينبعث من صدري وينير الأشياء الواقع نظري عليها .

   فخطر ببالي أن أدخل غرفة جاري التي لم أرها قطّ قبلاً وهو كان متغيّباً وقتئذٍ عن باريس فما كدت أشعر برغبتي هذه حتّى عاينت نفسي داخل الغرفة ولا أدري كيف تمّ هذا الانتقال السريع ، إنّما على ظنّي اخترقت الجدار كما اخترقه نظري فأخذت أتجوّل في مخادع جاري لأوّل مرّة وأحفظ في ذهني ما أراه فيها ثمّ دخلت مكتبته وقرأت أسماء بعض كتب موضوعة على الرفوف وكلّما قصدت الانتقال من مكانٍ إلى آخر كنت أصير حيثما أرغب بلمح البصر وبمجرّد إرادتي .

   ومنذ ذلك تشوّهت أفكاري وما عدت أذكر شيئاً ، فقط أعلم أنّي كنت أنتقل إلى أماكن بعيدة جداً حتى إلى إيطاليا على ما أظنّ ولكن لست أدري ما رأيت وعملت فيها إذ لم يعد لي سلطة على ضبط أفكاري وهي تنقلني حيثما توجّهت قبل أن أتولّى زمامها ؛ فحمقاء المنزل كانت وقتئذٍ معها المنزل إلى أن صحوت الساعة الخامسة صباحاً وأنا متوسّد المقعد بارد الجسم متشنّج الأعضاء وسيكارتي بيدي مطفأة . فقمت إلى سريري واعتراني نفاض مزعج نمت على أثره بضع ساعات وما استيقظت إلاّ ضحى النهار .

   واستنبطت في ذلك اليوم حيلة للدخول مع البوّاب إلى منزل جاري فتفقّدت الصور والأثاث وأسماء الكتب فرأيت كلّ هذا طبق ما عاينت وقت الإغماء إلاّ أنّي لم أكلّم أحداً بالحادثة حذراً من أن ينسبوا لي الجنون أو الهذيان ." انتهى .  

 

 

الصفحة اللاحقة ->>



Man after Death   An Hour with Ghosts   The Universe and the Quran   The Conflict between the Torah and the Quran   الخلاف بين التوراة و القرآن     الكون والقرآن   المتشابه من القرآن   ساعة قضيتها مع الأرواح  

 



[1]  وهذا معنى قوله تعالى في سورة طه { وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا } لفقد النفوس مكبّرات الصوت – الشارح  

[2]  وهذا عكس ما رأيتُه أنا في عالم النفوس ، فقد رأيتً نفسي عارياً ، والسبب في ذلك هو أنّ إغماءه كان ليلاً والشعاع الذي كان يخرج من صدره غشى على بصره ، فرأي نفسه كأنه يرتدي وشاحاً أبيض ، ولو كان ذلك نهاراً لرأى نفسه عارياً كما رأيتُ أنا .