تفسير سورة يونس

بسم الله الرحمن الرحيم

(ا ل ر) قلنا فيما مضى أنّ الألف معناها إقرأ ، واللام معناها للناس ، والراء معناها الرسول ، فيكون المعنى إقرأ للناس أيّها الرسول (تِلْكَ) الآبات التي سبق ذكرها (آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ) والحكيم هو الله ، والتقدير آيات كتاب الله الحكيم .

3 – (إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) سبق تفسيرها في في كتابي (الكون والقرآن)

http://www.quran-ayat.com/kown/index.htm#س_  

 ، (يُدَبِّرُ الأَمْرَ) سبق معنى الأمر في كتابي (الإنسان بعد الموت) ، (مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ) فالذي يأذن الله للأنبياء بشفاعته يشفعون له ، والذي لا يأذن لهم بشفاعته لا يشفعون له ولو كان من أقربائهم أو أبنائهم ، فإنّ نوحاً لايمكنه أن يشفع لابنه ولا إبراهيم لأبيه (ذَلِكُمُ) الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام هو (اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) ولا تشركوا بعبادته (أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ) يعني أفلا تتّعظون .

4 – (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ)  يوم القيامة (جَمِيعًا) الجنّ والإنس (وَعْدَ اللّهِ حَقًّا) لا خلاف فيه (إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ) من التراب (ثُمَّ يُعِيدُهُ) إلى التراب ، ونظيرها في سورة طـه {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} ، ويريد بذلك الأجسام فهي تعود إلى التراب أمّا النفوس فباقية لا تموت (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ) في الآخرة (بِالْقِسْطِ) أي بالعدل (وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ) .

15 – (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا) أي لا يوقنون بالبعث والنشور (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـذَا) ليس فيه سبّ آلهتنا (أَوْ بَدِّلْهُ) فضع مكان السبّ مدحاً لآلهتنا فنؤمن بك ونتّبعك (قُلْ) يا محمّد لهؤلاء المشركين (مَا يَكُونُ لِي) أي لا يحقّ لي (أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) فيما تقترحون (عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) هو يوم القيامة .

19 –  (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً) في الدين ، أي مسلمين موحّدين وذلك في زمن آدم (فَاخْتَلَفُواْ) بعد وفاة آدم إلى أديان شتّى وأشركوا ، ونظيرها في سورة البقرة وهي قوله تعالى {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ} . وقوله (وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ) في إمهالهم وتأخير العقوبة إلى الآخرة (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) بإنزال العذاب عليهم وإهلاكهم جزاءً لهم (فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) من التوحيد إلى الإشراك . وهذا كقوله تعالى في سورة فاطر {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} .

22 – قل يا محمّد لكفّار قريش (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) فلماذا تعبدون غيره (حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ) لَمّا سافرتم إلى الحبشة في طلب المؤمنين وكادت سفنكم تغرق وقاربتم على الهلاك لولا أن دعوتم الله فدفع عنكم الخطر ، أهكذا يكون جزاؤنا إنكاركم لآياتنا وبغيكم على المؤمنين ثمّ أخذ سبحانه في إتمام القصّة مخاطباً رسوله فقال (وَجَرَيْنَ بِهِم) تلك الفلك (بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) أي ليّنة (وَفَرِحُواْ بِهَا) أي بتلك الريح (جَاءتْهَا) أي لحقتها (رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) أي أحاطت بهم أسباب الهلاك والغرق (دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) ولم يذكروا أصنامهم في تلك الشدّة ، قائلين (لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـذِهِ) الشدّة (لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) لنعمائك .

القصّة:

   سافر جماعة من قريش وعلى رأسهم عمرو بن العاص إلى الحبشة في طلب المؤمنين فلمّا توسّطوا الطريق هاجت ريح شديدة عاصفة وكادوا أن يغرقوا فصاروا يدعون ويتضرّعون إلى الله قائلين لئن أنجيتنا من هذه الشدّة نشكر لك نعماءك علينا ونترك المسلمين ولا نتعرّض لهم بأذى . فسكنت الريح ونجوا من الغرق ، ولَمّا وصلوا إلى الحبشة قدّموا هدايا إلى ملك الحبشة وقال عمرو بن العاص أيّها الملك إنّ قوماً خالفونا في ديننا وسبّوا آلهتنا وصاروا إليك فردّهم إلينا .

   فبعث النجاشي إلى جعفر فجاءه فقال أيّها الملك سلهم أنحن عبيد لهم ؟ فقال عمرو لا بل أحرار ، قال فسلهم ألهم علينا ديون يطالبوننا بِها ؟ قال لا ما لنا عليكم ديون ، قال فلكم في أعناقنا دماء تطالبوننا بِها ؟ قال فما تريدون منّا ؟ آذيتمونا فخرجنا من دياركم . ثمّ قال أيّها الملك بعث الله فينا نبيّاً أمرنا بخلع الأنداد وترك الاستقسام بالأزلام وأمرنا بالصلاة والزكاة والعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ونهانا عن الفحشاء والمنكر والبغي . فقال النجاشي بهذا بعث الله عيسى ، ثمّ قال لجعفر هل تحفظ مِمّا أنزل الله على نبيّك شيئاً ؟ قال نعم فقرأ سورة مريم فلمّا بلغ إلى قوله تعالى {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} ، قال والله هذا هو الحقّ . فقال عمرو إنّه يخالف ديننا فردّه إلينا فرفع النجاشي يده فضرب بِها وجه عمرو وقال اسكت والله لئن ذكرته بعد بسوء لأفعلنّ بك ، وقال أرجعوا إلى هذا هديّته ، وقال لجعفر وأصحابه أمكثوا فإنّكم سيوم والسيوم الآمنون ، وأمر لهم بِما يصلحهم من الرزق ، فانصرف عمرو ومن معه خائبين ، وأقام المسلمون هناك بخير .

23 – (فَلَمَّا أَنجَاهُمْ) من تلك الشدّة (إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) أي في أرض الحبشة منكرين على المؤمنين إيمانهم ومطالبين ملك الحبشة بإرجاعهم بدون حقّ لهم على المؤمنين ولادَين لهم عليهم (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) والخطاب لكفّار قريش ومن ذهب إلى الحبشة في طلب المؤمنين  (إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم) لأنّكم رجعتم خائبين مطرودين ، ثمّ إنّ (مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) قليل بالنسبة للآخرة (ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ) بعد الموت فنعاقبكم على أعمالكم (فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) في دار الدنيا .          

 26 – (لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ) في الدنيا بالإيمان (الْحُسْنَى) في الآخرة (وَزِيَادَةٌ) من الله لهم جزاء على إحسانهم (وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ) كما يرهق وجوه أهل النار ، فالرهق معناه الخوف , ومن ذلك قوله تعالى في سورة الجنّ {فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} والقتر هو الدخان والغبار ، والمعنى لا يصيبهم خوف ولا ذلّة ولا يلحقهم دخان من جهنّم لأنّهم بعيدون عنها (أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) .

28 – (وَيَوْمَ) القيامة (نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا) العابدين والمعبودين (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ) أي لازموا مكانكم حول الشمس (أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ) الذين عبدتموهم من دون الله (فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ) أي ففرّقنا بين المعبودين ، يعني بين الأصنام والملائكة (وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم) أي قالت الملائكة (مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ) يعني لم نأمركم بعبادتنا ولا علم لنا بذلك .

29 – (فَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا) أي مراقباً (بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) فهو يعلم ويرى (إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ) لنا (لَغَافِلِينَ) لا علم لنا بِها .

30 – (هُنَالِكَ تَبْلُو) أي تختبر (كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ) أي ما عملت سلفاً في دار الدنيا (وَرُدُّواْ) الملائكة المعبودين (إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ) أي رجعوا إلى مكانهم في السماوات الأثيرية بعد سؤالهم ومحاكمة من عبدوهم (وَضَلَّ عَنْهُم) أي ضلّ عن المشركين (مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ) أي ما كانوا يكذبون من قولهم هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، فلم يشفعوا لهم بل تبرّؤوا منهم .

35 – (قُلْ) يا محمّد لهؤلاء المشركين الذين يعبدون الأصنام (هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي) الناس (إِلَى الْحَقِّ) بالأدلّة والبراهين ، فإن قالوا كلاّ (قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ) بالإيحاء من يريد هدايته (أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ) أمره ودينه (أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ) أي أم الذي لا يصوّت لأنّه جماد ، وفي المنجد يقال "هدّ البعير هدّاً " أي هدر ، ويقال "هدّ الحائط هديداً " أي صات عند وقوعه (إِلاَّ أَن يُهْدَى) إلى جهة أخرى فيخرج صوت احتكاك قدميه في الأرض ، يعني لا ينطق ولا يخرج منه صوت إلاّ إذا حرّكوه ، ومن كان عاجزاً عن النطق فهو عن الهداية أعجز (فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) له بالعبادة وتعبدونه .

38 – (أَمْ يَقُولُونَ) المشركون (افْتَرَاهُ) أي جاء محمّد بالقرآن من عنده وقال هو من عند الله (قُلْ) يا محمّد لهم (فَأْتُواْ بِسُورَةٍ) واحدة (مِّثْلِهِ)  فصاحةً وبلاغة فأنتم عرب ومحمّد عربي وكلّكم من قبيلة واحدة ولسان واحد فإن عجزتم عن ذلك فاعلموا أنّه من الله وليس من محمّد كما تزعمون (وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم) من الناس إلى عبادة الأصنام التي عبدتموها (مِّن دُونِ اللّهِ) فإنّ محمّداً يدعو إلى عبادة الله وأنتم تدعون إلى عبادة الأصنام (إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) في قولكم بأنّ محمّداً افتراه .

39 – (بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ) من كلام القرآن ، أي كذّبوا بالآيات المتشابهة التي لم يفهموها ولم يحيطوا بِها علماً (وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) أيضاً يكذّبون ، يعني ولَمّا يأتهم تأويل الآيات المتشابهة التي لم يحيطوا بِها أيضاً يكذّبون ، وهذا تقدير محذوف والشاهد على ذلك قوله تعالى (كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ) أي أسلافهم أيضاً كذّبوا رسلهم (فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) يعني المكذّبين السابقين كيف دمّرناهم وأهلكناهم .

40 – (وَمِنهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ) أي بالقرآن لأنّه يتّبع المحكم ويترك المتشابه (وَمِنْهُم مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ) لأنّه مفسد ومنافق فيتّبع المتشابه ليفتن الناس ويصدّهم عن الإيمان (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) فيعاقبهم على اعمالهم في الآخرة .

47 –  (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ) ضالّة (رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ) وبلّغ الرسالة (قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ) فننجي المؤمنين ونهلك الكافرين (وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) . ومِمّا يؤيّد هذا قوله تعالى في سورة القصص {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا} ، وقوله أيضاً في سورة الرعد {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} .

59 – (قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ) يعني الأنعام التي أنزلها من الجبل الذي خلق الله فيه آدم ، وذلك قوله تعالى في سورة الزمر {وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} ، (فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً) وذلك ما حرّموا من السائبة والبحيرة والوصيلة ونحوها (قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ) في ذلك التحريم والتحليل (أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ) أي تكذبون .

66 – لَمّا دعا الله المشركين إلى عبادته وإلى التوحيد أبَوا ولم ينقادوا فنزل قوله تعالى (أَلا إِنَّ لِلّهِ مَن فِي السَّمَاوَات) الأثيرية ، وهم الملائكة (وَمَن فِي الأَرْضِ) كلّها ، أي ومن في الكواكب السيّارة ، فهؤلاء يعبدونه وله يسجدون وهو غنيّ عنكم أيّها المشركون . ولَمّا نهاهم عن عبادة الأوثان والأصنام قالوا : إنّا وجدنا آباءنا كذلك يفعلون . فقال تعالى عنهم (وَمَا يَتَّبِعُ) الأبناء آباءهم (الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ شُرَكَاء) إلاّ ظنّاً منهم بأنّ آباءهم مصيبون بذلك الحقيقة غير ضالّين عن الحقّ ، وذلك قوله تعالى (إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ) يعني وما يتّبع الأبناء آباءهم في دينهم إلاّ ظنّاً منهم أنّهم على حقّ (وَإِنْ هُمْ) أي الآباء (إِلاَّ يَخْرُصُونَ) أي يكذبون على أبنائهم بأنّ الأصنام شفعاء عند الله .

71 – (وَاتْلُ) أي اقرأ (عَلَيْهِمْ) أي على مشركي مكّة (نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ) أي شقّ وعظم (عَلَيْكُم مَّقَامِي) بينكم (وَتَذْكِيرِي) أي وعظتي لكم (بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ) في جميع أموري وبه اعتصمت فلا تقدرون على قتلي لأنّ الله ناصري ومعيني (فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ) يعني جنّكم وشياطينكم الذين يغوونكم ، فكلمة "أمر" تطلَق على كلّ مخلوق أثيري ومن ذلك قوله تعالى في سورة الرعد {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ} أي يحفظونه من الأرواح الشرّيرة والجنّ والشياطين . (وَشُرَكَاءكُمْ) أي واجمعوا شركاءكم الذين تعبدونهم من دون الله (ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً) أي ثمّ لا تكن الجنّ مستورة عنكم بل تُظهر أنفسها لكم وتشاوروا فيما بينكم واعملوا مكيدة ضدّي إن قدرتم على ذلك (ثُمَّ اقْضُواْ) كيدكم (إِلَيَّ) أي انهوا كيدكم فيّ (وَلاَ تُنظِرُونِ) أي لا تنتظرون ، والمعنى لو اجتمعتم أنتم وجنّكم وشياطينكم وشركاؤكم ودبّرتم مكيدة ضدّي لن تقدروا على شيئ من ذلك ولن يصيبني إلاّ ما كتب الله لي . ونظيرها في سورة هود 

  {فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ . إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم ..الخ}

93 – (وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) أي هيّأنا لهم مكاناً وأنزلناهم فيه ، وهي أرض كنعان (مُبَوَّأَ صِدْقٍ) أي مكاناً خصباً1 صدقناهم فيه ما وعدناهم به من كثرة الأشجار والأثمار (وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ) أي من الأنعام والطيور (فَمَا اخْتَلَفُواْ) في دينهم وأشركوا بعبادة ربّهم (حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ) يعني بعد ما جاءهم العلم في التوراة وعلى ألسن أنبيائهم بأن يعبدوا الله وحده ولا يشركوا به شيئاً ، ولكنّهم اختلفوا بعد موت موسى فغيّروا دينهم وأشركوا بعبادة ربّهم ، وعبدوا البعليم وعشتاروث وغيرها (إِنَّ رَبَّكَ) يا محمّد (يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) من أمر دينهم .

---------------------------------------------------

1 تصفها التوراة بأنّها أرض تدرّ اللبن والعسل –                                       المراجع .  

 

94 – لَمّا نزل الوحي على النبيّ في بادئ الأمر ودعا قومه إلى الإسلام أبَوا أن يسلِموا وأخذوا يسخرون منه وقالوا : إنّ الذي جاءك بالوحي هو من الجنّ وليس ملاكاً ، ولو أراد الله أن يرسل رسولاً لأنزل ملائكةً ما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين . فرجع النبيّ وفي نفسه شكّ من ذلك وقد تصاغر في نفسه وقال : لو كان ما سمعته حقّاً وأنا رسول لآمن بي هؤلاء وصدّقوني . فنزلت عليه هذه الآية ليطمئنّ في نفسه ويثبت على دعواه ولا يتردّد (فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ) من الوحي (فَاسْأَلِ) اليهود (الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ) وقل لهم هل كان موسى ملَكاً نزل من السماء أم هو بشر مثلك ؟ وهل كانت الأنبياء الذين جاؤوا من بعده ملائكة نزلوا من السماء أم بشراً ؟ فإن قالوا لك أنّهم بشر مثلك فاعلم أنّك رسول فقم بواجبك وأنذر قومك والله يهدي من يشاء وليس عليك هداهم (لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ) وليس من الجنّ كما يزعمون (فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) أي من الشاكّين ، يعني لا تشكّ في نفسك ولا تتصاغر عن الرسالة فإنّ الله يختار لها من يشاء من عباده وقد اختارك  لها .

95 – (وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللّهِ) فتقول ربّما كان ذلك من الجنّ وليس ملَكاً (فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) فتخسر النبوّة وقد اختارك الله لَها .

96 – (إِنَّ) المشركين (الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) بالعذاب (لاَ يُؤْمِنُونَ) .

97 – (وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ) أي كلّ معجزة (حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ) إمّا في الدنيا بالقتل والأسر وإمّا في الآخرة في جهنّم .

   ولَمّا كثر عليه إنزال السور والآيات اطمأنّت نفسه وأيقن أنّه نبيّ ورسول إلى قريش فأخذ يدعو قومه إلى الإسلام بعزيمة وينذرهم بقوّة قلب ولا يلتفت إلى أقوالهم ولا يهتمّ بسخريتهم حتّى آمن كثير منهم فنزل قوله تعالى في سورة البقرة {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ ..الخ}

98 – (فَلَوْلاَ) أي فهلاّ (كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ) عند رؤية العذاب قبل إنزاله كما آمن قوم يونس (فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا) ولكن لم يؤمنوا عند رؤية العذاب بل كانوا يقولون سحاب مركوم وليس بعذاب , وقال آخرون يوم الظلّة قالوا عارض ممطرنا (إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ) رأوا العذاب مقبلاً عليهم (كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) أي إلى انقضاء آجالهم .

101 – لَمّا طلبت قريش المعجزة من النبيّ ليسلموا نزلت هذه الآية (قُلِ) لهم يا محمّد (انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) وفكّروا في صنعتها وإتقانِها وقولوا في أنفسكم مَن خلَقَها وأتقنَ صنعَها فهل أصنامكم أم الله فذلك أحسن معجزة وأكبر دليل على قدرة الله ووحدانيّته ، فالسماوات والأرض يريد بِها الكواكب السيّارة والأرض من جملتها (وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ) عنكم من شيء إذا جاءكم العذاب ، يعني إذا جاء العذاب حين تكذّبون بالمعجزة التي اقترحتم على محمّد بِها لن تدفع العذاب عنكم ولم تؤمنوا أنتم حين رؤيتها إذاً فما الفائدة من اقتراحكم هذا (وَالنُّذُرُ) أيضاً لا يقدرون على دفع العذاب عنكم ، يعني أنبياؤكم أيضاً لا يشفعون لكم إذا جاءكم العذاب ولا يقدرون على دفعه فيتركونكم ويذهبون (عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ) لا يؤمنون بالله ولا برسله .

102 – (فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ) العذاب ويكون مثلهم (مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ) لَمّا كذّبوا رسلهم فأهلكهم الله بالعذاب (قُلْ) لهم يا محمّد (فَانتَظِرُواْ) الآيات والمعجزات (إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ) وقوعها في آخر الزمان .

103 – (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ) معهم ، يعني إذا نزل العذاب بالأمّة المكذّبة ننجي الرسل والمؤمنين معهم ونهلك المكذّبين لهم (كَذَلِكَ) أمّتك يا محمّد (حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ) منهم إذا نزل عليهم عذاب .

 

تمّ بعون الله تفسير سورة يونس ويليها تفسير سورة هود

في 25 شوّال سنة 1383 هجرية المصادف 10/3/1964 ميلادية

 

الصفحة الرئيسية

الصفحة الأولى

سورة الفاتحة

سورة البقرة 1

سورة البقرة 2

سورة آل عمران

سورة النساء

سورة المائدة

سورة الأنعام

سورة الأعراف

سورة الأنفال

سورة التوبة

سورة هود

  

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

    Man after Death   An Hour with Ghosts   The Universe and the Quran   The Conflict between the Torah and the Quran   الخلاف بين التوراة و القرآن     الكون والقرآن   المتشابه من القرآن   ساعة قضيتها مع الأرواح